اعلن هنا  -  اعلن هنا  -  اعلن هنا  -  اعلن هنا  -  اعلن هنا  -  اعلن هنا  -  اعلن هنا  -  اعلن هنا  -  اعلن هنا  -  اعلن هنا  -  اعلن هنا  -  اعلن هنا     

 

سلسلة تفسير القرآن الكريم
منتديات Vpas
 سلسلة تفسير القرآن الكريم Jjjjjj10
منتديات Vpas
 سلسلة تفسير القرآن الكريم Jjjjjj10


منتديات Vpas , ارشفه , برامج ,دروس , عام , تطوير ,
 
الرئيسيةالموقعأحدث الصورالتسجيلدخول

 

  سلسلة تفسير القرآن الكريم

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
انتقل الى الصفحة : 1, 2, 3  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 9:56 pm

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Bsm



بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
سورة الفاتحة
سميت هذه السورة بالفاتحة; لأنه يفتتح بها القرآن العظيم, وتسمى المثاني;
لأنها تقرأ في كل ركعة, ولها أسماء أخر. أبتدئ قراءة القرآن باسم الله
مستعينا به, (اللهِ) علم على الرب -تبارك وتعالى- المعبود بحق دون سواه,
وهو أخص أسماء الله تعالى, ولا يسمى به غيره سبحانه. (الرَّحْمَنِ) ذي
الرحمة العامة الذي وسعت رحمته جميع الخلق, (الرَّحِيمِ) بالمؤمنين, وهما
اسمان من أسمائه تعالى، يتضمنان إثبات صفة الرحمة لله تعالى كما يليق
بجلاله.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
(الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) الثناء على الله بصفاته التي كلُّها
أوصاف كمال, وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، وفي ضمنه أَمْرٌ
لعباده أن يحمدوه, فهو المستحق له وحده, وهو سبحانه المنشئ للخلق, القائم
بأمورهم, المربي لجميع خلقه بنعمه, ولأوليائه بالإيمان والعمل الصالح.
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
(الرَّحْمَنِ) الذي وسعت رحمته جميع الخلق, (الرَّحِيمِ), بالمؤمنين, وهما اسمان من أسماء الله تعالى.
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
وهو سبحانه وحده مالك يوم القيامة, وهو يوم الجزاء على الأعمال. وفي قراءة
المسلم لهذه الآية في كل ركعة من صلواته تذكير له باليوم الآخر, وحثٌّ له
على الاستعداد بالعمل الصالح, والكف عن المعاصي والسيئات.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
إنا نخصك وحدك بالعبادة, ونستعين بك وحدك في جميع أمورنا, فالأمر كله
بيدك, لا يملك منه أحد مثقال ذرة. وفي هذه الآية دليل على أن العبد لا
يجوز له أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة كالدعاء والاستغاثة والذبح
والطواف إلا لله وحده, وفيها شفاء القلوب من داء التعلق بغير اله, ومن
أمراض الرياء والعجب, والكبرياء.
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
دُلَّنا, وأرشدنا, ووفقنا إلى الطريق المستقيم, وثبتنا عليه حتى نلقاك,
وهو الإسلام، الذي هو الطريق الواضح الموصل إلى رضوان الله وإلى جنته,
الذي دلّ عليه خاتم رسله وأنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم, فلا سبيل إلى
سعادة العبد إلا بالاستقامة عليه.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
طريق الذين أنعمت عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين, فهم
أهل الهداية والاستقامة, ولا تجعلنا ممن سلك طريق المغضوب عليهم, الذين
عرفوا الحق ولم يعملوا به, وهم اليهود, ومن كان على شاكلتهم, والضالين,
وهم الذين لم يهتدوا, فضلوا الطريق, وهم النصارى, ومن اتبع سنتهم. وفي هذا
الدعاء شفاء لقلب المسلم من مرض الجحود والجهل والضلال, ودلالة على أن
أعظم نعمة على الإطلاق هي نعمة الإسلام, فمن كان أعرف للحق وأتبع له, كان
أولى بالصراط المستقيم, ولا ريب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم
أولى الناس بذلك بعد الأنبياء عليهم السلام, فدلت الآية على فضلهم, وعظيم
منزلتهم, رضي الله عنهم. ويستحب للقارئ أن يقول في الصلاة بعد قراءة
الفاتحة: (آمين), ومعناها: اللهم استجب, وليست آية من سورة الفاتحة باتفاق
العلماء; ولهذا أجمعوا على عدم كتابتها في المصاحف.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 9:56 pm

سورة البقرة الآيات ( 50:1 )
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
هذه الحروف وغيرها من الحروف المقطَّعة في أوائل السور فيها إشارة إلى
إعجاز القرآن; فقد وقع به تحدي المشركين, فعجزوا عن معارضته, وهو مركَّب
من هذه الحروف التي تتكون منها لغة العرب. فدَلَّ عجز العرب عن الإتيان
بمثله -مع أنهم أفصح الناس- على أن القرآن وحي من الله.
ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
ذلك القرآن هو الكتاب العظيم الذي لا شَكَّ أنه من عند الله, فلا يصح أن
يرتاب فيه أحد لوضوحه, ينتفع به المتقون بالعلم النافع والعمل الصالح وهم
الذين يخافون الله, ويتبعون أحكامه.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)
وهم الذين يُصَدِّقون بالغيب الذي لا تدركه حواسُّهم ولا عقولهم وحدها;
لأنه لا يُعْرف إلا بوحي الله إلى رسله, مثل الإيمان بالملائكة, والجنة,
والنار, وغير ذلك مما أخبر الله به أو أخبر به رسوله، (والإيمان: كلمة
جامعة للإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره،
وتصديق الإقرار بالقول والعمل بالقلب واللسان والجوارح) وهم مع تصديقهم
بالغيب يحافظون على أداء الصلاة في مواقيتها أداءً صحيحًا وَفْق ما شرع
الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, ومما أعطيناهم من المال يخرجون صدقة
أموالهم الواجبة والمستحبة.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
والذين يُصَدِّقون بما أُنزل إليك أيها الرسول من القرآن, وبما أنزل إليك
من الحكمة, وهي السنة, وبكل ما أُنزل مِن قبلك على الرسل من كتب, كالتوراة
والإنجيل وغيرهما, ويُصَدِّقون بدار الحياة بعد الموت وما فيها من الحساب
والجزاء، تصديقا بقلوبهم يظهر على ألسنتهم وجوارحهم وخص يوم الآخرة; لأن
الإيمان به من أعظم البواعث على فعل الطاعات, واجتناب المحرمات, ومحاسبة
النفس.
أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (5)
أصحاب هذه الصفات يسيرون على نور من ربهم وبتوفيق مِن خالقهم وهاديهم, وهم
الفائزون الذين أدركوا ما طلبوا, ونَجَوا من شرِّ ما منه هربوا
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)
إن الذين جحدوا ما أُنزل إليك من ربك استكبارًا وطغيانًا, لن يقع منهم
الإيمان, سواء أخوَّفتهم وحذرتهم من عذاب الله, أم تركت ذلك؛ لإصرارهم على
باطلهم.
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
طبع الله على قلوب هؤلاء وعلى سمعهم, وجعل على أبصارهم غطاء; بسبب كفرهم
وعنادهم مِن بعد ما تبيَّن لهم الحق, فلم يوفقهم للهدى, ولهم عذاب شديد في
نار جهنم.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (Cool
ومن الناس فريق يتردد متحيِّرًا بين المؤمنين والكافرين, وهم المنافقون
الذين يقولون بألسنتهم: صدَّقْنَا بالله وباليوم الآخر, وهم في باطنهم
كاذبون لم يؤمنوا.
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
يعتقدون بجهلهم أنهم يخادعون الله والذين آمنوا بإظهارهم الإيمان وإضمارهم
الكفر, وما يخدعون إلا أنفسهم; لأن عاقبة خداعهم تعود عليهم. ومِن فرط
جهلهم لا يُحِسُّون بذلك; لفساد قلوبهم.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
في قلوبهم شكٌّ وفساد فابْتُلوا بالمعاصي الموجبة لعقوبتهم, فزادهم الله شكًا, ولهم عقوبة موجعة بسبب كذبهم ونفاقهم.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
وإذا نُصحوا ليكفُّوا عن الإفساد في الأرض بالكفر والمعاصي, وإفشاء أسرار
المؤمنين, وموالاة الكافرين, قالوا كذبًا وجدالا إنما نحن أهل الإصلاح.
أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
إنَّ هذا الذي يفعلونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد, لكنهم بسبب جهلهم وعنادهم لا يُحِسُّون.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ
كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا
يَعْلَمُونَ (13)
وإذا قيل للمنافقين: آمِنُوا -مثل إيمان الصحابة، وهو الإيمان بالقلب
واللسان والجوارح-, جادَلوا وقالوا: أَنُصَدِّق مثل تصديق ضعاف العقل
والرأي, فنكون نحن وهم في السَّفَهِ سواء؟ فردَّ الله عليهم بأن السَّفَهَ
مقصور عليهم, وهم لا يعلمون أن ما هم فيه هو الضلال والخسران.
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ
(14)
هؤلاء المنافقون إذا قابلوا المؤمنين قالوا: صدَّقنا بالإسلام مثلكم, وإذا
انصرفوا وذهبوا إلى زعمائهم الكفرة المتمردين على الله أكَّدوا لهم أنهم
على ملة الكفر لم يتركوها, وإنما كانوا يَسْتَخِفُّون بالمؤمنين, ويسخرون
منهم.
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
الله يستهزئ بهم ويُمهلهم; ليزدادوا ضلالا وحَيْرة وترددًا, ويجازيهم على استهزائهم بالمؤمنين.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
أولئك المنافقون باعوا أنفسهم في صفقة خاسرة, فأخذوا الكفر, وتركوا
الإيمان, فما كسبوا شيئًا, بل خَسِروا الهداية. وهذا هو الخسران المبين.
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا
حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا
يُبْصِرُونَ (17)
حال المنافقين الذين آمنوا -ظاهرًا لا باطنًا- برسالة محمد صلى الله عليه
وسلم, ثم كفروا, فصاروا يتخبطون في ظلماتِ ضلالهم وهم لا يشعرون, ولا أمل
لهم في الخروج منها, تُشْبه حالَ جماعة في ليلة مظلمة, وأوقد أحدهم نارًا
عظيمة للدفء والإضاءة, فلما سطعت النار وأنارت ما حوله, انطفأت وأعتمت,
فصار أصحابها في ظلمات لا يرون شيئًا, ولا يهتدون إلى طريق ولا مخرج.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
هم صُمٌّ عن سماع الحق سماع تدبر, بُكْم عن النطق به, عُمْي عن إبصار نور
الهداية; لذلك لا يستطيعون الرجوع إلى الإيمان الذي تركوه, واستعاضوا عنه
بالضلال.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ
يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ
الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
أو تُشْبه حالُ فريق آخر من المنافقين يظهر لهم الحق تارة, ويشكون فيه
تارة أخرى, حالَ جماعة يمشون في العراء, فينصب عليهم مطر شديد, تصاحبه
ظلمات بعضها فوق بعض, مع قصف الرعد, ولمعان البرق, والصواعق المحرقة, التي
تجعلهم من شدة الهول يضعون أصابعهم في آذانهم; خوفًا من الهلاك. والله
تعالى محيط بالكافرين لا يفوتونه ولا يعجزونه.
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ
مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (20)
يقارب البرق -من شدة لمعانه- أن يسلب أبصارهم, ومع ذلك فكلَّما أضاء لهم
مشَوْا في ضوئه, وإذا ذهب أظلم الطريق عليهم فيقفون في أماكنهم. ولولا
إمهال الله لهم لسلب سمعهم وأبصارهم, وهو قادر على ذلك في كل وقتٍ, إنه
على كل شيء قدير.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
نداء من الله للبشر جميعًا: أن اعبدوا الله الذي ربَّاكم بنعمه, وخافوه
ولا تخالفوا دينه; فقد أوجدكم من العدم, وأوجد الذين من قبلكم; لتكونوا من
المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ
مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
ربكم الذي جعل لكم الأرض بساطًا; لتسهل حياتكم عليها, والسماء محكمة
البناء, وأنزل المطر من السحاب فأخرج لكم به من ألوان الثمرات وأنواع
النبات رزقًا لكم, فلا تجعلوا لله نظراء في العبادة, وأنتم تعلمون تفرُّده
بالخلق والرزق, واستحقاقِه العبودية.
وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنتُمْ صَادِقِينَ (23)
وإن كنتم -أيها الكافرون المعاندون- في شَكٍّ من القرآن الذي نَزَّلناه
على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم, وتزعمون أنه ليس من عند الله, فهاتوا
سورة تماثل سورة من القرآن, واستعينوا بمن تقدرون عليه مِن أعوانكم, إن
كنتم صادقين في دعواكم.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
فإن عجَزتم الآن -وستعجزون مستقبلا لا محالة- فاتقوا النار بالإيمان
بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى. هذه النار التي حَطَبُها
الناس والحجارة, أُعِدَّتْ للكافرين بالله ورسله
وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا
مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ
وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (25)
وأخبر -أيها الرسول- أهل الإيمان والعمل الصالح خبرًا يملؤهم سرورًا, بأن
لهم في الآخرة حدائق عجيبة, تجري الأنهار تحت قصورها العالية وأشجارها
الظليلة. كلَّما رزقهم الله فيها نوعًا من الفاكهة اللذيذة قالوا: قد
رَزَقَنا الله هذا النوع من قبل, فإذا ذاقوه وجدوه شيئًا جديدًا في طعمه
ولذته, وإن تشابه مع سابقه في اللون والمنظر والاسم. ولهم في الجنَّات
زوجات مطهَّرات من كل ألوان الدنس الحسيِّ كالبول والحيض, والمعنوي كالكذب
وسوء الخُلُق. وهم في الجنة ونعيمها دائمون, لا يموتون فيها ولا يخرجون
منها.
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً
وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26)
إن الله تعالى لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئًا ما, قلَّ أو كثر, ولو كان
تمثيلا بأصغر شيء, كالبعوضة والذباب ونحو ذلك, مما ضربه الله مثلا لِعَجْز
كل ما يُعْبَد من دون الله. فأما المؤمنون فيعلمون حكمة الله في التمثيل
بالصغير والكبير من خلقه, وأما الكفار فَيَسْخرون ويقولون: ما مراد الله
مِن ضَرْب المثل بهذه الحشرات الحقيرة؟ ويجيبهم الله بأن المراد هو
الاختبار, وتمييز المؤمن من الكافر; لذلك يصرف الله بهذا المثل ناسًا
كثيرين عن الحق لسخريتهم منه, ويوفق به غيرهم إلى مزيد من الإيمان
والهداية. والله تعالى لا يظلم أحدًا; لأنه لا يَصْرِف عن الحق إلا
الخارجين عن طاعته.
الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (27)
الذين ينكثون عهد الله الذي أخذه عليهم بالتوحيد والطاعة, وقد أكَّده
بإرسال الرسل, وإنزال الكتب, ويخالفون دين الله كقطع الأرحام ونشر الفساد
في الأرض, أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
كيف تنكرون -أيُّها المشركون- وحدانية الله تعالى, وتشركون به غيره في
العبادة مع البرهان القاطع عليها في أنفسكم؟ فلقد كنتم أمواتًا فأوجدكم
ونفخ فيكم الحياة, ثم يميتكم بعد انقضاء آجالكم التي حددها لكم, ثم يعيدكم
أحياء يوم البعث, ثم إليه ترجعون للحساب والجزاء.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (29)
اللهُ وحده الذي خَلَق لأجلكم كل ما في الأرض من النِّعم التي تنتفعون
بها, ثم قصد إلى خلق السموات, فسوَّاهنَّ سبع سموات, وهو بكل شيء عليم.
فعِلْمُه -سبحانه- محيط بجميع ما خلق
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي
أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30)
واذكر -أيها الرسول- للناس حين قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض قومًا
يخلف بعضهم بعضًا لعمارتها. قالت: يا ربَّنا علِّمْنا وأَرْشِدْنا ما
الحكمة في خلق هؤلاء, مع أنَّ من شأنهم الإفساد في الأرض واراقة الدماء
ظلما وعدوانًا ونحن طوع أمرك, ننزِّهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك،
ونمجِّدك بكل صفات الكمال والجلال؟ قال الله لهم: إني أعلم ما لا تعلمون
من الحكمة البالغة في خلقهم
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ
صَادِقِينَ (31)
وبيانًا لفضل آدم عليه السلام علَّمه الله أسماء الأشياء كلها, ثم عرض
مسمياتها على الملائكة قائلا لهم: أخبروني بأسماء هؤلاء الموجودات, إن
كنتم صادقين في أنكم أَوْلى بالاستخلاف في الأرض منهم
قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
قالت الملائكة: ننزِّهك يا ربَّنا, ليس لنا علم إلا ما علَّمتنا إياه. إنك أنت وحدك العليم بشئون خلقك, الحكيم في تدبيرك.
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ
تَكْتُمُونَ (33)
قال الله: يا آدم أخبرهم بأسماء هذه الأشياء التي عجَزوا عن معرفتها. فلما
أخبرهم آدم بها, قال الله للملائكة: لقد أخبرتكم أني أعلم ما خفي عنكم في
السموات والأرض, وأعلم ما تظهرونه وما تخفونه.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (34)
واذكر -أيها الرسول- للناس تكريم الله لآدم حين قال سبحانه للملائكة:
اسجدوا لآدم إكرامًا له وإظهارًا لفضله, فأطاعوا جميعًا إلا إبليس امتنع
عن السجود تكبرًا وحسدًا, فصار من الجاحدين بالله, العاصين لأمره.
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا
رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَلا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ (35)
وقال الله: يا آدم اسكن أنت وزوجك حواء الجنة, وتمتعا بثمارها تمتعًا
هنيئًا واسعًا في أي مكان تشاءان فيها, ولا تقربا هذه الشجرة حتى لا تقعا
في المعصية, فتصيرا من المتجاوزين أمر الله.
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
فأوقعهما الشيطان في الخطيئة: بأنْ وسوس لهما حتى أكلا من الشجرة, فتسبب
في إخراجهما من الجنة ونعيمها. وقال الله لهم: اهبطوا إلى الأرض, يعادي
بعضكم بعضًا -أي آدم وحواء والشيطان- ولكم في الأرض استقرار وإقامة,
وانتفاع بما فيها إلى وقت انتهاء آجالكم.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
فتلقى آدمُ بالقبول كلماتٍ, ألهمه الله إياها توبة واستغفارًا, وهي قوله
تعالى: (ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا
وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِن الخَاسِرِينَ) فتاب الله عليه, وغفر له
ذنبه إنه تعالى هو التواب لمن تاب مِن عباده, الرحيم بهم
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي
هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (38)
قال الله لهم: اهبطوا من الجنة جميعًا, وسيأتيكم أنتم وذرياتكم المتعاقبة
ما فيه هدايتكم إلى الحق. فمن عمل بها فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من
أمر الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
والذين جحدوا وكذبوا بآياتنا المتلوة ودلائل توحيدنا, أولئك الذين يلازمون النار, هم فيها خالدون, لا يخرجون منها.
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ (40)
يا ذرية يعقوب اذكروا نعمي الكثيرة عليكم, واشكروا لي, وأتموا وصيتي لكم:
بأن تؤمنوا بكتبي ورسلي جميعًا, وتعملوا بشرائعي. فإن فعلتم ذلك أُتمم لكم
ما وعدتكم به من الرحمة في الدنيا, والنجاة في الآخرة. وإيَّايَ -وحدي-
فخافوني, واحذروا نقمتي إن نقضتم العهد, وكفرتم بي
وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا
أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
وآمنوا- يا بني إسرائيل- بالقرآن الذي أنزَلْتُه على محمد نبي الله
ورسوله, موافقًا لما تعلمونه من صحيح التوراة, ولا تكونوا أول فريق من أهل
الكتاب يكفر به, ولا تستبدلوا بآياتي ثمنًا قليلا من حطام الدنيا الزائل,
وإياي وحدي فاعملوا بطاعتي واتركوا معصيتي.
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
ولا تخلِطوا الحق الذي بيَّنته لكم بالباطل الذي افتريتموه, واحذروا كتمان
الحق الصريح من صفة نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم التي في
كتبكم, وأنتم تجدونها مكتوبة عندكم، فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
وادخلوا في دين الإسلام: بأن تقيموا الصلاة على الوجه الصحيح, كما جاء بها
نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وتؤدوا الزكاة المفروضة على
الوجه المشروع, وتكونوا مع الراكعين من أمته صلى الله عليه وسلم.
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)
ما أقبح حالَكم وحالَ علمائكم حين تأمرون الناس بعمل الخيرات, وتتركون
أنفسكم, فلا تأمرونها بالخير العظيم, وهو الإسلام, وأنتم تقرءون التوراة,
التي فيها صفات محمد صلى الله عليه وسلم, ووجوب الإيمان به!! أفلا
تستعملون عقولكم استعمالا صحيحًا
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ
عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو
رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
واستعينوا في كل أموركم بالصبر بجميع أنواعه, وكذلك الصلاة. وإنها لشاقة
إلا على الخاشعين الذين يخشون الله ويرجون ما عنده, ويوقنون أنهم ملاقو
ربِّهم جلَّ وعلا بعد الموت, وأنهم إليه راجعون يوم القيامة للحساب
والجزاء.
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
يا ذرية يعقوب تذكَّروا نعمي الكثيرة عليكم, واشكروا لي عليها, وتذكروا
أني فَضَّلْتكم على عالَمي زمانكم بكثرة الأنبياء, والكتب المنزَّلة
كالتوراة والإنجيل
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ
مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (48)
وخافوا يوم القيامة, يوم لا يغني أحد عن أحد شيئًا, ولا يقبل الله شفاعة
في الكافرين, ولا يقبل منهم فدية, ولو كانت أموال الأرض جميعًا, ولا يملك
أحد في هذا اليوم أن يتقدم لنصرتهم وإنقاذهم من العذاب.
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي
ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
واذكروا نعمتنا عليكم حين أنقذناكم من بطش فرعون وأتباعه, وهم يُذيقونكم
أشدَّ العذاب, فيُكثِرون مِن ذَبْح أبنائكم, وترك بناتكم للخدمة
والامتهان. وفي ذلك اختبار لكم من ربكم, وفي إنجائكم منه نعمة عظيمة,
تستوجب شكر الله تعالى في كل عصوركم وأجيالكم
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (50)
واذكروا نعمتنا عليكم, حين فَصَلْنا بسببكم البحر, وجعلنا فيه طرقًا
يابسةً, فعبرتم, وأنقذناكم من فرعون وجنوده, ومن الهلاك في الماء. فلما
دخل فرعون وجنوده طرقكم أهلكناهم في الماء أمام أعينكم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 9:57 pm

سورة البقرة الآيات ( 100:51 )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
واذكروا نعمتنا عليكم: حين واعدنا موسى أربعين ليلة لإنزال التوراة هدايةً
ونورًا لكم, فإذا بكم تنتهزون فرصة غيابه هذه المدة القليلة, وتجعلون
العجل الذي صنعتموه بأيديكم معبودًا لكم من دون الله - وهذا أشنع الكفر
بالله- وأنتم ظالمون باتخاذكم العجل إلهًا.
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
ثمَّ تجاوزنا عن هذه الفعلة المنكرة, وقَبِلْنَا توبتكم بعد عودة موسى;
رجاءَ أن تشكروا الله على نعمه وأفضاله, ولا تتمادوا في الكفر والطغيان.
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
واذكروا نعمتنا عليكم حين أعطينا موسى الكتاب الفارق بين الحق والباطل -وهو التوراة-; لكي تهتدوا من الضلالة
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ
فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
واذكروا نعمتنا عليكم حين قال موسى لقومه: إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم
العجل إلهًا, فتوبوا إلى خالقكم: بأن يَقْتل بعضكم بعضًا, وهذا خير لكم
عند خالقكم من الخلود الأبدي في النار, فامتثلتم ذلك, فمنَّ الله عليكم
بقَبول توبتكم. إنه تعالى هو التواب لمن تاب مِن عباده, الرحيم بهم.
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ
جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (55)
واذكروا إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك في أن الكلام الذي نسمعه منك هو كلام
الله, حتى نرى الله عِيَانًا, فنزلت نار من السماء رأيتموها بأعينكم,
فقَتَلَتْكم بسبب ذنوبكم, وجُرْأتكم على الله تعالى.
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
ثم أحييناكم مِن بعد موتكم بالصاعقة; لتشكروا نعمة الله عليكم, فهذا الموت عقوبة لهم, ثم بعثهم الله لاستيفاء آجالهم.
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا
وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
واذكروا نعمتنا عليكم حين كنتم تتيهون في الأرض; إذ جعلنا السحاب مظللا
عليكم من حَرِّ الشمس, وأنزلنا عليكم المنَّ, وهو شيء يشبه الصَّمغ طعمه
كالعسل, وأنزلنا عليكم السَّلوى وهو طير يشبه السُّمانَى, وقلنا لكم: كلوا
من طيِّبات ما رزقناكم, ولا تخالفوا دينكم, فلم تمتثلوا. وما ظلمونا
بكفران النعم, ولكن كانوا أنفسهم يظلمون; لأن عاقبة الظلم عائدة عليهم
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ
شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ
نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
واذكروا نعمتنا عليكم حين قلنا: ادخلوا مدينة "بيت المقدس" فكلوا من
طيباتها في أي مكان منها أكلا هنيئًا, وكونوا في دخولكم خاضعين لله,
ذليلين له, وقولوا: ربَّنا ضَعْ عنَّا ذنوبنا, نستجب لكم ونعف ونسترها
عليكم, وسنزيد المحسنين بأعمالهم خيرًا وثوابًا
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
فبدَّل الجائرون الضالون من بني إسرائيل قول الله, وحرَّفوا القول والفعل
جميعًا, إذ دخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعرة, واستهزءوا بدين
الله. فأنزل الله عليهم عذابًا من السماء; بسبب تمردهم وخروجهم عن طاعة
الله.
وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ
كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا
تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
واذكروا نعمتنا عليكم -وأنتم عطاش في التِّيْه- حين دعانا موسى -بضراعة-
أن نسقي قومه, فقلنا: اضرب بعصاك الحجر, فضرب, فانفجرت منه اثنتا عشرة
عينًا, بعدد القبائل, مع إعلام كل قبيلة بالعين الخاصة بها حتى لا
يتنازعوا. وقلنا لهم: كلوا واشربوا من رزق الله, ولا تسعوا في الأرض
مفسدين.
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ يُخْرِجْ لَنَا
مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا
وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى
بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ
مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا
وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
واذكروا حين أنزلنا عليكم الطعام الحلو, والطير الشهي, فبطِرتم النعمة
كعادتكم, وأصابكم الضيق والملل, فقلتم: يا موسى لن نصبر على طعام ثابت لا
يتغير مع الأيام, فادع لنا ربك يخرج لنا من نبات الأرض طعامًا من البقول
والخُضَر, والقثاء والحبوب التي تؤكل, والعدس, والبصل. قال موسى -مستنكرًا
عليهم-: أتطلبون هذه الأطعمة التي هي أقل قدرًا, وتتركون هذا الرزق النافع
الذي اختاره الله لكم؟ اهبطوا من هذه البادية إلى أي مدينة, تجدوا ما
اشتهيتم كثيرًا في الحقول والأسواق. ولما هبطوا تبيَّن لهم أنهم
يُقَدِّمون اختيارهم -في كل موطن- على اختيار الله, ويُؤْثِرون شهواتهم
على ما اختاره الله لهم; لذلك لزمتهم صِفَةُ الذل وفقر النفوس, وانصرفوا
ورجعوا بغضب من الله; لإعراضهم عن دين الله, ولأنهم كانوا يكفرون بآيات
الله ويقتلون النبيين ظلمًا وعدوانًا; وذلك بسبب عصيانهم وتجاوزهم حدود
ربهم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحاً وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
إن المؤمنين من هذه الأمة, الذين صدَّقوا بالله ورسله, وعملوا بشرعه,
والذين كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من الأمم السالفة من
اليهود, والنصارى, والصابئين- وهم قوم باقون على فطرتهم, ولا دين مقرر لهم
يتبعونه- هؤلاء جميعًا إذا صدَّقوا بالله تصديقًا صحيحًا خالصًا, وبيوم
البعث والجزاء, وعملوا عملا مرضيًا عند الله, فثوابهم ثابت لهم عند ربهم,
ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم
من أمور الدنيا. وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين
والمرسلين إلى الناس كافة, فلا يقبل الله من أحد دينًا غير ما جاء به, وهو
الإسلام.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا
مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(63)
واذكروا -يا بني إسرائيل- حين أَخَذْنا العهد المؤكَّد منكم بالإيمان
بالله وإفراده بالعبادة, ورفعنا جبل الطور فوقكم, وقلنا لكم: خذوا الكتاب
الذي أعطيناكم بجدٍ واجتهاد واحفظوه, وإلا أطبقنا عليكم الجبل، ولا تنسوا
التوراة قولا وعملا كي تتقوني وتخافوا عقابي.
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ (64)
ثم خالفتم وعصيتم مرة أخرى, بعد أَخْذِ الميثاق ورَفْع الجبل كشأنكم
دائمًا. فلولا فَضْلُ الله عليكم ورحمته بالتوبة, والتجاوز عن خطاياكم,
لصرتم من الخاسرين في الدنيا والآخرة.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
ولقد علمتم -يا معشر اليهود- ما حلَّ من البأس بأسلافكم من أهل القرية
التي عصت الله، فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت، فاحتالوا لاصطياد السمك
في يوم السبت ، بوضع الشِّباك وحفر البِرَك، ثم اصطادوا السمك يوم الأحد
حيلة إلى المحرم، فلما فعلوا ذلك، مسخهم الله قردة منبوذين.
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
فجعلنا هذه القرية عبرة لمن بحضرتها من القرى, يبلغهم خبرها وما حلَّ بها,
وعبرة لمن يعمل بعدها مثل تلك الذُّنوب, وجعلناها تذكرة للصالحين; ليعلموا
أنهم على الحق, فيثبتوا عليه.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ
بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ (67)
واذكروا يا بني إسرائيل جناية أسلافكم, وكثرة تعنتهم وجدالهم لموسى عليه
الصلاة والسلام, حين قال لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة, فقالوا
-مستكبرين-: أتجعلنا موضعًا للسخرية والاستخفاف؟ فردَّ عليهم موسى بقوله:
أستجير بالله أن أكون من المستهزئين.
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ
فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
قالوا: ادع لنا ربَّك يوضح لنا صفة هذه البقرة, فأجابهم: إن الله يقول
لكم: صفتها ألا تكون مسنَّة هَرِمة, ولا صغيرة فَتِيَّة, وإنما هي متوسطة
بينهما, فسارِعوا إلى امتثال أمر ربكم.
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ (69)
فعادوا إلى جدالهم قائلين: ادع لنا ربك يوضح لنا لونها. قال: إنه يقول: إنها بقرة صفراء شديدة الصُّفْرة, تَسُرُّ مَن ينظر إليها.
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ
تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
قال بنو إسرائيل لموسى: ادع لنا ربك يوضح لنا صفات أخرى غير ما سبق; لأن
البقر -بهذه الصفات- كثير فاشْتَبَهَ علينا ماذا نختار؟ وإننا -إن شاء
الله- لمهتدون إلى البقرة المأمور بذبحها.
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ
وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ
جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قال لهم موسى: إن الله يقول: إنها بقرة غير مذللة للعمل في حراثة الأرض
للزراعة, وغير معدة للسقي من الساقية, وخالية من العيوب جميعها, وليس فيها
علامة من لون غير لون جلدها. قالوا: الآن جئت بحقيقة وصف البقرة, فاضطروا
إلى ذبحها بعد طول المراوغة, وقد قاربوا ألا يفعلوا ذلك لعنادهم. وهكذا
شددوا فشدَّد الله عليهم
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
واذكروا إذ قتلتم نفسًا فتنازعتم بشأنها, كلٌّ يدفع عن نفسه تهمة القتل, والله مخرج ما كنتم تخفون مِن قَتْل القتيل.
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
فقلنا: اضربوا القتيل بجزء من هذه البقرة المذبوحة, فإن الله سيبعثه حيًا,
ويخبركم عن قاتله. فضربوه ببعضها فأحياه الله وأخبر بقاتله. كذلك يُحيي
الله الموتى يوم القيامة, ويريكم- يا بني إسرائيل- معجزاته الدالة على
كمال قدرته تعالى; لكي تتفكروا بعقولكم, فتمتنعوا عن معاصيه.
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ
الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
ولكنكم لم تنتفعوا بذلك; إذ بعد كل هذه المعجزات الخارقة اشتدت قلوبكم
وغلظت, فلم يَنْفُذ إليها خير, ولم تَلِنْ أمام الآيات الباهرة التي
أريتكموها, حتى صارت قلوبكم مثل الحجارة الصمَّاء, بل هي أشد منها غلظة;
لأن من الحجارة ما يتسع وينفرج حتى تنصبَّ منه المياه صبًا, فتصير أنهارًا
جاريةً, ومن الحجارة ما يتصدع فينشق, فتخرج منه العيون والينابيع, ومن
الحجارة ما يسقط من أعالي الجبال مِن خشية الله تعالى وتعظيمه. وما الله
بغافل عما تعملون.
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
أيها المسلمون أنسيتم أفعال بني إسرائيل, فطمعت نفوسكم أن يصدِّق اليهودُ
بدينكم؟ وقد كان علماؤهم يسمعون كلام الله من التوراة, ثم يحرفونه
بِصَرْفِه إلى غير معناه الصحيح بعد ما عقلوا حقيقته, أو بتحريف ألفاظه,
وهم يعلمون أنهم يحرفون كلام رب العالمين عمدًا وكذبًا
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76)
هؤلاء اليهود إذا لقوا الذين آمنوا قالوا بلسانهم: آمنَّا بدينكم ورسولكم
المبشَّر به في التوراة, وإذا خلا بعض هؤلاء المنافقين من اليهود إلى بعض
قالوا في إنكار: أتحدِّثون المؤمنين بما بيَّن الله لكم في التوراة من أمر
محمد; لتكون لهم الحجة عليكم عند ربكم يوم القيامة؟ أفلا تفقهون فتحذروا؟
أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
أيفعلون كلَّ هذه الجرائم, ولا يعلمون أن الله يعلم جميع ما يخفونه وما يظهرونه؟
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)
ومن اليهود جماعة يجهلون القراءة والكتابة, ولا يعلمون التوراة وما فيها
من صفات نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وما عندهم من ذلك إلا
أكاذيبُ وظنون فاسدة.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
يَكْسِبُونَ (79)
فهلاك ووعيد شديد لأحبار السوء من اليهود الذين يكتبون الكتاب بأيديهم, ثم
يقولون: هذا من عند الله وهو مخالف لما أنزل الله على نبيِّه موسى عليه
الصلاة والسلام; ليأخذوا في مقابل هذا عرض الدنيا. فلهم عقوبة مهلكة بسبب
كتابتهم هذا الباطل بأيديهم, ولهم عقوبة مهلكة بسبب ما يأخذونه في المقابل
من المال الحرام, كالرشوة وغيرها.
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ
أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ
أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80)
وقال بنو إسرائيل: لن تصيبنا النار في الآخرة إلا أيامًا قليلة العدد. قل
لهم -أيها الرسول مبطلا دعواهم-: أعندكم عهد من الله بهذا, فإن الله لا
يخلف عهده؟ بل إنكم تقولون على الله ما لا تعلمون بافترائكم الكذب.
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
فحُكْمُ الله ثابت: أن من ارتكب الآثام حتى جَرَّته إلى الكفر, واستولت
عليه ذنوبه مِن جميع جوانبه وهذا لا يكون إلا فيمن أشرك بالله, فالمشركون
والكفار هم الذين يلازمون نار جهنم ملازمة دائمةً لا تنقطع.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
وحكم الله الثابتُ في مقابل هذا: أنَّ الذين صدَّقوا بالله ورسله تصديقًا
خالصًا, وعملوا الأعمال المتفقة مع شريعة الله التي أوحاها إلى رسله,
هؤلاء يلازمون الجنة في الآخرة ملازمةً دائمةً لا تنقطع.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ
اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ
وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
واذكروا يا بني إسرائيل حين أخَذْنا عليكم عهدًا مؤكدًا: بأن تعبدوا الله
وحده لا شريك له, وأن تحسنوا للوالدين, وللأقربين, وللأولاد الذين مات
آباؤهم وهم دون بلوغ الحلم, وللمساكين, وأن تقولوا للناس أطيب الكلام, مع
أداء الصلاة وإيتاء الزكاة, ثم أَعْرَضْتم ونقضتم العهد -إلا قليلا منكم
ثبت عليه- وأنتم مستمرون في إعراضكم.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا
تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ (84)
واذكروا -يا بني إسرائيل- حين أَخَذْنا عليكم عهدًا مؤكدًا في التوراة:
يحرم سفك بعضكم دم بعض, وإخراج بعضكم بعضًا من دياركم, ثم اعترفتم بذلك,
وأنتم تشهدون على صحته.
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً
مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ
مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ
إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (85)
ثم أنتم يا هؤلاء يقتل بعضكم بعضًا, ويُخرج بعضكم بعضًا من ديارهم,
ويَتَقَوَّى كل فريق منكم على إخوانه بالأعداء بغيًا وعدوانًا. وأن يأتوكم
أسارى في يد الأعداء سعيتم في تحريرهم من الأسر, بدفع الفدية, مع أنه محرم
عليكم إخراجهم من ديارهم. ما أقبح ما تفعلون حين تؤمنون ببعض أحكام
التوراة وتكفرون ببعضها! فليس جزاء مَن يفعل ذلك منكم إلا ذُلا وفضيحة في
الدنيا. ويوم القيامة يردُّهم الله إلى أفظع العذاب في النار. وما الله
بغافل عما تعملون.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (86)
أولئك هم الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة, فلا يخفف عنهم العذاب, وليس لهم ناصر ينصرهم مِن عذاب الله.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ
بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا
لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ
وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)
ولقد أعطينا موسى التوراة, وأتبعناه برسل من بني إسرائيل, وأعطينا عيسى
ابن مريم المعجزات الواضحات, وقوَّيناه بجبريل عليه السلام. أفكلما جاءكم
رسول بوحي من عند الله لا يوافق أهواءكم, استعليتم عليه, فكذَّبتم فريقًا
وتقتلون فريقًا؟
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88)
وقال بنو إسرائيل لنبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قلوبنا
مغطاة, لا يَنْفُذ إليها قولك. وليس الأمر كما ادَّعَوْا, بل قلوبهم
ملعونة, مطبوع عليها, وهم مطرودون من رحمة الله بسبب جحودهم, فلا يؤمنون
إلا إيمانًا قليلا لا ينفعهم
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا
جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ (89)
وحين جاءهم القرأن من عند الله مصدقا لما معهم من التوراة جحدوه, وأنكروا
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, وكانوا قبل بعثته يستنصرون به على مشركي
العرب, ويقولون: قَرُبَ مبعث نبيِّ آخرِ الزمان, وسنتبعه ونقاتلكم معه.
فلمَّا جاءهم الرسول الذي عرفوا صفاتِه وصِدْقَه كفروا به وكذبوه. فلعنةُ
الله على كل مَن كفر بنبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وكتابه
الذي أوحاه الله إليه.
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ
اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا
بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
قَبُحَ ما اختاره بنو إسرائيل لأنفسهم; إذ استبدلوا الكفر بالإيمان ظلمًا
وحسدًا لإنزال الله من فضله القرآن على نبي الله ورسوله محمد صلى الله
عليه وسلم, فرجعوا بغضب من الله عليهم بسبب جحودهم بالنبي محمد صلى الله
عليه وسلم, بعد غضبه عليهم بسبب تحريفهم التوراة. وللجاحدين نبوَّة محمد
صلى الله عليه وسلم عذابٌ يذلُّهم ويخزيهم.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ
بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ
مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
وإذا قال بعض المسلمين لليهود: صدِّقوا بما أنزل الله من القرآن, قالوا:
نحن نصدِّق بما أنزل الله على أنبيائنا, ويجحدون ما أنزل الله بعد ذلك,
وهو الحق مصدقًا لما معهم. فلو كانوا يؤمنون بكتبهم حقًا لآمنوا بالقرآن
الذي صدَّقها. قل لهم -يا محمد-: إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم,
فلماذا قتلتم أنبياء الله مِن قبل؟
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
ولقد جاءكم نبي الله موسى بالمعجزات الواضحات الدالة على صدقه, كالطوفان
والجراد والقُمَّل والضفادع, وغير ذلك مما ذكره الله في القرآن العظيم,
ومع ذلك اتخذتم العجل معبودًا, بعد ذهاب موسى إلى ميقات ربه, وأنتم
متجاوزون حدود الله.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا
مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
واذكروا حين أَخَذْنا عليكم عهدًا مؤكدًا بقَبول ما جاءكم به موسى من
التوراة, فنقضتم العهد, فرفعنا جبل الطور فوق رؤوسكم, وقلنا لكم: خذوا ما
آتيناكم بجدٍّ, واسمعوا وأطيعوا, وإلا أسقطنا الجبل عليكم, فقلتم: سمعنا
قولك وعصينا أمرك; لأن عبادة العجل قد امتزجت بقلوبكم بسبب تماديكم في
الكفر. قل لهم -أيها الرسول-: قَبُحَ ما يأمركم به إيمانكم من الكفر
والضلال, إن كنتم مصدِّقين بما أنزل الله عليكم.
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً
مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (94)
قل -أيها الرسول- لليهود الذين يدَّعون أن الجنة خاصة بهم; لزعمهم أنهم
أولياء الله من دون الناس, وأنهم أبناؤه وأحباؤه: إن كان الأمر كذلك
فادْعُوا على الكاذبين منكم أو من غيركم بالموت, إن كنتم صادقين في دعواكم
هذه.
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
ولن يفعلوا ذلك أبدًا; لما يعرفونه من صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم
ومن كذبهم وافترائهم, وبسبب ما ارتكبوه من الكفر والعصيان, المؤَدِّيَيْن
إلى حرمانهم من الجنة ودخول النار. والله تعالى عليم بالظالمين من عباده,
وسيجازيهم على ذلك.
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ (96)
ولتعلمَنَّ -أيها الرسول- أن اليهود أشد الناس رغبة في طول الحياة أيًّا
كانت هذه الحياة من الذلَّة والمهانة, بل تزيد رغبتهم في طول الحياة على
رغبات المشركين. يتمنى اليهودي أن يعيش ألف سنة, ولا يُبْعده هذا العمر
الطويل إن حصل من عذاب الله. والله تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم
وسيجازيهم عليها بما يستحقون من العذاب.
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
قل-أيها الرسول- لليهود حين قالوا: إن جبريل هو عدونا من الملائكة: من كان
عدوًا لجبريل فإنه نزَّل القرآن على قلبك بإذن الله تعالى مصدِّقًا لما
سبقه من كتب الله, وهاديًا إلى الحق, ومبشرًا للمصدِّقين به بكل خير في
الدنيا والآخرة.
مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
من عادى الله وملائكته، ورسله من الملائكة أو البشر، وبخاصة المَلَكان
جبريلُ وميكالُ؛ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم، وميكال وليُّهم ،
فأعلمهم الله أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى الآخر، وعادى الله أيضًا،
فإن الله عدو للجاحدين ما أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ (99)
ولقد أنزلنا إليك-أيها الرسول- آيات بينات واضحات تدل على أنّك رسول من
الله صدقا وحقا، وما ينكر تلك الآيات إلا الخارجون عن دين الله.
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)
ما أقبح حال بني إسرائيل في نقضهم للعهود!! فكلما عاهدوا عهدًا طرح ذلك
العهد فريق منهم, ونقضوه, فتراهم يُبْرِمون العهد اليوم وينقضونه غدًا, بل
أكثرهم لا يصدِّقون بما جاء به نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 9:57 pm

سورة البقرة الآيات ( 150:101 )


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ
وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ
بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا
يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا
لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
واتبع اليهود ما تُحَدِّث الشياطينُ به السحرةَ على عهد ملك سليمان بن
داود. وما كفر سليمان وما تَعَلَّم السِّحر, ولكنَّ الشياطين هم الذين
كفروا بالله حين علَّموا الناس السحر; إفسادًا لدينهم. وكذلك اتبع اليهود
السِّحر الذي أُنزل على الملَكَين هاروت وماروت, بأرض "بابل" في "العراق";
امتحانًا وابتلاء من الله لعباده, وما يعلِّم الملكان من أحد حتى ينصحاه
ويحذِّراه من تعلم السحر, ويقولا له: لا تكفر بتعلم السِّحر وطاعة
الشياطين. فيتعلم الناس من الملكين ما يُحْدِثون به الكراهية بين الزوجين
حتى يتفرقا. ولا يستطيع السحرة أن يضروا به أحدًا إلا بإذن الله وقضائه.
وما يتعلم السحرة إلا شرًا يضرهم ولا ينفعهم, وقد نقلته الشياطين إلى
اليهود, فشاع فيهم حتى فضَّلوه على كتاب الله. ولقد علم اليهود أن من
اختار السِّحر وترك الحق ما له في الآخرة من نصيب في الخير. ولبئس ما
باعوا به أنفسهم من السحر والكفر عوضًا عن الإيمان ومتابعة الرسول, لو كان
لهم عِلْمٌ يثمر العمل بما وُعِظوا.
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
ولو أن اليهود آمنوا وخافوا الله لأيقنوا أن ثواب الله خير لهم من السِّحر
ومما اكتسبوه به, لو كانوا يعلمون ما يحصل بالإيمان والتقوى من الثواب
والجزاء علما حقيقيا لآمنوا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم: راعنا,
أي: راعنا سمعك، فافهم عنا وأفهمنا; لأن اليهود كانوا يقولونها للنبي صلى
الله عليه وسلم يلوون ألسنتهم بها, يقصدون سبَّه ونسبته إلى الرعونة,
وقولوا- أيها المؤمنون- بدلا منها: انظرنا, أي انظر إلينا وتعهَّدْنا, وهي
تؤدي المعنى المطلوب نفسه واسمعوا ما يتلى عليكم من كتاب ربكم وافهموه.
وللجاحدين عذاب موجع.
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا
الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (105)
ما يحب الكفار من أهل الكتاب والمشركين أن يُنزَّل عليكم أدنى خير من ربكم
قرآنًا أو علمًا, أو نصرًا أو بشارة. والله يختص برحمته مَن يشاء مِن
عباده بالنبوة والرسالة. والله ذو العطاء الكثير الواسع.
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
ما نبدِّل من آية أو نُزِلها من القلوب والأذهان نأت بأنفع لكم منها, أو
نأت بمثلها في التكليف والثواب, ولكلٍ حكمة. ألم تعلم -أيها النبي- أنت
وأمتك أن الله قادر لا يعجزه شيء؟
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا
لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
أما علمتَ -أيها النبي- أنت وأمتك أن الله تعالى هو المالك المتصرف في
السموات والأرض؟ يفعل ما يشاء, ويحكم ما يريد, ويأمر عباده وينهاهم كيفما
شاء, وعليهم الطاعة والقَبول. وليعلم من عصى أن ليس لأحد من دون الله من
وليٍّ يتولاهم, ولا نصير يمنعهم من عذاب الله.
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ
قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ
السَّبِيلِ (108)
بل أتريدون- أيها الناس- أن تطلبوا من رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم
أشياء بقصد العناد والمكابرة, كما طُلِبَ مثل ذلك من موسى. علموا أن من
يختر الكفر ويترك الإيمان فقد خرج عن صراط الله المستقيم إلى الجهل
والضَّلال.
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
تمنى كثير من أهل الكتاب أن يرجعوكم بعد إيمانكم كفارًا كما كنتم من قبلُ
تعبدون الأصنام; بسبب الحقد الذي امتلأت به نفوسهم من بعد ما تبيَّن لهم
صدق نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به, فتجاوزوا عمَّا
كان منهم من إساءة وخطأ, واصفحوا عن جهلهم, حتى يأتي الله بحكمه فيهم
بقتالهم (وقد جاء ووقع), وسيعاقبهم لسوء أفعالهم. إن الله على كل شيء قدير
لا يعجزه شيء.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ
مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (110)
واشتغلوا -أيها المؤمنون- بأداء الصلاة على وجهها الصحيح, وإعطاء الزكاة
المفروضة. واعلموا أنَّ كل خير تقدمونه لأنفسكم تجدون ثوابه عند الله في
الآخرة. إنه تعالى بصير بكل أعمالكم, وسيجازيكم عليها.
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ
نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ
صَادِقِينَ (111)
ادَّعى كلٌّ من اليهود والنصارى أن الجنة خاصة بطائفته لا يدخلها غيرهم,
تلك أوهامهم الفاسدة. قل لهم -أيها الرسول-: أحضروا دليلكم على صحة ما
تدَّعون إن كنتم صادقين في دعواكم.
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
ليس الأمر كما زعموا أنَّ الجنة تختص بطائفة دون غيرها, وإنما يدخل
الجنَّة مَن أخلص لله وحده لا شريك له, وهو متبع للرسول محمد صلى الله
عليه وسلم في كل أقواله وأعماله. فمن فعل ذلك فله ثواب عمله عند ربه في
الآخرة, وهو دخول الجنة, وهم لا يخافون فيما يستقبلونه من أمر الآخرة, ولا
هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا
وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ
النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (113)
وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من الدين الصحيح, وكذلك قالت النصارى
في اليهود وهم يقرؤون التوراة والإنجيل, وفيهما وجوب الإيمان بالأنبياء
جميعًا. كذلك قال الذين لا يعلمون من مشركي العرب وغيرهم مثل قولهم, أي
قالوا لكل ذي دين: لست على شيء, فالله يفصل بينهم يوم القيامة فيما
اختلفوا فيه مِن أمر الدين, ويجازي كلا بعمله.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ
فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
لا أحد أظلم من الذين منعوا ذِكْرَ الله في المساجد من إقام الصلاة,
وتلاوة القرآن, ونحو ذلك, وجدُّوا في تخريبها بالهدم أو الإغلاق, أو بمنع
المؤمنين منها. أولئك الظالمون ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا المساجد إلا
على خوف ووجل من العقوبة, لهم بذلك صَغار وفضيحة في الدنيا, ولهم في
الآخرة عذاب شديد.
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
ولله جهتا شروق الشمس وغروبها وما بينهما, فهو مالك الأرض كلها. فأي جهة
توجهتم إليها في الصلاة بأمر الله لكم فإنكم مبتغون وجهه, لم تخرجوا عن
ملكه وطاعته. إن الله واسع الرحمة بعباده, عليم بأفعالهم, لا يغيب عنه
منها شيء
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
وقالت اليهود والنصارى والمشركون: اتخذ الله لنفسه ولدًا, تنزَّه الله
-سبحانه- عن هذا القول الباطل, بل كل مَن في السموات والأرض ملكه وعبيده,
وهم جميعًا خاضعون له, مسخَّرون تحت تدبيره
بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
والله تعالى هو خالق السموات والأرض على غير مثال سبق. وإذا قدَّر أمرًا وأراد كونه فإنما يقول له: "كن" فيكون.
وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ
تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ (118)
وقال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم لنبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه
وسلم على سبيل العناد: هلا يكلمنا الله مباشرة ليخبرنا أنك رسوله, أو
تأتينا معجزة من الله تدل على صدقك. ومثل هذا القول قالته الأمم من قبلُ
لرسلها عنادًا ومكابرة; بسبب تشابه قلوب السابقين واللاحقين في الكفر
والضَّلال, قد أوضحنا الآيات للذين يصدِّقون تصديقًا جازمًا؛ لكونهم
مؤمنين بالله تعالى، متَّبعين ما شرعه لهم.
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
إنا أرسلناك -أيها الرسول- بالدين الحق المؤيد بالحجج والمعجزات, فبلِّغه
للناس مع تبشير المؤمنين بخيري الدنيا والآخرة, وتخويف المعاندين بما
ينتظرهم من عذاب الله, ولست -بعد البلاغ- مسئولا عن كفر مَن كفر بك; فإنهم
يدخلون النار يوم القيامة، ولا يخرجون منها.
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)
ولن ترضى عنك -أيها الرسول- اليهود ولا النصارى إلا إذا تركت دينك واتبعتَ
دينهم. قل لهم: إن دين الإسلام هو الدين الصحيح. ولئن اتبعت أهواء هؤلاء
بعد الذي جاءك من الوحي ما لك عند الله مِن وليٍّ ينفعك, ولا نصير ينصرك.
هذا موجه إلى الأمّة عامة وإن كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم.
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ
أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْخَاسِرُونَ (121)
الذين أعطيناهم الكتاب من اليهود والنصارى, يقرؤونه القراءة الصحيحة,
ويتبعونه حق الاتباع, ويؤمنون بما جاء فيه من الإيمان برسل الله, ومنهم
خاتمهم نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم, ولا يحرفون ولا يبدِّلون
ما جاء فيه. هؤلاء هم الذين يؤمنون بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وبما
أنزل عليه, وأما الذين بدَّلوا بعض الكتاب وكتموا بعضه, فهؤلاء كفار بنبي
الله محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه, ومن يكفر به فأولئك هم أشد
الناس خسرانًا عند الله
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)
يا ذرية يعقوب اذكروا نعمي الكثيرة عليكم, وأني فَضَّلتكم على عالَمي زمانكم بكثرة أنبيائكم, وما أُنزل عليهم من الكتب.
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ
مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (123)
وخافوا أهوال يوم الحساب إذ لا تغني نفس عن نفس شيئًا, ولا يقبل الله منها فدية تنجيها من العذاب, ولا تنفعها وساطة, ولا أحد ينصرها.
وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ
إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
واذكر-أيها النبي- حين اختبر الله إبراهيم بما شرع له من تكاليف, فأدَّاها
وقام بها خير قيام. قال الله له: إني جاعلك قدوة للناس. قال إبراهيم: ربِّ
اجعل بعض نسلي أئمة فضلا منك, فأجابه الله سبحانه أنه لا تحصل للظالمين
الإمامةُ في الدين.
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
واذكر -أيها النبي- حين جعلنا الكعبة مرجعًا للناس, يأتونه, ثم يرجعون إلى
أهليهم, ثم يعودون إليه, ومجمعًا لهم في الحج والعمرة والطواف والصلاة,
وأمنًا لهم, لا يُغِير عليهم عدو فيه. وقلنا: اتخِذوا من مقام إبراهيم
مكانًا للصلاة فيه, وهو الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عند بنائه الكعبة.
وأوحينا إلى إبراهيم وابنه إسماعيل: أن طهِّرا بيتي من كل رجس ودنس;
للمتعبدين فيه بالطواف حول الكعبة, أو الاعتكاف في المسجد, والصلاة فيه.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ
إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
واذكر -أيها النبي- حين قال إبراهيم داعيًا: ربِّ اجعل "مكة" بلدًا آمنًا
من الخوف, وارزق أهله من أنواع الثمرات, وخُصَّ بهذا الرزق مَن آمن منهم
بالله واليوم الآخر. قال الله: ومن كفر منهم فأرزقه في الدنيا وأُمتعه ًا
قليلا ثم أُلجئُه مرغمًا إلى عذاب النار. وبئس المرجع والمقام هذا المصير.
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
واذكر -أيها النبي- حين رفع إبراهيم وإسماعيل أسس الكعبة, وهما يدعوان
الله في خشوع: ربنا تقبل منَّا صالح أعمالنا ودعاءنا, إنك أنت السميع
لأقوال عبادك, العليم بأحوالهم.
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً
مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
ربنا واجعلنا ثابتَيْن على الإسلام, منقادَيْن لأحكامك, واجعل من ذريتنا
أمة منقادة لك, بالإيمان, وبصِّرْنا بمعالم عبادتنا لك, وتجاوز عن ذنوبنا.
إنك أنت كثير التوبة والرحمة لعبادك.
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
ربنا وابعث في هذه الأمة رسولا من ذرية إسماعيل يتلو عليهم آياتك ويعلمهم
القرآن والسنة, ويطهرهم من الشرك وسوء الأخلاق. إنك أنت العزيز الذي لا
يمتنع عليه شيء, الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها.
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ
وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ
الصَّالِحِينَ (130)
ولا أحد يُعرض عن دين إبراهيم -وهو الإسلام- إلا سفيه جاهل, ولقد اخترنا
إبراهيم في الدنيا نبيًّا ورسولا وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين لهم
أعلى الدرجات.
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
وسبب هذا الاختيار مسارعته للإسلام دون تردد, حين قال له ربه: أخلص نفسك
لله منقادًا له. فاستجاب إبراهيم وقال: أسلمت لرب العالمين إخلاصًا
وتوحيدًا ومحبة وإنابة.
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (132)
وحثَّ إبراهيمُ ويعقوبُ أبناءهما على الثبات على الإسلام قائلَيْن: يا
أبناءنا إن الله اختار لكم هذا الدين- وهو دين الإسلام الذي جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم- فلا تفارقوه أيام حياتكم, ولا يأتكم الموت إلا وأنتم
عليه.
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ
لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ
وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً
وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
أكنتم أيها اليهود حاضرين حين جاء الموتُ يعقوبَ, إذ جمع أبناءه وسألهم ما
تعبدون من بعد موتي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
إلهًا واحدًا, ونحن له منقادون خاضعون.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
تلك أُمَّة من أسلافكم قد مضَتْ, لهم أعمالهم, ولكم أعمَالكم, ولا
تُسْألون عن أعمالهم, وهم لا يُسْألون عن أعمالكم, وكلٌّ سيجازى بما فعله,
لا يؤاخذ أحد بذنب أحد, ولا ينفعُ أحدًا إلا إيمانُه وتقواه.
وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (135)
وقالت اليهود لأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم: ادخلوا في دين اليهودية
تجدوا الهداية, وقالت النصارى لهم مثل ذلك. قل لهم -أيها الرسول-: بل
الهداية أن نتبع- جميعًا- ملة إبراهيم, الذي مال عن كل دين باطل إلى دين
الحق, وما كان من المشركين بالله تعالى.
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
قولوا -أيها المؤمنون- لهؤلاء اليهود والنَّصارى: صدَّقنا بالله الواحد
المعبود بحق, وبما أنزل إلينا من القرآن الذي أوحاه الله إلى نبيه ورسوله
محمد صلى الله عليه وسلم, وما أنزل من الصحف إلى إبراهيم وابنيه إسماعيل
وإسحاق, وإلى يعقوب والأسباط -وهم الأنبياء مِن ولد يعقوب الذين كانوا في
قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة- وما أُعطي موسى من التوراة, وعيسى من
الإنجيل, وما أُعطي الأنبياء جميعًا من وحي ربهم, لا نفرق بين أحد منهم في
الإيمان, ونحن خاضعون لله بالطاعة والعبادة.
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
فإنْ آمن الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم بمثل الذي آمنتم به, مما جاء
به الرسول, فقد اهتدوا إلى الحق, وإن أعرضوا فإنما هم في خلاف شديد,
فسيكفيك الله -أيها الرسول- شرَّهم وينصرك عليهم, وهو السميع لأقوالكم,
العليم بأحوالكم.
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
الزموا دين الله الذي فطركم عليه, فليس هناك أحسنُ مِن فطرة الله التي فطر
الناس عليها, فالزموها وقولوا نحن خاضعون مطيعون لربنا في اتباعنا ملَّة
إبراهيم.
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
قل -أيها الرسول لأهل الكتاب-: أتجادلوننا في توحيد الله والإخلاص له, وهو
رب العالمين جميعًا, لا يختص بقوم دون قوم, ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم,
ونحن لله مخلصو العبادة والطَّاعة لا نشرك به شيئًا, ولا نعبد أحدًا غيره.
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ
وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ
مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
بل أتقولون مجادلين في الله: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط-
وهم الأنبياء الذين كانوا في قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة من ولد
يعقوب- كانوا على دين اليهود أو النصارى؟ وهذا كذب; فقد بُعِثوا وماتوا
قبل نزول التوراة والإنجيل. قل لهم -أيها الرسول-: أأنتم أعلم بدينهم أم
الله تعالى؟ وقد أخبر في القرآن بأنهم كانوا حنفاء مسلمين, ولا أحد أظلم
منكم حين تخفون شهادة ثابتة عندكم من الله تعالى, وتدَّعون خلافها افتراء
على الله. وما الله بغافل عن شيء من أعمالكم, بل هو مُحْصٍ لها ومجازيكم
عليها.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
تلك أُمَّة من أسلافكم قد مضَتْ, لهم أعمالهم ولكم أعمالكم, ولا تُسْألون
عن أعمالهم, وهم لا يُسْألون عن أعمالكم. وفي الآية قطع للتعلق
بالمخلوقين, وعدم الاغترار بالانتساب إليهم, وأن العبرة بالإيمان بالله
وعبادته وحده, واتباع رسله, وأن من كفر برسول منهم فقد كفر بسائر الرسل.
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ
الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
سيقول الجهال وضعاف العقول من اليهود وأمثالهم, في سخرية واعتراض: ما الذي
صرف هؤلاء المسلمين عن قبلتهم التي كانوا يُصَلُّون إلى جهتها أول
الإسلام; (وهي "بيت المقدس") قل لهم -أيها الرسول-: المشرق والمغرب وما
بينهما ملك لله, فليست جهة من الجهات خارجة عن ملكه, يهدي مَن يشاء من
عباده إلى طريق الهداية القويم. وفي هذا إشعار بأن الشأن كله لله في
امتثال أوامره, فحيثما وَجَّهَنا تَوَجَّهْنا.
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
وكما هديناكم -أيها المسلمون- إلى الطريق الصحيح في الدين, جعلناكم أمة
خيارًا عدولا لتشهدوا على الأمم في الآخرة أن رسلهم بلَّغتهم رسالات ربهم,
ويكون الرسول في الآخرة كذلك شهيدًا عليكم أنَّه بلَّغكم رسالة ربه. وما
جعلنا -أيها الرسول- قبلة "بيت المقدس" التي كنت عليها, ثم صرفناك عنها
إلى الكعبة ب "مكة", إلا ليظهر ما علمناه في الأزل؛ علما يتعلق به الثواب
والعقاب لنميز مَن يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيث توجهت, ومَن هو ضعيف
الإيمان فينقلب مرتدًا عن دينه لشكه ونفاقه. وإن هذه الحال التي هي تحول
المسلم في صلاته من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة لثقيلة شاقة
إلا على الذين هداهم ومنّ عليهم بالإيمان والتقوى وما كان الله ليضيع
إيمانكم به واتباعكم لرسوله, ويبطل صلاتكم إلى القبلة السابقة. إنه سبحانه
وتعالى بالناس لرءوف رحيم.
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا
اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
قد نرى تحوُّل وجهك -أيها الرسول- في جهة السماء, مرة بعد مرة; انتظارًا
لنزول الوحي إليك في شأن القبلة, فلنصرفنك عن "بيت المقدس" إلى قبلة تحبها
وترضاها, وهي وجهة المسجد الحرام ب "مكة", فولِّ وجهك إليها. وفي أي مكان
كنتم -أيها المسلمون- وأردتم الصلاة فتوجهوا نحو المسجد الحرام. وإن الذين
أعطاهم الله علم الكتاب من اليهود والنصارى لَيعلمون أن تحويلك إلى الكعبة
هو الحق الثابت في كتبهم. وما الله بغافل عما يعمل هؤلاء المعترضون
المشككون, وسيجازيهم على ذلك
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا
تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا
بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنْ
الظَّالِمِينَ (145)
ولئن جئت -أيها الرسول- الذين أُعطوا التوراة والإنجيل بكل حجة وبرهان على
أن توجُّهك إلى الكعبة في الصلاة هو الحق من عند الله, ما تبعوا قبلتك
عنادًا واستكبارًا, وما أنت بتابع قبلتهم مرة أخرى, وما بعضهم بتابع قبلة
بعض. ولئن اتبعت أهواءهم في شأن القبلة وغيرها بعد ما جاءك من العلم بأنك
على الحق وهم على الباطل, إنك حينئذ لمن الظالمين لأنفسهم. وهذا خطاب
لجميع الأمة وهو تهديد ووعيد لمن يتبع أهواء المخالفين لشريعة الإسلام
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (146)
الذين أعطيناهم التوراة والإنجيل من أحبار اليهود وعلماء النصارى يعرفون
أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله بأوصافه المذكورة في كتبهم, مثل
معرفتهم بأبنائهم. وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون صِدْقه, وثبوت
أوصافه.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (147)
الذي أنزل إليك -أيها النبي- هو الحق من ربك, فلا تكونن من الشاكين فيه.
وهذ وإن كان خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم فهو موجه للأمة.
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ
مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
ولكل أمة من الأمم قبلة يتوجَّه إليها كل واحد منها في صلاته, فبادروا -
أيها المؤمنون- متسابقين إلى فِعْل الأعمال الصالحة التي شرعها الله لكم
في دين الإسلام. وسيجمعكم الله جميعا يوم القيامة من أي موضع كنتم فيه. إن
الله على كل شيء قدير.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (149)
ومن أي مكان خَرَجْتَ -أيها النبي- مسافرًا, وأردت الصلاة, فوجِّه وجهك
نحو المسجد الحرام. وإنَّ توجُّهك إليه لهو الحق الثابت من ربك. وما الله
بغافل عما تعملونه, وسيجازيكم على ذلك.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (150)
ومن أى مكان خرجت -أيها النبي- فتوجَّه إلى المسجد الحرام, وحيثما كنتم
-أيها المسلمون-, بأي قطر من أقطار الأرض فولُّوا وجوهكم نحو المسجد
الحرام; لكي لا يكون للناس المخالفين لكم احتجاج عليكم بالمخاصمة
والمجادلة, بعد هذا التوجه إليه, إلا أهل الظلم والعناد منهم, فسيظلُّون
على جدالهم, فلا تخافوهم وخافوني بامتثال أمري, واجتناب نهيي; ولكي أتم
نعمتي عليكم باختيار أكمل الشرائع لكم, ولعلكم تهتدون إلى الحق والصواب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 9:58 pm

سورة البقرة الآيات ( 200:151 )
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ
آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
كما أنعمنا عليكم باستقبال الكعبة أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم
الآيات المبينة للحق من الباطل, ويطهركم من دنس الشرك وسوء الأخلاق,
ويعلمكم الكتاب والسنة وأحكام الشريعة, ويعلمكم من أخبار الأنبياء, وقصص
الأمم السابقة ما كنتم تجهلونه.
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)
أمر تعالى المؤمنين بذكره، ووعد عليه أفضل الجزاء، وهو الثناء في الملأ
الأعلى على مَنْ ذكره, وخصوني -أيها المؤمنون- بالشكر قولا وعملا ولا
تجحدوا نعمي عليكم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
يا أيها المؤمنون اطلبوا العون من الله في كل أموركم: بالصبر على النوائب
والمصائب, وترك المعاصي والذنوب, والصبر على الطاعات والقربات, والصلاة
التي تطمئن بها النفس, وتنهى عن الفحشاء والمنكر. إن الله مع الصابرين
بعونه وتوفيقه وتسديده. وفي الآية: إثبات معيَّة الله الخاصة بالمؤمنين,
المقتضية لما سلف ذكره; أما المعية العامة, المقتضية للعلم والإحاطة فهي
لجميع الخلق.
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
ولا تقولوا -أيها المؤمنون- فيمن يُقتلون مجاهدين في سبيل الله: هم أموات,
بل هم أحياء حياة خاصة بهم في قبورهم, لا يعلم كيفيتها إلا الله - تعالى-,
ولكنكم لا تُحسُّون بها. وفي هذا دليل على نعيم القبر.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ
الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155)
ولنختبرنكم بشيء يسير من الخوف، ومن الجوع, وبنقص من الأموال بتعسر الحصول
عليها, أو ذهابها, ومن الأنفس: بالموت أو الشهادة في سبيل الله, وبنقص من
ثمرات النخيل والأعناب والحبوب, بقلَّة ناتجها أو فسادها. وبشِّر -أيها
النبي- الصابرين على هذا وأمثاله بما يفرحهم ويَسُرُّهم من حسن العاقبة في
الدنيا والآخرة.
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
من صفة هؤلاء الصابرين أنهم إذا أصابهم شيء يكرهونه قالوا: إنَّا عبيد
مملوكون لله, مدبَّرون بأمره وتصريفه, يفعل بنا ما يشاء, وإنا إليه راجعون
بالموت, ثم بالبعث للحساب والجزاء.
أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157)
أولئك الصابرون لهم ثناء من ربهم ورحمة عظيمة منه سبحانه, وأولئك هم المهتدون إلى الرشاد.
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا
وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
إن الصفا والمروة- وهما جبلان صغيران قرب الكعبة من جهة الشرق- من معالم
دين الله الظاهرة التي تعبَّد الله عباده بالسعي بينهما. فمَن قصد الكعبة
حاجًّا أو معتمرًا, فلا إثم عليه ولا حرج في أن يسعى بينهما, بل يجب عليه
ذلك, ومن فعل الطاعات طواعية من نفسه مخلصًا بها لله تعالى, فإن الله
تعالى شاكر يثيب على القليل بالكثير, عليم بأعمال عباده فلا بضيعها, ولا
يبخس أحدًا مثقال ذرة.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159)
إن الذين يُخْفون ما أنزلنا من الآيات الواضحات الدالة على نبوة محمد صلى
الله عليه وسلم وما جاء به, وهم أحبار اليهود وعلماء النصارى وغيرهم ممن
يكتم ما أنزل الله من بعد ما أظهرناه للناس في التوراة والإنجيل, أولئك
يطردهم الله من رحمته, ويدعو عليهم باللعنة جميع الخليقة.
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
إلا الذين رجعوا مستغفرين الله من خطاياهم, وأصلحوا ما أفسدوه, وبَيَّنوا
ما كتموه, فأولئك أقبل توبتهم وأجازيهم بالمغفرة, وأنا التواب على من تاب
من عبادي, الرحيم بهم; إذ وفقتُهم للتوبة وقبلتها منهم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ
عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
إن الذين جحدوا الإيمان وكتموا الحق, واستمروا على ذلك حتى ماتوا, أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين بالطرد من رحمته.
خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ (162)
دائمين في اللعنة والنار, لا يخفف عنهم العذاب, ولا هم يمهلون بمعذرة يعتذرون بها.
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
وإلهكم -أيها الناس- إله واحد متفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله
وعبودية خلقه له, لا معبود بحق إلا هو, الرحمن المتصف بالرحمة في ذاته
وأفعاله لجميع الخلق, الرحيم بالمؤمنين.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ
النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا
بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
إن في خلق السموات بارتفاعها واتساعها, والأرض بجبالها وسهولها وبحارها,
وفي اختلاف الليل والنهار من الطول والقصر, والظلمة والنور, وتعاقبهما بأن
يخلف كل منهما الآخر, وفي السفن الجارية في البحار, التي تحمل ما ينفع
الناس, وما أنزل الله من السماء من ماء المطر, فأحيا به الأرض, فصارت
مخضرَّة ذات بهجة بعد أن كانت يابسة لا نبات فيها, وما نشره الله فيها من
كل ما دبَّ على وجه الأرض, وما أنعم به عليكم من تقليب الرياح وتوجيهها,
والسحاب المسيَّر بين السماء والأرض -إن في كل الدلائل السابقة لآياتٍ على
وحدانية الله, وجليل نعمه, لقوم يعقلون مواضع الحجج, ويفهمون أدلته سبحانه
على وحدانيته, واستحقاقه وحده للعبادة.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً
لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ
الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
ومع هذه البراهين القاطعة يتخذ فريق من الناس من دون الله أصنامًا
وأوثانًا وأولياء يجعلونهم نظراء لله تعالى, ويعطونهم من المحبة والتعظيم
والطاعة, ما لا يليق إلا بالله وحده. والمؤمنون أعظم حبا لله من حب هؤلاء
الكفار لله ولآلهتهم; لأن المؤمنين أخلصوا المحبة كلها لله, وأولئك أشركوا
في المحبة. ولو يعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك في الحياة الدنيا, حين
يشاهدون عذاب الآخرة, أن الله هو المتفرد بالقوة جميعًا, وأن الله شديد
العذاب, لما اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونهم من دونه, ويتقربون بهم إليه.
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ (166)
عند معاينتهم عذاب الآخرة يتبرأ الرؤساء المتبوعون ممن اتبعهم على الشرك,
وتنقطع بينهم كل الصلات التي ارتبطوا بها في الدنيا: من القرابة,
والاتِّباع, والدين, وغير ذلك.
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ
مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ
أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ
النَّارِ (167)
وقال التابعون: يا ليت لنا عودة إلى الدنيا, فنعلن براءتنا من هؤلاء
الرؤساء, كما أعلنوا براءتهم مِنَّا. وكما أراهم الله شدة عذابه يوم
القيامة يريهم أعمالهم الباطلة ندامات عليهم, وليسوا بخارجين من النار
أبدًا.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169)
يا أيها الناس كلوا من رزق الله الذي أباحه لكم في الأرض, وهو الطاهر غير
النجس, النافع غير الضار, ولا تتبعوا طرق الشيطان في التحليل والتحريم,
والبدع والمعاصي. إنه عدو لكم ظاهر العداوة إنما يأمركم الشيطان بكل ذنب
قبيح يسوءُكم, وبكل معصية بالغة القبح, وبأن تفتروا على الله الكذب من
تحريم الحلال وغيره بدون علم
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ
لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)
وإذا قال المؤمنون ناصحين أهل الضلال: اتبعوا ما أنزل الله من القرآن
والهدى, أصرُّوا على تقليد أسلافهم المشركين قائلين: لا نتبع دينكم, بل
نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. أيتبعون آباءهم ولو كانوا لا يعقلون عن الله
شيئًا, ولا يدركون رشدًا؟
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ
إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)
وصفة الذين كفروا وداعيهم إلى الهدى والإيمان كصفة الراعي الذي يصيح
بالبهائم ويزجرها, وهي لا تفهم معاني كلامه, وإنما تسمع النداء ودَوِيَّ
الصوت فقط. هؤلاء الكفار صُمٌّ سدُّوا أسماعهم عن الحق, بُكْم أخرسوا
ألسنتهم عن النطق به, عُمْي لا ترى أعينهم براهينه الباهرة, فهم لا يعملون
عقولهم فيما ينفعهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
يا أيها المؤمنون كلوا من الأطعمة المستلَذَّة الحلال التي رزقناكم, ولا
تكونوا كالكفار الذين يحرمون الطيبات, ويستحِلُّون الخبائث, واشكروا لله
نعمه العظيمة عليكم بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم, إن كنتم حقًا منقادين
لأمره, سامعين مطيعين له, تعبدونه وحده لا شريك له.
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ
وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا
عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
إنما حرم الله عليكم ما يضركم كالميتة التي لم تذبح بطريقة شرعية, والدم
المسفوح, ولحم الخنزير, والذبائح التي ذبحت لغير الله. ومِنْ فَضْلِ الله
عليكم وتيسيره أنه أباح لكم أكل هذه المحرمات عند الضرورة. فمن ألجأته
الضرورة إلى أكل شيء منها, غير ظالم في أكله فوق حاجته, ولا متجاوز حدود
الله فيما أُبيح له, فلا ذنب عليه في ذلك. إن الله غفور لعباده, رحيم بهم.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
إن الذين يُخْفون ما أنزل الله في كتبه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم
وغير ذلك من الحق, ويحرصون على أخذ عوض قليل من عرض الحياة الدنيا مقابل
هذا الإخفاء, هؤلاء ما يأكلون في مقابلة كتمان الحق إلا نار جهنم تتأجج في
بطونهم, ولا يكلمهم الله يوم القيامة لغضبه طه عليهم, ولا يطهرهم من دنس
ذنوبهم وكفرهم, ولهم عذاب موجع.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
أولئك المتصفون بهذه الصفات استبدلوا الضلالة بالهدى وعذاب الله بمغفرته,
فما أشد جراءتهم على النار بعملهم أعمال أهل النار!! يعجب الله من إقدامهم
على ذلك, فاعجبوا -أيها الناس- من جراءتهم, ومن صبرهم على النار ومكثهم
فيها. وهذا على وجه الاستهانة بهم, والاستخفاف بأمرهم.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
ذلك العذاب الذي استحقوه بسبب أن الله تعالى نزَّل كتبه على رسله مشتملة
على الحق المبين, فكفروا به. وإن الذين اختلفوا في الكتاب فأمنوا ببعضه
وكفروا ببعضه, لفي منازعة ومفارقة بعيدة عن الرشد والصواب.
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ
عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (177)
ليس الخير عند الله- تعالى- في التوجه في الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب
إن لم يكن عن أمر الله وشرعه, وإنما الخير كل الخير هو إيمان من آمن بالله
وصدَّق به معبودًا وحدَه لا شريك له, وآمن بيوم البعث والجزاء, وبالملائكة
جميعًا, وبالكتب المنزلة كافة, وبجميع النبيين من غير تفريق, وأعطى المال
تطوُّعًا -مع شدة حبه- ذوي القربى, واليتامى المحتاجين الذين مات آباؤهم
وهم دون سن البلوغ, والمساكين الذين أرهقهم الفقر, والمسافرين المحتاجين
الذين بَعُدوا عن أهلهم ومالهم, والسائلين الذين اضطروا إلى السؤال لشدة
حاجتهم, وأنفق في تحرير الرقيق والأسرى, وأقام الصلاة, وأدى الزكاة
المفروضة, والذين يوفون بالعهود, ومن صبر في حال فقره ومرضه, وفي شدة
القتال. أولئك المتصفون بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم, وأولئك هم
الذين اتقَوا عقاب الله فتجنبوا معاصيه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى
بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (178)
يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه فرض الله عليكم أن تقتصوا
من القاتل عمدا بقتله, بشرط المساواة والمماثلة: يُقتل الحر بمثله, والعبد
بمثله, والأنثى بمثلها. فمن سامحه ولي المقتول بالعفو عن الاقتصاص منه
والاكتفاء بأخذ الدية -وهي قدر مالي محدد يدفعه الجاني مقابل العفو عنه-
فليلتزم الطرفان بحسن الخلق, فيطالب الولي بالدية من غير عنف, ويدفع
القاتل إليه حقه بإحسان, مِن غير تأخير ولا نقص. ذلك العفو مع أخذ الدية
تخفيف من ربكم ورحمة بكم; لما فيه من التسهيل والانتفاع. فمَن قتل القاتل
بعد العفو عنه وأَخْذِ الدية فله عذاب أليم بقتله قصاصًا في الدنيا, أو
بالنار في الآخرة.
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
ولكم في تشريع القصاص وتنفيذه حياة آمنة -يا أصحاب العقول السليمة-; رجاء تقوى الله وخشيته بطاعته دائمًا.
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً
عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
فرض الله عليكم إذا حضر أحدكم علامات الموت ومقدماته -إن ترك مالا- الوصية
بجزء من ماله للوالدين والأقربين مع مراعاة العدل; فلا يدع الفقير ويوصي
للغني, ولا يتجاوز الثلث, وذلك حق ثابت يعمل به أهل التقوى الذين يخافون
الله. وكان هذا قبل نزول آيات المواريث التي حدَّد الله فيها نصيب كل وارث.
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
فمَن غَيَّر وصية الميت بعدما سمعها منه قبل موته, فإنما الذنب على مَن
غيَّر وبدَّل. إن الله سميع لوصيتكم وأقوالكم, عليم بما تخفيه صدوركم من
الميل إلى الحق والعدل أو الجور والحيف, وسيجازيكم على ذلك.
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
فمَن علم مِن موصٍ ميلا عن الحق في وصيته على سبيل الخطأ أو العمد, فنصح
الموصيَ وقت الوصية بما هو الأعدل، فإن لم يحصل له ذلك فأصلح بين الأطراف
بتغيير الوصية; لتوافق الشريعة, فلا ذنب عليه في هذا الإصلاح. إن الله
غفور لعباده, رحيم بهم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, فرض الله عليكم الصيام
كما فرضه على الأمم قبلكم; لعلكم تتقون ربكم, فتجعلون بينكم وبين المعاصي
وقاية بطاعته وعبادته وحده.
أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ
تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
فرض الله عليكم صيام أيام معلومة العدد وهي أيام شهر رمضان. فمن كان منكم
مريضًا يشق عليه الصوم, أو مسافرًا فله أن يفطر, وعليه صيام عدد من أيام
أُخَر بقدر التي أفطر فيها. وعلى الذين يتكلفون الصيام ويشقُّ عليهم مشقة
غير محتملة كالشيخ الكبير, والمريض الذي لا يُرْجَى شفاؤه, فدية عن كل يوم
يفطره, وهي طعام مسكين, فمن زاد في قدر الفدية تبرعًا منه فهو خير له,
وصيامكم خير لكم -مع تحمُّل المشقة- من إعطاء الفدية, إن كنتم تعلمون
الفضل العظيم للصوم عند الله تعالى.
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا
اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
شهر رمضان الذي ابتدأ الله فيه إنزال القرآن في ليلة القدر; هداية للناس
إلى الحق, فيه أوضح الدلائل على هدى الله, وعلى الفارق بين الحق والباطل.
فمن حضر منكم الشهر وكان صحيحًا مقيمًا فليصم نهاره. ويُرخَّص للمريض
والمسافر في الفطر, ثم يقضيان عدد تلك الأيام. يريد الله تعالى بكم اليسر
والسهولة في شرائعه, ولا يريد بكم العسر والمشقة, ولتكملوا عدة الصيام
شهرًا, ولتختموا الصيام بتكبير الله في عيد الفطر, ولتعظموه على هدايته
لكم, ولكي تشكروا له على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق والتيسير.
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
وإذا سألك -أيها النبي- عبادي عني فقل لهم: إني قريب منهم, أُجيب دعوة
الداعي إذا دعاني, فليطيعوني فيما أمرتهم به ونهيتهم عنه, وليؤمنوا بي,
لعلهم يهتدون إلى مصالح دينهم ودنياهم. وفي هذه الآية إخبار منه سبحانه عن
قربه من عباده, القرب اللائق بجلاله.
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ
لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ
فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ
الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
أباح الله لكم في ليالي شهر رمضان جماعَ نسائكم, هنَّ ستر وحفظ لكم, وأنتم
ستر وحفظ لهن. علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم; بمخالفة ما حرَّمه الله
عليكم من مجامعة النساء بعد العشاء في ليالي الصيام -وكان ذلك في أول
الإسلام-, فتاب الله عليكم ووسَّع لكم في الأمر, فالآن جامعوهن, واطلبوا
ما قدَّره الله لكم من الأولاد, وكلوا واشربوا حتى يتبَيَّن ضياء الصباح
من سواد الليل، بظهور الفجر الصادق, ثم أتموا الصيام بالإمساك عن المفطرات
إلى دخول الليل بغروب الشمس. ولا تجامعوا نساءكم أو تتعاطوا ما يفضي إلى
جماعهن إذا كنتم معتكفين في المساجد; لأن هذا يفسد الاعتكاف (وهو الإقامة
في المسجد مدة معلومة بنيَّة التقرب إلى الله تعالى). تلك الأحكام التي
شرعها الله لكم هي حدوده الفاصلة بين الحلال والحرام, فلا تقربوها حتى لا
تقعوا في الحرام. بمثل هذا البيان الواضح يبين الله آياته وأحكامه للناس;
كي يتقوه ويخشَوْه.
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا
إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
ولا يأكل بعضكم مال بعض بسبب باطل كاليمين الكاذبة, والغصب, والسرقة,
والرشوة, والربا ونحو ذلك, ولا تلقوا بالحجج الباطلة إلى الحكام; لتأكلوا
عن طريق التخاصم أموال طائفة من الناس بالباطل, وأنتم تعلمون تحريم ذلك
عليكم.
يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
يسألك أصحابك -أيها النبي-: عن الأهلة وتغيُّر أحوالها, قل لهم: جعل اللهُ
الأهلة علامات يعرف بها الناس أوقات عباداتهم المحددة بوقت مثل الصيام
والحج, ومعاملاتهم. وليس الخير ما تعودتم عليه في الجاهلية وأول الإسلام
من دخول البيوت من ظهورها حين تُحْرِمون بالحج أو العمرة, ظانين أن ذلك
قربة إلى الله, ولكن الخير هو فِعْلُ مَنِ اتقى الله واجتنب المعاصي,
وادخلوا البيوت من أبوابها عند إحرامكم بالحج أو العمرة, واخشوا الله
تعالى في كل أموركم, لتفوزوا بكل ما تحبون من خيري الدنيا والآخرة.
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
وقاتلوا -أيها المؤمنون- لنصرة دين الله الذين يقاتلونكم, ولا ترتكبوا
المناهي من المُثْلة، والغُلول، وقَتْلِ من لا يحل قتله من النساء
والصبيان والشيوخ، ومن في حكمهم. إن الله لا يحب الذين يجاوزون حدوده,
فيستحلون ما حرَّم الله ورسوله.
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ
أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ
قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
واقتلوا الذين يقاتلونكم من المشركين حيث وجدتموهم, وأخرجوهم من المكان
الذي أخرجوكم منه وهو "مكة". والفتنة -وهي الكفر والشرك والصد عن الإسلام-
أشد من قتلكم إياهم. ولا تبدؤوهم بالقتال عند المسجد الحرام تعظيمًا
لحرماته حتى يبدؤوكم بالقتال فيه, فإن قاتلوكم في المسجد الحرام فاقتلوهم
فيه. مثل ذلك الجزاء الرادع يكون جزاء الكافرين.
فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
فإن تركوا ما هم فيه من الكفر وقتالكم عند المسجد الحرام, ودخلوا في الإيمان, فإن الله غفور لعباده, رحيم بهم.
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ
فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
واستمروا- أيها المؤمنون- في قتال المشركين المعتدين, حتى لا تكون فتنة
للمسلمين عن دينهم ولا شرك بالله, ويبقى الدين لله وحده خالصًا لا يُعْبَد
معه غيره. فإن كفُّوا عن الكفر والقتال فكُفُّوا عنهم; فالعقوبة لا تكون
إلا على المستمرين على كفرهم وعدوانهم.
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ
فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ (194)
قتالكم -أيها المؤمنون- للمشركين في الشهر الذي حرَّم الله القتال فيه هو
جزاء لقتالهم لكم في الشهر الحرام. والذي يعتدي على ما حَرَّم الله من
المكان والزمان, يعاقب بمثل فعله, ومن جنس عمله. فمن اعتدى عليكم بالقتال
أو غيره فأنزلوا به عقوبة مماثلة لجنايته, ولا حرج عليكم في ذلك; لأنهم هم
البادئون بالعدوان, وخافوا الله فلا تتجاوزوا المماثلة في العقوبة,
واعلموا أن الله مع الذين يتقونه ويطيعونه بأداء فرائضه وتجنب محارمه.
وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
واستمروا- أيها المؤمنون- في إنفاق الأموال لنصرة دين الله تعالى, والجهاد
في سبيله, ولا توقعوا أنفسكم في المهالك بترك الجهاد في سبيل الله, وعدم
الإنفاق فيه, وأحسنوا في الانفاق والطاعة, واجعلوا عملكم كله خالصًا لوجه
الله تعالى. إن الله يحب أهل الإخلاص والإحسان.
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ
رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا
أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ
كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (196)
وأدُّوا الحج والعمرة تامَّيْنِ, خالصين لوجه الله تعالى. فإن منعكم عن
الذهاب لإتمامهما بعد الإحرام بهما مانع كالعدو والمرض, فالواجب عليكم
ذَبْحُ ما تيسر لكم من الإبل أو البقر أو الغنم تقربًا إلى الله تعالى;
لكي تَخْرُجوا من إحرامكم بحلق شعر الرأس أو تقصيره, ولا تحلقوا رؤوسكم
إذا كنتم محصرين حتى ينحر المحصر هديه في الموضع الذي حُصر فيه ثم يحل من
إحرامه, كما نحر النبي صلى الله عليه وسلم في "الحديبية" ثم حلق رأسه,
وغير المحصر لا ينحر الهدي إلا في الحرم, الذي هو محله في يوم العيد,
اليوم العاشر وما بعده من أيام التشريق. فمن كان منكم مريضًا, أو به أذى
من رأسه يحتاج معه إلى الحلق -وهو مُحْرِم- حَلَق, وعليه فدية: بأن يصوم
ثلاثة أيام, أو يتصدق على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام, أو يذبح
شاة لفقراء الحرم. فإذا كنتم في أمن وصحَّة: فمن استمتع بالعمرة إلى الحج
وذلك باستباحة ما حُرِّم عليه بسبب الإحرام بعد انتهاء عمرته, فعليه ذبح
ما تيسر من الهدي, فمن لم يجد هَدْيًا يذبحه فعليه صيام ثلاثة أيام في
أشهر الحج, وسبعة إذا فرغتم من أعمال الحج ورجعتم إلى أهليكم, تلك عشرة
كاملة لا بد من صيامها. ذلك الهَدْيُ وما ترتب عليه من الصيام لمن لم يكن
أهله من ساكني أرض الحرم, وخافوا الله تعالى وحافظوا على امتثال أوامره
واجتناب نواهيه, واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره, وارتكب ما
عنه زجر.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا
رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197)
وقت الحج أشهر معلومات, وهي: شوال, وذو القعدة, وعشر من ذي الحجة. فمن
أوجب الحج على نفسه فيهن بالإحرام, فيحرم عليه الجماع ومقدماته القولية
والفعلية, ويحرم عليه الخروج عن طاعة الله تعالى بفعل المعاصي, والجدال في
الحج الذي يؤدي إلى الغضب والكراهية. وما تفعلوا من خير يعلمه الله,
فيجازي كلا على عمله. وخذوا لأنفسكم زادًا من الطعام والشراب لسفر الحج,
وزادًا من صالح الأعمال للدار الآخرة, فإن خير الزاد تقوى الله, وخافوني
يا أصحاب العقول السليمة
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ (198)
ليس عليكم حرج في أن تطلبوا رزقًا من ربكم بالربح من التجارة في أيام
الحج. فإذا دفعتم بعد غروب الشمس راجعين من "عرفات" -وهي المكان الذي يقف
فيه الحجاج يوم التاسع من ذي الحجة- فاذكروا الله بالتسبيح والتلبية
والدعاء عند المشعر الحرام -"المزدلفة"-, واذكروا الله على الوجه الصحيح
الذي هداكم إليه, ولقد كنتم من قبل هذا الهدى في ضلال لا تعرفون معه الحق.
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
وليكن اندفاعكم من "عرفات" التي أفاض منها إبراهيم عليه السلام مخالفين
بذلك من لا يقف بها من أهل الجاهلية, واسألوا الله أن يغفر لكم ذنوبكم. إن
الله غفور لعباده المستغفرين التائبين, رحيم بهم.
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ
آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)
فإذا أتممتم عبادتكم, وفرغتم من أعمال الحج, فأكثروا من ذكر الله والثناء
عليه, مثل ذكركم مفاخر آبائكم وأعظم من ذلك. فمن الناس فريق يجعل همه
الدنيا فقط, فيدعو قائلا ربنا آتنا في الدنيا صحة, ومالا وأولادًا, وهؤلاء
ليس لهم في الآخرة حظ ولا نصيب; لرغبتهم عنها وقَصْرِ هَمِّهم على الدنيا.
رد مع اقتباس
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 9:58 pm

سورة البقرة الآيات ( 250:201 )
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)


ومن الناس فريق مؤمن يقول في دعائه: ربنا آتنا في الدنيا عافية ورزقًا
وعلمًا نافعًا, وعملا صالحًا, وغير ذلك من أمور الدين والدنيا, وفي الآخرة
الجنة, واصرف عنَّا عذاب النار. وهذا الدعاء من أجمع الأدعية, ولهذا كان
أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم, كما ثبت في الصحيحين.


أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)


أولئك الداعون بهذا الدعاء لهم ثواب عظيم بسبب ما كسبوه من الأعمال الصالحة. والله سريع الحساب, مُحْصٍ أعمال عباده, ومجازيهم بها.


وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (203)


واذكروا الله تسبيحًا وتكبيرًا في أيام قلائل, وهي أيام التشريق: الحادي
عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة. فمن أراد التعجل وخرج من
"مِنى" قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار فلا ذنب عليه, ومن
تأخر بأن بات ب "مِنى" حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر فلا ذنب عليه,
لمن اتقى الله في حجه. والتأخر أفضل; لأنه تزوُّد في العبادة واقتداء بفعل
النبي صلى الله عليه وسلم. وخافوا الله- أيها المسلمون- وراقبوه في كل
أعمالكم, واعلموا أنكم إليه وحده تُحْشَرون بعد موتكم للحساب والجزاء.


وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
(204)


وبعض الناس من المنافقين يعجبك -أيها الرسول- كلامه الفصيح الذي يريد به
حظًّا من حظوظ الدنيا لا الآخرة, ويحلف مستشهدًا بالله على ما في قلبه من
محبة الإسلام, وفي هذا غاية الجرأة على الله, وهو شديد العداوة والخصومة
للإسلام والمسلمين.


وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)


وإذا خرج من عندك أيها الرسول, جَدَّ ونَشِط في الأرض ليفسد فيها, ويتلف زروع الناس, ويقتل ماشيتهم. والله لا يحب الفساد.


وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)


وإذا نُصِح ذلك المنافق المفسد, وقيل له: اتق الله واحذر عقابه, وكُفَّ عن
الفساد في الأرض, لم يقبل النصيحة, بل يحمله الكبر وحميَّة الجاهلية على
مزيد من الآثام, فَحَسْبُه جهنم وكافيته عذابًا, ولبئس الفراش هي.


وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)


وبعض الناس يبيع نفسه طلبًا لرضا الله عنه, بالجهاد في سبيله, والتزام
طاعته. والله رءوف بالعباد, يرحم عباده المؤمنين رحمة واسعة في عاجلهم
وآجلهم, فيجازبهم أحسن الجزاء.


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)


يا أيها الذين آمنوا بالله ربًا وبمحمد نبيًا ورسولا وبالإسلام دينًا,
ادخلوا في جميع شرائع الإسلام, عاملين بجميع أحكامه, ولا تتركوا منها
شيئًا, ولا تتبعوا طرق الشيطان فيما يدعوكم إليه من المعاصي. إنه لكم عدو
ظاهر العداوة فاحذروه.


فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)


فإن انحرفتم عن طريق الحق, من بعد ما جاءتكم الحجج الواضحة من القرآن
والسنة, فاعلموا أن الله عزيز في ملكه لا يفوته شيء, حكيم في أمره ونهيه,
يضع كل شيء في موضعه المناسب له.


هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ
الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الأُمُورُ (210)


ما ينتظر هؤلاء المعاندون الكافرون بعد قيام الأدلة البينة إلا أن يأتيهم
الله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه في ظُلَل من السحاب يوم القيامة;
ليفصل بينهم بالقضاء العادل, وأن تأتي الملائكة, وحينئذ يقضي الله تعالى
فيهم قضاءه. وإليه وحده ترجع أمور الخلائق جميعها.


سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ
يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)


سل -أيها الرسول- بني إسرائيل المعاندين لك: كم أعطيناهم من آيات واضحات
في كتبهم تهديهم إلى الحق, فكفروا بها كلها, وأعرضوا عنها, وحَرَّفوها عن
مواضعها. ومن يبدل نعمة الله -وهي دينه- ويكفر بها من بعد معرفتها, وقيام
الحجة عليه بها, فإن الله تعالى شديد العقاب له.


زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)


حُسِّن للذين جحدوا وحدانية الله الحياةُ الدنيا وما فيها من الشهوات
والملذات, وهم يستهزئون بالمؤمنين. وهؤلاء الذين يخشون ربهم فوق جميع
الكفار يوم القيامة; حيث يدخلهم الله أعلى درجات الجنة, وينزل الكافرين
أسفل دركات النار. والله يرزق مَن يشاء مِن خلقه بغير حساب.


كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ
فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ
الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)


كان الناس جماعة واحدة, متفقين على الإيمان بالله ثم اختلفوا في دينهم,
فبعث الله النبيين دعاة لدين الله, مبشرين مَن أطاع الله بالجنة, ومحذرين
من كفر به وعصاه النار, وأنزل معهم الكتب السماوية بالحق الذي اشتملت
عليه; ليحكموا بما فيها بين الناس فيما اختلفوا فيه, وما اخْتَلَف في أمر
محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه ظلمًا وحسدًا إلا الذين أعطاهم الله
التوراة, وعرفوا ما فيها من الحجج والأحكام, فوفَّق الله المؤمنين بفضله
إلى تمييز الحق من الباطل, ومعرفة ما اختلفوا فيه. والله يوفِّق من يشاء
من عباده إلى طريق مستقيم.


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
(214)


بل أظننتم -أيها المؤمنون- أن تدخلوا الجنة, ولمَّا يصبكم من الابتلاء مثل
ما أصاب المؤمنين الذين مضوا من قبلكم: من الفقر والأمراض والخوف والرعب,
وزُلزلوا بأنواع المخاوف, حتى قال رسولهم والمؤمنون معه -على سبيل
الاستعجال للنصر من الله تعالى-: متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب من
المؤمنين.


يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
(215)


يسلك أصحابك -أيها النبي- أي شيء ينفقون من أصناف أموالهم تقربًا إلى الله
تعالى, وعلى مَن ينفقون؟ قل لهم: أنفقوا أيَّ خير يتيسر لكم من أصناف
المال الحلال الطيب, واجعلوا نفقتكم للوالدين, والأقربين من أهلكم وذوي
أرحامكم, واليتامى, والفقراء, والمسافر المحتاج الذي بَعُدَ عن أهله
وماله. وما تفعلوا من خير فإن الله تعالى به عليم.


كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً
وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)


فرض الله عليكم -أيها المؤمنون- قتال الكفار, والقتال مكروه لكم من جهة
الطبع; لمشقته وكثرة مخاطره, وقد تكرهون شيئًا وهو في حقيقته خير لكم, وقد
تحبون شيئًا لما فيه من الراحة أو اللذة العاجلة, وهو شر لكم. والله تعالى
يعلم ما هو خير لكم, وأنتم لا تعلمون ذلك. فبادروا إلى الجهاد في سبيله.


يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ
فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)


يسألك المشركون -أيها الرسول- عن الشهر الحرام: هل يحل فيه القتال؟ قل
لهم: القتال في الشهر الحرام عظيم عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه,
ومَنْعكم الناس من دخول الإسلام بالتعذيب والتخويف, وجحودكم بالله وبرسوله
وبدينه, ومَنْع المسلمين من دخول المسجد الحرام, وإخراج النبي والمهاجرين
منه وهم أهله وأولياؤه, ذلك أكبر ذنبًا, وأعظم جرمًا عند الله من القتال
في الشهر الحرام. والشرك الذي أنتم فيه أكبر وأشد من القتل في الشهر
الحرام. وهؤلاء الكفار لم يرتدعوا عن جرائمهم, بل هم مستمرون عليها, ولا
يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا تحقيق ذلك.
ومن أطاعهم منكم -أيها المسلمون- وارتدَّ عن دينه فمات على الكفر, فقد ذهب
عمله في الدنيا والآخرة, وصار من الملازمين لنار جهنم لا يخرج منها أبدًا.


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(218)


إن الذين صَدَّقوا بالله ورسوله وعملوا بشرعه والذين تركوا ديارهم,
وجاهدوا في سبيل الله, أولئك يطمعون في فضل الله وثوابه. والله غفور لذنوب
عباده المؤمنين, رحيم بهم رحمة واسعة.


يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا
وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)


يسألك المسلمون -أيها النبي- عن حكم تعاطي الخمر شربًا وبيعًا وشراءً,
والخمر كل مسكر خامر العقل وغطاه مشروبًا كان أو مأكولا ويسألونك عن حكم
القمار -وهو أَخْذُ المال أو إعطاؤه بالمقامرة وهي المغالبات التي فيها
عوض من الطرفين-, قل لهم: في ذلك أضرار ومفاسد كثيرة في الدين والدنيا,
والعقول والأموال, وفيهما منافع للناس من جهة كسب الأموال وغيرها, وإثمهما
أكبر من نفعهما; إذ يصدَّان عن ذكر الله وعن الصلاة, ويوقعان العداوة
والبغضاء بين الناس, ويتلفان المال. وكان هذا تمهيدًا لتحريمهما. ويسألونك
عن القَدْر الذي ينفقونه من أموالهم تبرعًا وصدقة, قل لهم: أنفقوا القَدْر
الذي يزيد على حاجتكم. مثل ذلك البيان الواضح يبيِّن الله لكم الآيات
وأحكام الشريعة; لكي تتفكروا فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة*.


________________________________


* ملاحظة: النص الذي تحته خط له علاقة بشرح الآية رقم 220في الصفحة التالية.


فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ
إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)


ويسألونك -أيها النبي- عن اليتامى كيف يتصرفون معهم في معاشهم وأموالهم؟
قل لهم: إصلاحكم لهم خير, فافعلوا الأنفع لهم دائمًا, وإن تخالطوهم في
سائر شؤون المعاش فهم إخوانكم في الدين. وعلى الأخ أن يرعى مصلحة أخيه.
والله يعلم المضيع لأموال اليتامى من الحريص على إصلاحها. ولو شاء الله
لضيَّق وشقَّ عليكم بتحريم الخالطة. إن الله عزيز في ملكه, حكيم في خلقه
وتدبيره وتشريعه.


وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ
خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ
مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)


ولا تتزوجوا -أيها المسلمون- المشركات عابدات الأوثان, حتى يدخلن في
الإسلام. واعلموا أن امرأة مملوكة لا مال لها ولا حسب, مؤمنةً بالله, خير
من امرأة مشركة, وإن أعجبتكم المشركة الحرة. ولا تُزَوِّجوا نساءكم
المؤمنات -إماء أو حرائر- للمشركين حتى يؤمنوا بالله ورسوله. واعلموا أن
عبدًا مؤمنًا مع فقره, خير من مشرك, وإن أعجبكم المشرك. أولئك المتصفون
بالشرك رجالا ونساءً يدعون كل مَن يعاشرهم إلى ما يؤدي به إلى النار,
والله سبحانه يدعو عباده إلى دينه الحق المؤدي بهم إلى الجنة ومغفرة
ذنوبهم بإذنه, ويبين آياته وأحكامه للناس; لكي يتذكروا, فيعتبروا.


وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)


ويسألونك عن الحيض- وهو الدم الذي يسيل من أرحام النساء جِبِلَّة في أوقات
مخصوصة-, قل لهم -أيها النبي-: هو أذى مستقذر يضر من يَقْرَبُه, فاجتنبوا
جماع النساء مدة الحيض حتى ينقطع الدم, فإذا انقطع الدم, واغتسلن,
فجامعوهن في الموضع الذي أحلَّه الله لكم, وهو القبل لا الدبر. إن الله
يحب عباده المكثرين من الاستغفار والتوبة, ويحب عباده المتطهرين الذين
يبتعدون عن الفواحش والأقذار.


نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (223)


نساؤكم موضع زرع لكم, تضعون النطفة في أرحامهن, فَيَخْرج منها الأولاد
بمشيئة الله, فجامعوهن في محل الجماع فقط, وهو القبل بأي كيفية شئتم,
وقَدِّموا لأنفسكم أعمالا صالحة بمراعاة أوامر الله, وخافوا الله, واعلموا
أنكم ملاقوه للحساب يوم القيامة. وبشِّر المؤمنين -أيها النبي- بما يفرحهم
ويسرُّهم من حسن الجزاء في الآخرة.


وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا
وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)


ولا تجعلوا -أيها المسلمون- حلفكم بالله مانعًا لكم من البر وصلة الرحم
والتقوى والإصلاح بين الناس: بأن تُدْعَوا إلى فعل شيء منها, فتحتجوا
بأنكم أقسمتم بالله ألا تفعلوه, بل على الحالف أن يعدل عن حلفه, ويفعل
أعمال البر, ويكفر عن يمينه, ولا يعتاد ذلك. والله سميع لأقوالكم, عليم
بجميع أحوالكم.


لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)


لا يعاقبكم الله بسبب أيمانكم التي تحلفونها بغير قصد, ولكن يعاقبكم بما
قصدَتْه قلوبكم. والله غفور لمن تاب إليه, حليم بمن عصاه حيث لم يعاجله
بالعقوبة.


لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)


للذين يحلفون بالله أن لا يجامعوا نساءهم, انتظار أربعة أشهر, فإن رجعوا
قبل فوات الأشهر الأربعة, فإن الله غفور لما وقع منهم من الحلف بسبب
رجوعهم, رحيم بهم.


وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)


وإن عقدوا عزمهم على الطلاق, باستمرارهم في اليمين, وترك الجماع, فإن الله سميع لأقوالهم, عليم بمقاصدهم, وسيجازيهم على ذلك.


وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ
إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ
مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)


والمطلقات ذوات الحيض, يجب أن ينتظرن دون نكاح بعد الطلاق مدة ثلاثة أطهار
أو ثلاث حيضات على سبيل العدة; ليتأكدن من فراغ الرحم من الحمل. ولا يجوز
لهن تزوج رجل آخر في أثناء هذه العدة حتى تنتهي. ولا يحل لهن أن يخفين ما
خلق الله في أرحامهن من الحمل أو الحيض, إن كانت المطلقات مؤمنات حقًا
بالله واليوم الآخر. وأزواج المطلقات أحق بمراجعتهن في العدة. وينبغي أن
يكون ذلك بقصد الإصلاح والخير, وليس بقصد الإضرار تعذيبًا لهن بتطويل
العدة. وللنساء حقوق على الأزواج, مثل التي عليهن, على الوجه المعروف,
وللرجال على النساء منزلة زائدة من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف والقِوامة
على البيت وملك الطلاق. والله عزيز له العزة القاهرة, حكيم يضع كل شيء في
موضعه المناسب.


الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً
إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (229)


الطلاق الذي تحصل به الرجعة مرتان, واحدة بعد الأخرى, فحكم الله بعد كل
طلقة هو إمساك المرأة بالمعروف, وحسن العشرة بعد مراجعتها, أو تخلية
سبيلها مع حسن معاملتها بأداء حقوقها, وألا يذكرها مطلقها بسوء. ولا يحل
لكم- أيها الأزواج- أن تأخذوا شيئًا مما أعطيتموهن من المهر ونحوه, إلا أن
يخاف الزوجان ألا يقوما بالحقوق الزوجية, فحينئذ يعرضان أمرهما على
الأولياء, فإن خاف الأولياء عدم إقامة الزوجين حدود الله, فلا حرج على
الزوجين فيما تدفعه المرأة للزوج مقابل طلاقها. تلك الأحكام هي حدود الله
الفاصلة بين الحلال والحرام, فلا تتجاوزوها, ومن يتجاوز حدود الله تعالى
فأولئك هم الظالمون أنفسهم بتعريضها لعذاب الله.


فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً
غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا
إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)


فإن طلَّق الرجل زوجته الطلقة الثالثة, فلا تحلُّ له إلا إذا تزوجت رجلا
غيره زواجًا صحيحًا وجامعها فيه ويكون الزواج عن رغبة, لا بنية تحليل
المرأة لزوجها الأول, فإن طلقها الزوج الآخر أو مات عنها وانقضت عدتها,
فلا إثم على المرأة وزوجها الأول أن يتزوجا بعقد جديد, ومهر جديد, إن غلب
على ظنهما أن يقيما أحكام الله التي شرعها للزوجين. وتلك أحكام الله
المحددة يبينها لقوم يعلمون أحكامه وحدوده; لأنهم المنتفعون بها.


وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً
لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا
تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ
يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)


وإذا طَلَّقتم النساء فقاربن انتهاء عدتهن, فراجعوهن, ونيتكم القيام
بحقوقهن على الوجه المستحسن شرعًا وعرفًا, أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن.
واحذروا أن تكون مراجعتهن بقصد الإضرار بهن لأجل الاعتداء على حقوقهن. ومن
يفعل ذلك فقد ظلم نفسه باستحقاقه العقوبة, ولا تتخذوا آيات الله وأحكامه
لعبًا ولهوًا. واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام وتفصيل الأحكام. واذكروا
ما أنزل الله عليكم من القرآن والسنة, واشكروا له سبحانه على هذه النعم
الجليلة, يُذكِّركم الله بهذا, ويخوفكم من المخالفة, فخافوا الله وراقبوه,
واعلموا أن الله عليم بكل شيء, لا يخفى عليه شيء, وسيجازي كلا بما يستحق.


وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا
بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ
وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)


واذا طلَّقتم نساءكم دون الثلاث وانتهت عدتهن من غير مراجعة لهن, فلا
تضيقوا -أيها الأولياء- على المطلقات بمنعهن من العودة إلى أزواجهن بعقد
جديد إذا أردن ذلك, وحدث التراضي شرعًا وعرفًا. ذلك يوعظ به من كان منكم
صادق الإيمان بالله واليوم الآخر. إن تَرْكَ العضل وتمكين الأزواج من نكاح
زوجاتهم أكثر نماء وطهارة لأعراضكم, وأعظم منفعة وثوابًا لكم. والله يعلم
ما فيه صلاحكم وأنتم لا تعلمون ذلك.


وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا
تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى
الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ
مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)


وعلى الوالدات إرضاع أولادهن مدة سنتين كاملتين لمن أراد إتمام الرضاعة,
ويجب على الآباء أن يكفُلوا للمرضعات المطلقات طعامهن وكسوتهن, على الوجه
المستحسن شرعًا وعرفًا; لأن الله لا يكلف نفسًا إلا قدر طاقتها, ولا يحل
للوالدين أن يجعلوا المولود وسيلة للمضارة بينهما, ويجب على الوارث عند
موت الوالد مثل ما يجب على الوالد قبل موته من النفقة والكسوة. فإن أراد
الوالدان فطام المولود قبل انتهاء السنتين فلا حرج عليهما إذا تراضيا
وتشاورا في ذلك; ليصلا إلى ما فيه مصلحة المولود. وإن اتفق الوالدان على
إرضاع المولود من مرضعة أخرى غير والدته فلا حرج عليهما, إذا سلَّم الوالد
للأم حقَّها، وسلَّم للمرضعة أجرها بما يتعارفه الناس. وخافوا الله في
جميع أحوالكم, واعلموا أن الله بما تعملون بصير, وسيجازيكم على ذلك.


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)


والذين يموتون منكم, ويتركون زوجات بعدهم, يجب عليهن الانتظار بأنفسهن مدة
أربعة أشهر وعشرة أيام, لا يخرجن من منزل الزوجية, ولا يتزيَّنَّ, ولا
يتزوجن, فإذا انتهت المدة المذكورة فلا إثم عليكم يا أولياء النساء فيما
يفعلن في أنفسهن من الخروج, والتزين, والزواج على الوجه المقرر شرعًا.
والله سبحانه وتعالى خبير بأعمالكم ظاهرها وباطنها, وسيجازيكم عليها.


وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَنْ
تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى
يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)


ولا إثم عليكم -أيها الرجال- فيما تُلَمِّحون به مِن طلب الزواج بالنساء
المتوفَّى عنهنَّ أزواجهن، أو المطلقات طلاقًا بائنًا في أثناء عدتهن, ولا
ذنب عليكم أيضًا فيما أضمرتموه في أنفسكم من نية الزواج بهن بعد انتهاء
عدتهن. علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدَّات, ولن تصبروا على السكوت
عنهن, لضعفكم; لذلك أباح لكم أن تذكروهن تلميحًا أو إضمارًا في النفس,
واحذروا أن تواعدوهن على النكاح سرًا بالزنى أو الاتفاق على الزواج في
أثناء العدة, إلا أن تقولوا قولا يُفْهَم منه أن مثلها يُرْغَبُ فيها
الأزواج, ولا تعزموا على عقد النكاح في زمان العدة حتى تنقضي مدتها.
واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فخافوه, واعلموا أن الله غفور لمن تاب
من ذنوبه, حليم على عباده لا يعجل عليهم بالعقوبة.


لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً
بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)


لا إثم عليكم -أيها الأزواج- إن طلقتم النساء بعد العقد عليهن, وقبل أن
تجامعوهن, أو تحددوا مهرًا لهن, ومتِّعوهن بشيء ينتفعن به جبرًا لهن,
ودفعًا لوحشة الطلاق, وإزالة للأحقاد. وهذه المتعة تجب بحسب حال الرجل
المطلِّق: على الغني قَدْر سَعَة رزقه, وعلى الفقير قَدْر ما يملكه, ًا
على الوجه المعروف شرعًا, وهو حق ثابت على الذين يحسنون إلى المطلقات وإلى
أنفسهم بطاعة الله.


وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ
يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ
تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)


وإن طلَّقتم النساء بعد العقد عليهن, ولم تجامعوهن, ولكنكم ألزمتم أنفسكم
بمهر محدد لهن, فيجب عليكم أن تعطوهن نصف المهر المتفق عليه, إلا أنْ
تُسامِح المطلقات, فيتركن نصف المهر المستحق لهن, أو يسمح الزوج بأن يترك
للمطلقة المهر كله, وتسامحكم أيها الرجال والنساء أقرب إلى خشية الله
وطاعته, ولا تنسوا -أيها الناس- الفضل والإحسان بينكم, وهو إعطاء ما ليس
بواجب عليكم, والتسامح في الحقوق. إن الله بما تعملون بصير, يُرغِّبكم في
المعروف, ويحثُّكم على الفضل


حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)


حافظوا -أيها المسلمون- على الصلوات الخمس المفروضة بالمداومة على أدائها
في أوقاتها بشروطها وأركانها وواجباتها, وحافظوا على الصلاة المتوسطة
بينها وهي صلاة العصر, وقوموا في صلاتكم مطيعين لله, خاشعين ذليلين.


فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
(239)


فإن خفتم من عدو لكم فصلوا صلاة الخوف ماشين, أو راكبين, على أي هيئة
تستطيعونها ولو بالإيماء, أو إلى غير جهة القبلة, فإذا زال خوفكم فصلُّوا
صلاة الأمن, واذكروا الله فيها, ولا تنقصوها عن هيئتها الأصلية, واشكروا
له على ما علَّمكم من أمور العبادات والأحكام ما لم تكونوا على علم به.


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً
لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ
خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ
مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)


والأزواج الذين يموتون ويتركون زوجات بعدهم, فعليهم وصيةً لهنَّ: أن
يُمَتَّعن سنه تامة من يوم الوفاة, بالسكنى في منزل الزوج من غير إخراج
الورثة لهن مدة السنة; جبرًا لخاطر الزوجة, وبرًا بالمتوفَّى. فإن خرجت
الزوجات باختيارهن قبل انقضاء السنة فلا إثم عليكم -أيها الورثة- في ذلك,
ولا حرج على الزوجات فيما فعلن في أنفسهن من أمور مباحة. والله عزيز في
ملكه, حكيم في أمره ونهيه. وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ( والذين
يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا).


وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)


وللمطلقات من كسوة ونفقة على الوجه المعروف المستحسن شرعًا, حقًا على الذين يخافون الله ويتقونه في أمره ونهيه.


كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)


مثل ذلك البيان الواضح في أحكام الأولاد والنساء, يبيِّن الله لكم آياته
وأحكامه في كل ما تحتاجونه في معاشكم ومعادكم; لكي تعقلوها وتعملوا بها.


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ
حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَشْكُرُونَ (243)


ألم تعلم -أيها الرسول- قصة الذين فرُّوا من أرضهم ومنازلهم, وهم ألوف
كثيرة; خشية الموت من الطاعون أو القتال, فقال لهم الله: موتوا, فماتوا
دفعة واحدة عقوبة على فرارهم من قدر الله, ثم أحياهم الله تعالى بعد مدة;
ليستوفوا آجالهم, وليتعظوا ويتوبوا؟ إن الله لذو فضل عظيم على الناس بنعمه
الكثيرة, ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضل الله عليهم.


وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)


وقاتلوا -أيها المسلمون- الكفار لنصرة دين الله, واعلموا أن الله سميع لأقوالكم, عليم بنيَّاتكم وأعمالكم.


مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (245)


من ذا الذي ينفق في سبيل الله إنفاقًا حسنًا احتسابًا للأجر, فيضاعفه له
أضعافا كثيرة لا تحصى من الثواب وحسن الجزاء؟ والله يقبض ويبسط, فأنفقوا
ولا تبالوا; فإنه هو الرزاق, يُضيِّق على مَن يشاء من عباده في الرزق,
ويوسعه على آخرين, له الحكمة البالغة في ذلك, وإليه وحده ترجعون بعد
الموت, فيجازيكم على أعمالكم


أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ
أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا
كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)


ألم تعلم -أيها الرسول- قصة الأشراف والوجهاء من بني إسرائيل من بعد زمان
موسى; حين طلبوا من نبيهم أن يولي عليهم ملكا, يجتمعون تحت قيادته,
ويقاتلون أعداءهم في سبيل الله. قال لهم نبيهم: هل الأمر كما أتوقعه إنْ
فُرِض عليكم القتال في سبيل الله أنكم لا تقاتلون; فإني أتوقع جبنكم
وفراركم من القتال, قالوا مستنكرين توقع نبيهم: وأي مانع يمنعنا عن القتال
في سبيل الله, وقد أَخْرَجَنَا عدوُّنا من ديارنا, وأبعدنا عن أولادنا
بالقتل والأسر؟ فلما فرض الله عليهم القتال مع الملِك الذي عيَّنه لهم
جَبُنوا وفرُّوا عن القتال, إلا قليلا منهم ثبتوا بفضل الله. والله عليم
بالظالمين الناكثين عهودهم.


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ
مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ
أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (247)


وقال لهم نبيهم: إن الله قد أرسل إليكم طالوت مَلِكًا إجابة لطلبكم,
يقودكم لقتال عدوكم كما طلبتم. قال كبراء بني إسرائيل: كيف يكون طالوت
مَلِكًا علينا, وهو لا يستحق ذلك؟ لأنه ليس من سبط الملوك, ولا من بيت
النبوة, ولم يُعْط كثرة في الأموال يستعين بها في ملكه, فنحن أحق بالملك
منه; لأننا من سبط الملوك ومن بيت النبوة. قال لهم نبيهم: إن الله اختاره
عليكم وهو سبحانه أعلم بأمور عباده, وزاده سَعَة في العلم وقوة في الجسم
ليجاهد العدو. والله مالك الملك يعطي ملكه مَن يشاء من عباده, والله واسع
الفضل والعطاء, عليم بحقائق الأمور, لا يخفى عليه شيء.


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ
التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ
آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)


وقال لهم نبيهم: إن علامة ملكه أن يأتيكم الصندوق الذي فيه التوراة -وكان
أعداؤهم قد انتزعوه منهم- فيه طمأنينة من ربكم تثبت قلوب المخلصين, وفيه
بقية من بعض أشياء تركها آل موسى وآل هارون, مثل العصا وفُتات الألواح
تحمله الملائكة. إن في ذلك لأعظم برهان لكم على اختيار طالوت ملكًا عليكم
بأمر الله, إن كنتم مصدقين بالله ورسله.


فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ
فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا
مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ
وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ
مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)


فلما خرج طالوت بجنوده لقتال العمالقة قال لهم: إن الله ممتحنكم على الصبر
بنهر أمامكم تعبرونه; ليتميَّز المؤمن من المنافق, فمن شرب منكم من ماء
النهر فليس مني, ولا يصلح للجهاد معي, ومن لم يذق الماء فإنه مني; لأنه
مطيع لأمري وصالح للجهاد, إلا مَن ترخَّص واغترف غُرْفة واحدة بيده فلا
لوم عليه. فلما وصلوا إلى النهر انكبوا على الماء, وأفرطوا في الشرب منه,
إلا عددًا قليلا منهم صبروا على العطش والحر, واكتفوا بغُرْفة اليد,
وحينئذ تخلف العصاة. ولما عبر طالوت النهر هو والقلة المؤمنة معه -وهم
ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا لملاقاة العدو, ورأوا كثرة عدوهم وعدَّتهم,
قالوا: لا قدرة لنا اليوم بجالوت وجنوده الأشداء, فأجاب الذين يوقنون
بلقاء الله, يُذَكِّرون إخوانهم بالله وقدرته قائلين: كم من جماعة قليلة
مؤمنة صابرة, غلبت بإذن الله وأمره جماعة كثيرة كافرة باغية. والله مع
الصابرين بتوفيقه ونصره, وحسن مثوبته.


وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ
عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ (250)


ولما ظهروا لجالوت وجنوده, ورأوا الخطر رأي العين, فزعوا إلى الله بالدعاء
والضراعة قائلين: ربنا أنزل على قلوبنا صبرًا عظيمًا, وثبت أقدامنا,
واجعلها راسخة في قتال العدو, لا تفر مِن هول الحرب, وانصرنا بعونك
وتأييدك على القوم الكافرين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 9:59 pm

سورة البقرة الآيات ( 286:251 )
بسم الله الرحمن الرحيم
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ
وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
فهزموهم بإذن الله, وقتل داود -عليه السلام- جالوتَ قائدَ الجبابرة, وأعطى
الله عز وجل داود بعد ذلك الملك والنبوة في بني إسرائيل, وعَلَّمه مما
يشاء من العلوم. ولولا أن يدفع الله ببعض الناس -وهم أهل الطاعة له
والإيمان به- بعضًا, وهم أهل المعصية لله والشرك به, لفسدت الأرض بغلبة
الكفر, وتمكُّن الطغيان, وأهل المعاصي, ولكن الله ذو فضل على المخلوقين
جميعًا.
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (252)
تلك حجج الله وبراهينه, نقصُّها عليك -أيها النبي- بالصدق, وإنك لمن المرسلين الصادقين.
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ
وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
هؤلاء الرسل الكرام فضَّل الله بعضهم على بعض, بحسب ما منَّ الله به
عليهم: فمنهم مَن كلمه الله كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام, وفي هذا
إثبات صفة الكلام لله عز وجل على الوجه اللائق بجلاله, ومنهم مَن رفعه
الله درجاتٍ عاليةً كمحمد صلى الله عليه وسلم, بعموم رسالته, وختم النبوة
به, وتفضيل أمته على جميع الأمم, وغير ذلك. وآتى الله تعالى عيسى ابن مريم
عليه السلام البينات المعجزات الباهرات, كإبراء مَن ولد أعمى بإذن الله
تعالى, ومَن به برص بإذن الله, وكإحيائه الموتى بإذن الله, وأيده بجبريل
عليه السلام. ولو شاء الله ألا يقتتل الذين جاؤوا مِن بعد هؤلاء الرسل مِن
بعد ما جاءتهم البينات ما اقتتلوا, ولكن وقع الاختلاف بينهم: فمنهم مَن
ثبت على إيمانه, ومنهم مَن أصر على كفره. ولو شاء الله بعد ما وقع
الاختلاف بينهم, الموجب للاقتتال, ما اقتتلوا, ولكن الله يوفق مَن يشاء
لطاعته والإيمان به, ويخذل مَن يشاء, فيعصيه ويكفر به، فهو يفعل ما يشاء
ويختار.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ
وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ (254)
يا من آمنتم بالله وصدَّقتم رسوله وعملتم بهديه أخرجوا الزكاة المفروضة,
وتصدَّقوا مما أعطاكم الله قبل مجيء يوم القيامة حين لا بيع فيكون ربح,
ولا مال تفتدون به أنفسكم مِن عذاب الله, ولا صداقة صديق تُنقذكم, ولا
شافع يملك تخفيف العذاب عنكم. والكافرون هم الظالمون المتجاوزون حدود الله.
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا
الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا
يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
الله الذي لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو, الحيُّ الذي له جميع معاني
الحياة الكاملة كما يليق بجلاله, القائم على كل شيء, لا تأخذه سِنَة أي:
نعاس, ولا نوم, كل ما في السموات وما في الأرض ملك له, ولا يتجاسر أحد أن
يشفع عنده إلا بإذنه, محيط علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها,
يعلم ما بين أيدي الخلائق من الأمور المستقبلة, وما خلفهم من الأمور
الماضية, ولا يَطَّلعُ أحد من الخلق على شيء من علمه إلا بما أعلمه الله
وأطلعه عليه. وسع كرسيه السموات والأرض, والكرسي: هو موضع قدمي الرب -جل
جلاله- ولا يعلم كيفيته إلا الله سبحانه, ولا يثقله سبحانه حفظهما, وهو
العلي بذاته وصفاته على جميع مخلوقاته, الجامع لجميع صفات العظمة
والكبرياء. وهذه الآية أعظم آية في القرآن, وتسمى: (آية الكرسي).
لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(256)
لكمال هذا الدين واتضاح آياته لا يُحتاج إلى الإكراه عليه لمن تُقبل منهم
الجزية, فالدلائل بينة يتضح بها الحق من الباطل, والهدى من الضلال. فَمَن
يكفر بكل ما عُبِد من دون الله ويؤمن بالله, فقد ثبت واستقام على الطريقة
المثلى, واستمسك من الدين بأقوى سبب لا انقطاع له. والله سميع لأقوال
عباده, عليم بأفعالهم ونياتهم, وسيجازيهم على ذلك.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
الله يتولى المؤمنين بنصره وتوفيقه وحفظه, يخرجهم من ظلمات الكفر, إلى نور
الإيمان. والذين كفروا أنصارهم وأولياؤهم الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم
من دون الله, يُخرجونهم من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر, أولئك أصحاب
النار الملازمون لها, هم فيها باقون بقاء أبديًا لا يخرجون منها.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ
اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (258)
هل رأيت -أيها الرسول- أعجب مِن حال هذا الذي جادل إبراهيم عليه السلام في
توحيد الله تعالى وربوبيته; لأن الله أعطاه المُلْك فتجبَّر وسأل
إبراهيمَ: مَن ربُّك؟ فقال عليه السلام: ربي الذي يحيي الخلائق فتحيا,
ويسلبها الحياة فتموت, فهو المتفرد بالإحياء والإماتة, قال: أنا أحيي
وأميت, أي أقتل مَن أردتُ قَتْلَه, وأستبقي مَن أردت استبقاءه, فقال له
إبراهيم: إن الله الذي أعبده يأتي بالشمس من المشرق, فهل تستطيع تغيير هذه
السُّنَّة الإلهية بأن تجعلها تأتي من المغرب; فتحيَّر هذا الكافر وانقطعت
حجته, شأنه شأن الظالمين لا يهديهم الله إلى الحق والصواب.
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ
اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ
إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ
أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
أو هل رأيت -أيها الرسول- مثل الذي مرَّ على قرية قد تهدَّمت دورها,
وخَوَتْ على عروشها, فقال: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها؟ فأماته
الله مائة عام, ثم ردَّ إليه روحه, وقال له: كم قدر الزمان الذي لبثت
ميتًا؟ قال: بقيت يومًا أو بعض يوم, فأخبره بأنه بقي ميتًا مائة عام,
وأمره أن ينظر إلى طعامه وشرابه, وكيف حفظهما الله من التغيُّر هذه المدة
الطويلة, وأمره أن ينظر إلى حماره كيف أحياه الله بعد أن كان عظامًا
متفرقة؟ وقال له: ولنجعلك آية للناس, أي: دلالة ظاهرة على قدرة الله على
البعث بعد الموت, وأمره أن ينظر إلى العظام كيف يرفع الله بعضها على بعض,
ويصل بعضها ببعض, ثم يكسوها بعد الالتئام لحمًا, ثم يعيد فيها الحياة؟
فلما اتضح له ذلك عِيانًا اعترف بعظمة الله, وأنه على كل شيء قدير, وصار
آية للناس.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ
عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ
سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
واذكر -أيها الرسول- طلب إبراهيم من ربه أن يريه كيفية البعث, فقال الله
له: أَوَلم تؤمن؟ قال: بلى, ولكن أطلب ذلك لأزداد يقينًا على يقيني, قال:
فخذ أربعة من الطير فاضممهن إليك واذبحهن وقطعهن, ثم اجعل على كل جبل منهن
جزءًا, ثم نادِهن يأتينك مسرعات. فنادى إبراهيم عليه السلام, فإذا كل جزء
يعود إلى موضعه, وإذا بها تأتي مسرعة. واعلم أن الله عزيز لا يغلبه شيء,
حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ
حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(261)
ومِن أعظم ما ينتفع به المؤمنون الإنفاقُ في سبيل الله. ومثل المؤمنين
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة زُرِعتْ في أرض طيبة, فإذا
بها قد أخرجت ساقًا تشعب منها سبع شعب, لكل واحدة سنبلة, في كل سنبلة مائة
حبة. والله يضاعف الأجر لمن يشاء, بحسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان
والإخلاص التام. وفضل الله واسع, وهو سبحانه عليم بمن يستحقه, مطلع على
نيات عباده.
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا
يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
الذين يخرجون أموالهم في الجهاد وأنواع الخير, ثم لا يتبعون ما أنفقوا من
الخيرات مَنّاً على مَن أعطَوه ولا أذى بقول أو فِعْلٍ يشعره بالتفضل
عليه, لهم ثوابهم العظيم عند ربهم, ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر
الآخرة, ولا هم يحزنون على شيء فاتهم في هذه الدنيا.
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
كلام طيب وعفو عما بدر مِن السائل مِن إلحافٍ في السؤال, خير من صدقة
يتبعها من المتصدق أذى وإساءة. والله غني عن صدقات العباد, حليم لا
يعاجلهم بالعقوبة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ
تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى
شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
(264)
يا من آمنتم بالله واليوم الآخر لا تُذْهِبُوا ثواب ما تتصدقون به بالمنِّ
والأذى, فهذا شبيه بالذي يخرج ماله ليراه الناس, فيُثنوا عليه, وهو لا
يؤمن بالله ولا يوقن باليوم الآخر, فمثل ذلك مثل حجر أملس عليه تراب هطل
عليه مطر غزير فأزاح عنه التراب, فتركه أملس لا شيء عليه, فكذلك هؤلاء
المراؤون تضمحلُّ أعمالهم عند الله, ولا يجدون شيئًا من الثواب على ما
أنفقوه. والله لا يوفق الكافرين لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها.
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ
اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ
أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا
وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
ومثل الذين ينفقون أموالهم طلبًا لرضا الله واعتقادًا راسخًا بصدق وعده,
كمثل بستان عظيم بأرض عالية طيبة هطلت عليه أمطار غزيرة, فتضاعفت ثمراته,
وإن لم تسقط عليه الأمطار الغزيرة فيكفيه رذاذ المطر ليعطي الثمرة
المضاعفة, وكذلك نفقات المخلصين تُقبل عند الله وتُضاعف, قلَّت أم كثُرت,
فالله المُطَّلِع على السرائر, البصير بالظواهر والبواطن, يثيب كلا بحسب
إخلاصه.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا
إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
أيرغب الواحد منكم أن يكون له بستان فيه النخيل والأعناب, تجري من تحت
أشجارِه المياه العذبة, وله فيه من كل ألوان الثمرات, وقد بلغ الكِبَر,
ولا يستطيع أن يغرس مثل هذا الغرس, وله أولاد صغار في حاجة إلى هذا
البستان وفي هذه الحالة هبَّت عليه ريح شديدة, فيها نار محرقة فأحرقته;
وهكذا حال غير المخلصين في نفقاتهم, يأتون يوم القيامة ولا حسنة لهم.
وبمثل هذا البيان يبيِّن الله لكم ما ينفعكم; كي تتأملوا, فتخلصوا نفقاتكم
لله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ
مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
يا من آمنتم بي واتبعتم رسلي أنفقوا من الحلال الطيب الذي كسبتموه ومما
أخرجنا لكم من الأرض, ولا تقصدوا الرديء منه لتعطوه الفقراء, ولو
أُعطِيتموه لم تأخذوه إلا إذا تغاضيتم عما فيه من رداءة ونقص. فكيف ترضون
لله ما لا ترضونه لأنفسكم؟ واعلموا أن الله الذي رزقكم غني عن صدقاتكم,
مستحق للثناء, محمود في كل حال.
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (268)
هذا البخل واختيار الرديء للصدقة من الشيطان الذي يخوفكم الفقر, ويغريكم
بالبخل, ويأمركم بالمعاصي ومخالفة الله تعالى, والله سبحانه وتعالى يعدكم
على إنفاقكم غفرانًا لذنوبكم ورزقا واسعا. والله واسع الفضل, عليم
بالأعمال والنيَّات.
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ
(269)
يؤتي الله الإصابة في القول والفعل مَن يشاء من عباده, ومن أنعم الله عليه
بذلك فقد أعطاه خيرًا كثيرًا. وما يتذكر هذا وينتفع به إلا أصحاب العقول
المستنيرة بنور الله وهدايته.
وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270)
وما أعطيتم من مال أو غيره كثير أو قليل تتصدقون به ابتغاء مرضات الله أو
أوجبتم على أنفسكم شيئًا من مال أو غيره, فإن الله يعلمه, وهو المُطَّلِع
على نياتكم, وسوف يثيبكم على ذلك. ومَن منع حق الله فهو ظالم, والظالمون
ليس لهم أنصار يمنعونهم من عذاب الله.
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ
مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
إن تظهروا ما تتصدقون به لله فنِعْمَ ما تصدقتم به, وإن تسرُّوا بها,
وتعطوها الفقراء فهذا أفضل لكم; لأنه أبعد عن الرياء, وفي الصدقة -مع
الإخلاص- محو لذنوبكم. والله الذي يعلم دقائق الأمور, لا يخفى عليه شيء من
أحوالكم, وسيجازي كلا بعمله.
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا
تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ
وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)
لست -أيها الرسول- مسئولا عن توفيق الكافرين للهداية, ولكن الله يشرح صدور
مَن يشاء لدينه, ويوفقه له. وما تبذلوا من مال يَعُدْ عليكم نَفْعُه من
الله, والمؤمنون لا ينفقون إلا طلبًا لمرضاة الله. وما تنفقوا من مال
-مخلصين لله- توفوا ثوابه, ولا تُنْقَصُوا شيئا من ذلك. وفي الآية إثبات
صفة الوجه لله تعالى على ما يليق به سبحانه.
لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ
التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ
إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
(273)
اجعلوا صدقاتكم لفقراء المسلمين الذين لا يستطيعون السفر; طلبًا للرزق
لاشتغالهم بالجهاد في سبيل الله, يظنهم مَن لا يعرفهم غير محتاجين إلى
الصدقة; لتعففهم عن السؤال, تعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم, لا
يسألون الناس بالكُليَّة, وإن سألوا اضطرارًا لم يُلِحُّوا في السؤال. وما
تنفقوا مِن مال في سبيل الله فلا يخفى على الله شيء منه, وسيجزي عليه أوفر
الجزاء وأتمَّه يوم القيامة.
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً
وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
الذين يُخْرجون أموالهم مرضاة لله ليلا ونهارًا مسرِّين ومعلنين, فلهم
أجرهم عند ربهم, ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة, ولا هم
يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا. ذلك التشريع الإلهي الحكيم هو منهاج
الإسلام في الإنفاق لما فيه مِن سدِّ حاجة الفقراء في كرامة وعزة, وتطهير
مال الأغنياء, وتحقيق التعاون على البر والتقوى; ابتغاء وجه الله دون قهر
أو إكراه.
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى
فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
الذين يتعاملون بالربا -وهو الزيادة على رأس المال- لا يقومون في الآخرة
من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من الجنون; ذلك لأنهم قالوا:
إنما البيع مثل الربا, في أن كلا منهما حلال, ويؤدي إلى زيادة المال,
فأكذبهم الله, وبيَّن أنه أحل البيع وحرَّم الربا; لما في البيع والشراء
من نفع للأفراد والجماعات, ولما في الربا من استغلال وضياع وهلاك. فمن
بلغه نهي الله عن الربا فارتدع, فله ما مضى قبل أن يبلغه التحريم لا إثم
عليه فيه, وأمره إلى الله فيما يستقبل من زمانه, فإن استمرَّ على توبته
فالله لا يضيع أجر المحسنين, ومن عاد إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله
عنه, فقد استوجب العقوبة, وقامت عليه الحجة, ولهذا قال سبحانه:
(فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
يذهب الله الربا كله أو يحرم صاحبه بركة ماله, فلا ينتفع به، وينمي
الصدقات ويكثرها، ويضاعف الأجر للمتصدقين, ويبارك لهم في أموالهم. والله
لا يحب كل مُصِرٍّ على كفره, مُسْتَحِلٍّ أكل الربا, متمادٍ في الإثم
والحرام ومعاصي الله.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
إن الذين صدقوا الله ورسوله, وعملوا الأعمال الطيبة, وأدَّوا الصلاة كما
أمر الله ورسوله, وأخرجوا زكاة أموالهم, لهم ثواب عظيم خاص بهم عند ربهم
ورازقهم, ولا يلحقهم خوف في آخرتهم, ولا حزن على ما فاتهم من حظوظ دنياهم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
يا من آمنتم بالله واتبعتم رسوله خافوا الله, واتركوا طلب ما بقي لكم من
زيادة على رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل تحريم الربا, إن كنتم محققين
إيمانكم قولا وعملا.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا
تُظْلَمُونَ (279)
فإن لم ترتدعوا عما نهاكم الله عنه فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله, وإن
رجعتم إلى ربكم وتركتم أَكْلَ الربا فلكم أَخْذُ ما لكم من ديون دون
زيادة, لا تَظْلمون أحدًا بأخذ ما زاد على رؤوس أموالكم, ولا يظلمكم أحد
بنقص ما أقرضتم.
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
وإن كان المدين غير قادر على السداد فأمهلوه إلى أن ييسِّر الله له رزقًا
فيدفع إليكم مالكم, وإن تتركوا رأس المال كله أو بعضه وتضعوه عن المدين
فهو أفضل لكم, إن كنتم تعلمون فَضْلَ ذلك, وأنَّه خير لكم في الدنيا
والآخرة.
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)
واحذروا -أيها الناس- يومًا ترجعون فيه إلى الله, وهو يوم القيامة, حيث
تعرضون على الله ليحاسبكم, فيجازي كل واحد منكم بما عمل من خير أو شر دون
أن يناله ظلم. وفي الآية إشارة إلى أن اجتناب ما حرم الله من المكاسب
الربوية, تكميل للإيمان وحقوقه من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وعمل
الصالحات.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا
يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ
وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا
يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً
أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ
فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا
تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى
أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً
تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ
تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ
وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
يا من آمنتم بالله واتبعتم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم إذا تعاملتم
بدَيْن إلى وقت معلوم فاكتبوه; حفظًا للمال ودفعًا للنزاع. ولْيقُم
بالكتابة رجل أمين ضابط, ولا يمتنع مَن علَّمه الله الكتابة عن ذلك,
ولْيقم المدين بإملاء ما عليه من الدَّيْن, وليراقب ربه, ولا ينقص من دينه
شيئا. فإن كان المدين محجورًا عليه لتبذيره وإسرافه, أو كان صغيرًا أو
مجنونًا, أو لا يستطيع النطق لخرس به أو عدم قدرة كاملة على الكلام,
فليتولَّ الإملاء عن المدين القائم بأمره, واطلبوا شهادة رجلين مسلمَيْن
بالِغَيْن عاقلَيْن من أهل العدالة. فإن لم يوجد رجلان, فاطلبوا شهادة رجل
وامرأتين ترضون شهادتهم, حتى إذا نَسِيَتْ إحداهما ذكَّرتها الأخرى, وعلى
الشهداء أن يجيبوا مَن دعاهم إلى الشهادة, وعليهم أداؤها إذا ما دعوا
إليها, ولا تَمَلُّوا من كتابة الدَّين قليلا أو كثيرًا إلى وقته المعلوم.
ذلكم أعدل في شرع الله وهديه, وأعظم عونًا على إقامة الشهادة وأدائها,
وأقرب إلى نفي الشك في جنس الدَّين وقدره وأجله. لكن إن كانت المسألة
مسألة بيع وشراء، بأخذ سلعة ودفع ثمنها في الحال، فلا حاجة إلى الكتابة,
ويستحب الإشهاد على ذلك منعًا للنزاع والشقاق، ومن الواجب على الشاهد
والكاتب أداء الشهادة على وجهها والكتابة كما أمر الله. ولا يجوز لصاحب
الحق ومَن عليه الحق الإضرار بالكُتَّاب والشهود، وكذلك لا يجوز للكُتَّاب
والشهود أن يضارُّوا بمن احتاج إلى كتابتهم أو شهادتهم، وإن تفعلوا ما
نهيتم عنه فإنه خروج عن طاعة الله، وعاقبة ذلك حالَّة بكم. وخافوا الله في
جميع ما أمركم به، ونهاكم عنه، ويعلمكم الله جميع ما يصلح دنياكم وأخراكم.
والله بكل شيء عليم، فلا يخفى عليه شيء من أموركم، وسيجازيكم على ذلك
وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ
مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا مَن يكتب لكم فادفعوا إلى صاحب الحق شيئًا
يكون عنده ضمانًا لحقِّه إلى أن يردَّ المدينُ ما عليه من دين, فإن وثق
بعضكم ببعض فلا حرج في ترك الكتابة والإشهاد والرهن, ويبقى الدَّين أمانة
في ذمَّة المدين, عليه أداؤه, وعليه أن يراقب الله فلا يخون صاحبه. فإن
أنكر المدين ما عليه من دين, وكان هناك مَن حضر وشهد, فعليه أن يظهر
شهادته, ومن أخفى هذه الشهادة فهو صاحب قلب غادر فاجر. والله المُطَّلِع
على السرائر, المحيط علمه بكل أموركم, سيحاسبكم على ذلك.
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(284)
لله ملك السموات والأرض وما فيهما ملكًا وتدبيرًا وإحاطة, لا يخفى عليه
شيء. وما تظهروه مما في أنفسكم أو تخفوه فإن الله يعلمه, وسيحاسبكم به,
فيعفو عمن يشاء, ويؤاخذ من يشاء. والله قادر على كل شيء, وقد أكرم الله
المسلمين بعد ذلك فعفا عن حديث النفس وخطرات القلب ما لم يتبعها كلام أو
عمل, كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ
رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
صدَّق وأيقن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه من ربه
وحُقَّ له أن يُوقن, والمؤمنون كذلك صدقوا وعملوا بالقرآن العظيم, كل منهم
صدَّق بالله رباً وإلهًا متصفًا بصفات الجلال والكمال, وأن لله ملائكة
كرامًا, وأنه أنزل كتبًا, وأرسل إلى خلقه رسلا لا نؤمن -نحن المؤمنين-
ببعضهم وننكر بعضهم, بل نؤمن بهم جميعًا. وقال الرسول والمؤمنون: سمعنا يا
ربنا ما أوحيت به, وأطعنا في كل ذلك, نرجو أن تغفر -بفضلك- ذنوبنا, فأنت
الذي ربَّيتنا بما أنعمت به علينا, وإليك -وحدك- مرجعنا ومصيرنا.
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا
طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ
مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
دين الله يسر لا مشقة فيه, فلا يطلب الله مِن عباده ما لا يطيقونه, فمن
فعل خيرًا نال خيرًا, ومن فعل شرّاً نال شرّاً. ربنا لا تعاقبنا إن نسينا
شيئًا مما افترضته علينا, أو أخطأنا في فِعْل شيء نهيتنا عن فعله, ربَّنا
ولا تكلفنا من الأعمال الشاقة ما كلفته مَن قبلنا من العصاة عقوبة لهم,
ربنا ولا تُحَمِّلْنَا ما لا نستطيعه من التكاليف والمصائب, وامح ذنوبنا,
واستر عيوبنا, وأحسن إلينا, أنت مالك أمرنا ومدبره, فانصرنا على مَن جحدوا
دينك وأنكروا وحدانيتك, وكذَّبوا نبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم, واجعل
العاقبة لنا عليهم في الدنيا والآخرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 9:59 pm

سورة أل عمران ( الآيات 50:1 )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
هو الله, لا معبود بحق إلا هو, المتصف بالحياة الكاملة كما يليق بجلاله, القائم على كل شيء.
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
نَزَّل عيك القرآن بالحق الذي لا ريب فيه, مصدِّقًا لما قبله من كتب ورسل,
وأنزل التوراة على موسى علبه السلام, والإنجيل على عيسى عليه السلام من
قبل نزول القرآن; لإرشاد المتقين إلى الإيمان, وصلاح دينهم ودنياهم, وأنزل
ما يفرق بين الحق والباطل. والذين كفروا بآيات الله المنزلة, لهم عذاب
عظيم. والله عزيز لا يُغَالَب, ذو انتقام بمن جحد حججه وأدلته, وتفرُّده
بالألوهية.
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5)
إن الله محيط علمه بالخلائق, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء, قلَّ أو كثر.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
هو وحده الذي يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء, من ذكر وأنثى, وحسن
وقبيح, وشقي وسعيد, لا معبود بحق سواه, العزيز الذي لا يُغالَب, الحكيم في
أمره وتدبيره.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7)
هو وحده الذي أنزل عليك القرآن: منه آيات واضحات الدلالة, هن أصل الكتاب
الذي يُرجع إليه عند الاشتباه, ويُرَدُّ ما خالفه إليه, ومنه آيات أخر
متشابهات تحتمل بعض المعاني, لا يتعيَّن المراد منها إلا بضمها إلى
المحكم, فأصحاب القلوب المريضة الزائغة, لسوء قصدهم يتبعون هذه الآيات
المتشابهات وحدها; ليثيروا الشبهات عند الناس, كي يضلوهم, ولتأويلهم لها
على مذاهبهم الباطلة. ولا يعلم حقيقة معاني هذه الآيات إلا الله.
والمتمكنون في العلم يقولون: آمنا بهذا القرآن, كله قد جاءنا من عند ربنا
على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, ويردُّون متشابهه إلى محكمه,
وإنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها الصحيح أولو العقول السليمة.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (Cool
ويقولون: يا ربنا لا تَصْرِف قلوبنا عن الإيمان بك بعد أن مننت علينا
بالهداية لدينك, وامنحنا من فضلك رحمة واسعة, إنك أنت الوهاب: كثير الفضل
والعطاء, تعطي مَن تشاء بغير حساب.
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
يا ربنا إنا نُقِرُّ ونشهد بأنك ستجمع الناس في يوم لا شَكَّ فيه, وهو يوم القيامة, إنَّك لا تُخلف ما وعَدْتَ به عبادك.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا
أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ
(10)
إن الذين جحدوا الدين الحق وأنكروه, لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم من
عذاب الله شيئًا إن وقع بهم في الدنيا, ولن تدفعه عنهم في الآخرة, وهؤلاء
هم حطب النار يوم القيامة.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (11)
شأن الكافرين في تكذيبهم وما ينزل بهم, شأن آل فرعون والذين من قبلهم من
الكافرين, أنكروا آيات الله الواضحة, فعاجلهم بالعقوبة بسبب تكذيبهم
وعنادهم. والله شديد العقاب لمن كفر به وكذَّب رسله.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
قل -أيها الرسول-، للذين كفروا من اليهود وغيرهم والذين استهانوا بنصرك في
"بَدْر": إنكم ستُهْزَمون في الدنيا وستموتون على الكفر, وتحشرون إلى نار
جهنم; لتكون فراشًا دائمًا لكم, وبئس الفراش
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ (13)
قد كان لكم -أيها اليهود المتكبرون المعاندون- دلالة عظيمة في جماعتين
تقابلتا في معركة "بَدْر": جماعة تقاتل من أجل دين الله, وهم محمد صلى
الله عليه وسلم وأصحابه, وجماعة أخرى كافرة بالله, تقاتل من أجل الباطل,
ترى المؤمنين في العدد مثليهم رأي العين, وقد جعل الله ذلك سببًا لنصر
المسلمين علبهم. والله يؤيِّد بنصره من يشاء من عباده. إن في هذا الذي حدث
لَعِظة عظيمة لأصحاب البصائر الذين يهتدون إلى حكم الله وأفعاله.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
حُسِّن للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين, والأموال الكثيرة من الذهب
والفضة, والخيل الحسان, والأنعام من الإبل والبقر والغنم, والأرض
المتَّخَذة للغراس والزراعة. ذلك زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية.
والله عنده حسن المرجع والثواب, وهو الجنَّة.
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ
رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
قل -أيها الرسول- : أأخبركم بخير مما زُيِّن للنَّاس في هذه الحياة
الدنيا, لمن راقب الله وخاف عقابه جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها
الأنهار, خالدين فيها, ولهم فيها أزواج مطهرات من الحيض والنفاس وسوء
الخلق, ولهم أعظم من ذلك: رضوان من الله. والله مطَّلِع على سرائر خلقه,
عالم بأحوالهم, وسيجازيهم على ذلك
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)
هؤلاء العباد المتقون يقولون: إننا آمنا بك, واتبعنا رسولك محمدًا صلى
الله عليه وسلم, فامْحُ عنا ما اقترفناه من ذنوب, ونجنا من عذاب النار.
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)
هم الذين اتصفوا بالصبر على الطاعات, وعن المعاصي, وعلى ما يصيبهم من
أقدار الله المؤلمة, وبالصدق في الأقوال والأفعال وبالطاعة التامة,
وبالإنفاق سرا وعلانية, وبالاستغفار في آخر الليل; لأنه مَظِنَّة القبول
وإجابة الدعاء.
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا
الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (18)
شهد الله أنه المتفرد بالإلهية, وقَرَنَ شهادته بشهادة الملائكة وأهل
العلم, على أجلِّ مشهود عليه, وهو توحيده تعالى وقيامه بالعدل, لا إله إلا
هو العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء أراده, الحكيم في أقواله وأفعاله
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً
بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ (19)
إن الدين الذي ارتضاه الله لخلقه وأرسل به رسله, ولا يَقْبَل غيره هو
الإسلام, وهو الانقياد لله وحده بالطاعة والاستسلام له بالعبودية, واتباع
الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى خُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم,
الذي لا يقبل الله مِن أحد بعد بعثته دينًا سوى الإسلام الذي أُرسل به.
وما وقع الخلاف بين أهل الكتاب من اليهود والنصارى, فتفرقوا شيعًا
وأحزابًا إلا من بعد ما قامت الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب;
بغيًا وحسدًا طلبًا للدنيا. ومن يجحد آيات الله المنزلة وآياته الدالة على
ربوبيته وألوهيته, فإن الله سريع الحساب, وسيجزيهم بما كانوا يعملون.
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ
فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
فإن جادلك -أيها الرسول- أهل الكتاب في التوحيد بعد أن أقمت الحجة عليهم
فقل لهم: إنني أخلصت لله وحده فلا أشرك به أحدًا, وكذلك من اتبعني من
المؤمنين, أخلصوا لله وانقادوا له. وقل لهم ولمشركي العرب وغيرهم: إن
أسلمتم فأنتم على الطريق المستقيم والهدى والحق, وإن توليتم فحسابكم على
الله, وليس عليَّ إلا البلاغ, وقد أبلغتكم وأقمت عليكم الحجة. والله بصير
بالعباد, لا يخفى عليه من أمرهم شيء.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
إن الذين يجحدون بالدلائل الواضحة وما جاء به المرسلون, ويقتلون أنبياء
الله ظلمًا بغير حق, ويقتلون الذين يأمرون بالعدل واتباع طريق الأنبياء,
فبشِّرهم بعذاب موجع.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
أولئك الذين بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة, فلا يُقبل لهم عمل, وما لهم من ناصرٍ ينصرهم من عذاب الله.
أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ
يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
أرأيت -أيها الرسول- أعجب من حال هؤلاء اليهود الذين أتاهم الله حظا من
الكتاب فعلموا أن ما جئت به هو الحق, يُدْعون إلى ما جاء في كتاب الله
-وهو القرآن- ليفصل بينهم فيما اختلفوا فيه, فإن لم يوافق أهواءهم يَأْبَ
كثير منهم حكم الله; لأن من عادتهم الإعراض عن الحق؟
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً
مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
ذلك الانصراف عن الحق سببه اعتقاد فاسد لدى أهل الكتاب; بأنهم لن يعذَّبوا
إلا أيامًا قليلة, وهذا الاعتقاد أدى إلى جرأتهم على الله واستهانتهم
بدينه, واستمرارهم على دينهم الباطل الذي خَدَعوا به أنفسهم.
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)
فكيف يكون حالهم إذا جمعهم الله ليحاسَبوا في يوم لا شك في وقوعه -وهو يوم
القيامة-، وأخذ كل واحد جزاءَ ما اكتسب, وهم لا يظلمون شيئا؟
قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ
مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
قل -أيها النبي متوجها إلى ربك بالدعاء-: يا مَن لك الملك كلُّه, أنت الذي
تمنح الملك والمال والتمكين في الأرض مَن تشاء مِن خلقك, وتسلب الملك ممن
تشاء, وتهب العزة في الدنيا والآخرة مَن تشاء, وتجعل الذلَّة على من تشاء,
بيدك الخير, إنك -وحدك- على كل شيء قدير. وفي الآية إثبات لصفة اليد لله
تعالى على ما يليق به سبحانه.
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
ومن دلائل قدرتك أنك تُدخل الليل في النهار, وتُدخل النهار في الليل,
فيطول هذا ويقصر ذاك, وتُخرج الحي من الميت الذي لا حياة فيه, كإخراج
الزرع من الحب, والمؤمن من الكافر, وتُخرج الميت من الحي كإخراج البيض من
الدجاج, وترزق من تشاء مَن خلقك بغير حساب.
لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ
إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
ينهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء بالمحبة والنصرة من دون
المؤمنين, ومَن يتولهم فقد برِئ من الله, والله برِيء منه, إلا أن تكونوا
ضعافًا خائفين فقد رخَّص الله لكم في مهادنتهم اتقاء لشرهم, حتى تقوى
شوكتكم, ويحذركم الله نفسه, فاتقوه وخافوه. وإلى الله وحده رجوع الخلائق
للحساب والجزاء.
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ
اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
قل -أيها النبي- للمؤمنين: إن تكتموا ما استقر في قلوبكم من ممالاة
الكافرين ونصرتهم أم تظهروا ذلك لا يَخْفَ على الله منه شيء, فإنَّ علمه
محيط بكل ما في السماوات وما في الأرض, وله القدرة التامة على كل شيء
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا
عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً
بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ
بِالْعِبَادِ (30)
وفي يوم القيامة بوم الجزاء تجد كل نفس ما عملت من خير ينتظرها موفرًا
لتُجزَى به, وما عملت من عمل سيِّئ تجده في انتظارها أيضًا, فتتمنى لو أن
بينها وبين هذا العمل زمنًا بعيدًا. فاستعدوا لهذا اليوم, وخافوا بطش
الإله الجبار. ومع شدَّة عقابه فإنه سبحانه رءوف بالعباد.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ
اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
قل -أيها الرسول-: إن كنتم تحبون الله حقا فاتبعوني وآمنوا بي ظاهرًا
وباطنًا, يحببكم الله, ويمحُ ذنوبكم, فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين,
رحيم بهم. وهذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله -تعالى-
وليس متبعًا لنبيه محصد صلى الله عيه وسلم حق الاتباع, مطيعًا له في أمره
ونهيه, فإنه كاذب في دعواه حتى يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم حق
الاتباع.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
قل -أيها الرسول-: أطيعوا الله باتباع كتابه, وأطيعوا الرسول باتباع سنته
في حياته وبعد مماته, فإن هم أعرضوا عنك, وأصروا على ما هم عليه مِن كفر
وضلال, فليسوا أهلا لمحبة الله; فإن الله لا يحب الكافرين.
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
إن الله اختار آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران, وجعلهم أفضل أهل زمانهم.
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
هؤلاء الأنبياء والرسل سلسلة طُهْر متواصلة في الإخلاص لله وتوحيده والعمل
بوحيه. والله سميع لأقوال عباده, عليم بأفعالهم, وسيجازيهم على ذلك.
إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي
بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (35)
اذكر -أيها الرسول- ما كان من أمر مريم وأمها وابنها عيسى عليه السلام;
لتردَّ بذلك على من ادعوا أُلوهية عيسى أو بنوَّته لله سبحانه, إذ قالت
امرأة عمران حين حملت: يا ربِّ إني جعلت لك ما في بطني خالصا لك, لخدمة
"بيت المقدس", فتقبَّل مني; إنك أنت وحدك السميع لدعائي, العليم بنيتي.
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي
سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
فلما تمَّ حملها ووضعت مولودها قالت: ربِّ إني وضعتها أنثى لا تصلح للخدمة
في "بيت المقدس" -والله أعلم بما وضَعَتْ, وسوف يجعل الله لها شأنًا-
وقالت: وليس الذكر الذي أردت للخدمة كالأنثى في ذلك; لأن الذكر أقوى على
الخدمة وأقْوَم بها, وإني سمَّيتها مريم, وإني حصَّنتها بك هي وذريَّتها
من الشيطان المطرود من رحمتك.
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا
الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ
هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ
يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
فاستجاب الله دعاءها وقبل منها نَذْرها أحسن قَبول, وتولَّى ابنتها مريم
بالرعاية فأنبتها نباتًا حسنًا, ويسَّر الله لها زكريا عليه السلام كافلا
فأسكنها في مكان عبادته, وكان كلَّما دخل عليها هذا المكان وجد عندها
رزقًا هنيئًا معدّاً قال: يا مريم من أين لكِ هذا الرزق الطيب؟ قالت: هو
رزق من عند الله. إن الله -بفضله- يرزق مَن يشاء مِن خلقه بغير حساب
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
عندما رأى زكريا ما أكرم الله به مريم مِن رزقه وفضله توجه إلى ربه قائلا
يا ربِّ أعطني من عندك ولدًا صالحًا مباركًا, إنك سميع الدعاء لمن دعاك.
فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ
أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ
وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ (39)
فنادته الملائكة وهو واقف بين يدي الله في مكان صلاته يدعوه: أن الله
يخبرك بخبر يسرُّك, وهو أنك سترزق بولد اسمه يحيى, يُصَدِّق بكلمة من الله
-وهو عيسى ابن مريم عليه السلام-، ويكون يحيى سيدًا في قومه, له المكانة
والمنزلة العالية, وحصورًا لا يأتي الذنوب والشهوات الضارة, ويكون نبيّاً
من الصالحين الذين بلغوا في الصَّلاح ذروته.
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ
وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ
ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ
بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (41)
قال زكريا فرحًا متعجبًا: ربِّ أنَّى يكون لي غلام مع أن الشيخوخة قد بلغت
مني مبلغها, وامرأتي عقيم لا تلد؟ قال: كذلك يفعل الله ما يشاء من الأفعال
العجيبة المخالفة للعادة قال زكريَّا: رب اجعل لي علامةً أستدلُّ بها على
وجود الولد مني; ليحصل لي السرور والاستبشار, قال: علامتك التي طلبتها:
ألا تستطيع التحدث إلى الناس ثلاثة أيام إلا بإشارة إليهم, مع أنك سويٌّ
صحيح, وفي هذه المدة أكثِرْ من ذكر ربك, وصلِّ له أواخر النهار وأوائله.
وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
واذكر -أيها الرسول- حين قالت الملائكة: يا مريم إن الله اختاركِ لطاعته
وطهَّركِ من الأخلاق الرذيلة, واختاركِ على نساء العالمين في زمانك.
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
يا مريم داومي على الطاعة لربك, وقومي في خشوع وتواضع, واسجدي واركعي مع الراكعين; شكرًا لله على ما أولاكِ من نعمه
ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ
وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
ذلك الذي قصصناه عليك -أيها الرسول- من أخبار الغيب التي أوحاها الله
إليك, إذ لم تكن معهم حين اختلفوا في كفالة مريم أيُّهم أحق بها وأولى,
ووقع بينهم الخصام, فأجْرَوْا القرعة لإلقاء أقلامهم, ففاز زكريا عليه
السلام بكفالتها.
إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (45)
وما كنت - يا نبي الله - هناك حين قالت الملائكة: يا مريم إن الله
يُبَشِّرْكِ بولد يكون وجوده بكلمة من الله, أي يقول له: "كن", فيكون,
اسمه المسيح عيسى ابن مريم, له الجاه العظيم في الدنيا والآخرة, ومن
المقربين عند الله يوم القيامة
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ (46)
ويكلم الناس في المهد بعد ولادته, وكذلك يكلمهم في حال كهولته بما أوحاه
الله إليه. وهذا تكليم النبوَّة والدعوة والإرشاد, وهو معدود من أهل
الصلاح والفضل في قوله وعمله.
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ
كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
قالت مريم متعجبة من هذا الأمر: أنَّى يكون لي ولد وأنا لست بذات زوج ولا
بَغِيٍّ؟ قال لها المَلَك: هذا الذي يحدث لكِ ليس بمستبعد على الإله
القادر, الذي يوجِد ما يشاء من العدم, فإذا أراد إيجاد شيء فإنما يقول له:
"كُن" فيكون
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48)
ويعلمه الكتابة, والسداد في القول والفعل, والتوراة التي أوحاها الله إلى موسى عليه السلام, والإنجيل الذي أنزل الله عليه.
وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ
فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ
الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ
وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ (49)
ويجعله رسولا إلى بني إسرائيل, ويقول لهم: إني قد جئتكم بعلامة من ربكم
تدلُّ على أني مرسل من الله, وهي أني أصنع لكم من الطين مثل شكل الطير,
فأنفخ فيه فيكون طيرًا حقيقيا بإذن الله, وأَشفي مَن وُلِد أعمى, ومَن به
برص, وأُحيي من كان ميتًا بإذن الله, وأخبركم بما تأكلون وتدَّخرون في
بيوتكم من طعامكم. إن في هذه الأمور العظيمة التي ليست في قدرة البشر
لدليلا على أني نبي الله ورسوله, إن كنتم مصدِّقين حجج الله وآياته,
مقرِّين بتوحيده.
وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ
بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
وجئتكم مصدقًا بما في التوراة, ولأحلَّ لكم بوحي من الله بعض ما حرَّمه
الله عليكم تخفيفًا من الله ورحمة, وجئتكم بحجة من ربكم على صدق ما أقول
لكم, فاتقوا الله ولا تخالفوا أمره, وأطيعوني فيما أبلغكم به عن الله.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:00 pm

سورة أل عمران ( الآيات 100:51 )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
إن الله الذي أدعوكم إليه هو وحده ربي وربكم فاعبدوه, فأنا وأنتم سواء في العبودية والخضوع له, وهذا هو الطريق الذي لا اعوجاج فيه.
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى
اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
فلما استشعر عيسى منهم التصميم على الكفر نادى في أصحابه الخُلَّص: مَن
يكون معي في نصرة دين الله؟ قال أصفياء عيسى: نحن أنصار دين الله والداعون
إليه, صدَّقنا بالله واتبعناك, واشهد أنت يا عيسى بأنا مستسلمون لله
بالتوحيد والطاعة. رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا
الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
ربنا صدَّقنا بما أنزلت من الإنجيل, واتبعنا رسولك عيسى عليه السلام,
فاجعلنا ممن شهدوا لك بالوحدانية ولأنبيائك بالرسالة, وهم أمة محمد صلى
الله عليه وسلم الذين يشهدون للرسل بأنهم بلَّغوا أممهم.
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل بعيسى عليه السلام, بأن وكَّلوا به من
يقتله غِيْلة, فألقى الله شَبَه عيسى على رجل دلَّهم عليه فأمسكوا به,
وقتلوه وصلبوه ظناً منهم أنه عيسى عليه السلام, والله خير الماكرين. وفي
هذا إثبات صفة المكر لله -تعالى- على ما يليق بجلاله وكماله; لأنه مكر
بحق, وفي مقابلة مكر الماكرين.
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
(55)
ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى: إني قابضك من الأرض من غير أن ينالك
سوء, ورافعك إليَّ ببدنك وروحك, ومخلصك من الذين كفروا بك, وجاعل الذين
اتبعوك أي على دينك وما جئت به عن الله من الدين والبشارة بمحمد صلى الله
عليه وسلم وآمَنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, بعد بعثنه, والتزموا شريعته
ظاهرين على الذين جحدوا نبوتك إلى يوم القيامة, ثم إليّ مصيركم جميعًا يوم
الحساب, فأفصِل بينكم فيما كنتم فيه تختلفون من أمر عيسى عليه السلام.
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
فأمَّا الذين كفروا بالمسيح من اليهود أو غَلَوا فيه من النصارى, فأعذبهم
عذابًا شديدًا في الدنيا: بالقتل وسلْبِ الأموال وإزالة الملك, وفي الآخرة
بالنار, وما لهم مِن ناصر ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله.
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
وأما الذين آمنوا بالله ورسله وعملوا الأعمال الصالحة, فيعطيهم الله ثواب
أعمالهم كاملا غير منقوص. والله لا يحب الظالمين بالشرك والكفر.
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
ذلك الذي نقصُّه عليك في شأن عيسى, من الدلائل الواضحة على صحة رسالتك,
وصحة القرآن الحكيم الذي يفصل بين الحق والباطل, فلا شك فيه ولا امتراء.
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
إنَّ خَلْقَ الله لعيسى من غير أب مثَلُه كمثل خلق الله لآدم من غير أب
ولا أم, إذ خلقه من تراب الأرض, ثم قال له: "كن بشرًا" فكان. فدعوى إلهية
عيسى لكونه خلق من غير أب دعوى باطلة; فآدم عليه السلام خلق من غير أب ولا
أم, واتفق الجميع على أنه عَبْد من عباد الله.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (60)
الحق الذي لا شك فيه في أمر عيسى هو الذي جاءك -أيها الرسول- من ربك, فدم
على يقينك, وعلى ما أنت عليه من ترك الافتراء, ولا تكن من الشاكِّين, وفي
هذا تثبيت وطمأنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ
تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ
لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
فمَن جادلك -أيها الرسول- في المسيح عيسى ابن مريم من بعد ما جاءك من
العلم في أمر عيسى عليه السلام, فقل لهم: تعالوا نُحْضِر أبناءنا
وأبناءكم, ونساءنا ونساءكم, وأنفسنا وأنفسكم, ثم نتجه إلى الله بالدعاء أن
يُنزل عقوبته ولعنته على الكاذبين في قولهم, المصرِّين على عنادهم.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
إن هذا الذي أنبأتك به من أمر عيسى لهو النبأ الحق الذي لا شك فيه, وما من
معبود يستحق العبادة إلا الله وحده, وإن الله لهو العزيز في ملكه, الحكيم
في تدبيره وفعله.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
فإن أعرضوا عن تصديقك واتباعك فهم المفسدون, والله عليم بهم, وسيجازيهم على ذلك
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
قل -أيها الرسول- لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: تعالَوْا إلى كلمة عدل
وحق نلتزم بها جميعًا: وهي أن نَخُص الله وحده بالعبادة, ولا نتخذ أي شريك
معه, من وثن أو صنم أو صليب أو طاغوت أو غير ذلك, ولا يدين بعضنا لبعض
بالطاعة من دون الله. فإن أعرضوا عن هذه الدعوة الطيبة فقولوا لهم - أيها
المؤمنون - : اشهدوا علينا بأنا مسلمون منقادون لربنا بالعبودية والإخلاص.
والدعوة إلى كلمة سواء, كما تُوجَّه إلى اليهود والنصارى, توجَّه إلى من
جرى مجراهم.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا
أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (65)
يا أصحاب الكتب المنزلة من اليهود والنصارى, كيف يجادل كل منكم في أن
إبراهيم عليه السلام كان على ملَّته, وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من
بعده؟ أفلا تفقهون خطأ قولكم: إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً, وقد
علمتم أن اليهودية والنصرانية حدثت بعد وفاته بحين؟
هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ
تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)
ها أنتم يا هؤلاء جادلتم رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما لكم به
علم مِن أمر دينكم, مما تعتقدون صحته في كتبكم, فلِمَ تجادلون فيما ليس
لكم به علم من أمر إبراهيم؟ والله يعلم الأمور على خفائها, وأنتم لا
تعلمون.
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (67)
ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً, فلم تكن اليهودية ولا النصرانية إلا
من بعده, ولكن كان متبعًا لأمر الله وطاعته, مستسلمًا لربه, وما كان من
المشركين.
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
إنَّ أحق الناس بإبراهيم وأخصهم به, الذين آمنوا به وصدقوا برسالته
واتبعوه على دينه, وهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به.
والله وليُّ المؤمنين به المتبعين شرعه.
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
تمنَّت جماعة من اليهود والنصارى لو يضلونكم - أيها المسلمون - عن
الإسلام, وما يضلون إلا أنفسهم وأتباعهم, وما يدرون ذلك ولا يعلمونه.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
يا أهل التوراة والإنجيل لم تجحدون آيات الله التي أنزلها على رسله في
كتبهم, وفيها أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الرسول المنتظر, وأن ما
جاءكم به هو الحق, وأنتم تشهدون بذلك؟ ولكنكم تنكرونه.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
يا أهل التوراة والإنجيل لِمَ تخلطون الحق في كتبكم بما حرفتموه وكتبتموه
من الباطل بأيديكم, وتُخْفون ما فيهما من صفة محمد صلى الله عليه وسلم,
وأن دينه هو الحق, وأنتم تعلمون ذلك؟
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
وقالت جماعة من أهل الكتاب من اليهود: صدِّقوا بالذي أُنزل على الذين
آمنوا أول النهار واكفروا آخره; لعلهم يتشككون في دينهم, ويرجعون عنه.
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى
هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ
يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
ولا تصدِّقوا تصديقًا صحيحًا إلا لمَن تبع دينكم فكان يهودياً, قل لهم
-أيها الرسول- : إن الهدى والتوفيق هدى الله وتوفيقه للإيمان الصحيح.
وقالوا: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلمون منكم فيساووكم في
العلم به, وتكون لهم الأفضلية عليكم, أو أن يتخذوه حجة عند ربكم يغلبونكم
بها. قل لهم -أيها الرسول- : إن الفضل والعطاء والأمور كلها بيد الله وتحت
تصرفه, يؤتيها من يشاء ممن آمن به وبرسوله. والله واسع عليم, يَسَعُ بعلمه
وعطائه جميع مخلوقاته, ممن يستحق فضله ونعمه.
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
إن الله يختص مِن خلقه مَن يشاء بالنبوة والهداية إلى أكمل الشرائع, والله ذو الفضل العظيم.
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا
لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
ومن أهل الكتاب من اليهود مَن إنْ تأمنه على كثير من المال يؤدِّه إليك من
غير خيانة, ومنهم مَن إنْ تأمنه على دينار واحد لا يؤدِّه اليك, إلا إذا
بذلت غاية الجهد في مطالبته. وسبب ذلك عقيدة فاسدة تجعلهم يستحلُّون أموال
العرب بالباطل, ويقولون: ليس علينا في أكل أموالهم إثم ولا حرج; لأن الله
أحلَّها لنا. وهذا كذب على الله, يقولونه بألسنتهم, وهم يعلمون أنهم
كاذبون.
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
ليس الأمر كما زعم هؤلاء الكاذبون, فإن المتقي حقاً هو من أوفى بما عاهد
الله عليه من أداء الأمانة والإيمان به وبرسله والتزم هديه وشرعه, وخاف
الله عز وجل فامتثل أمره وانتهى عما نهى عنه. والله يحب المتقين الذين
يتقون الشرك والمعاصي.
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً
قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ
اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
إن الذين يستبدلون بعهد الله ووصيته التي أوصى بها في الكتب التي أنزلها
على أنبيانهم, عوضًا وبدلا خسيسًا من عرض الدنيا وحطامها, أولئك لا نصيب
لهم من الثواب في الآخرة, ولا يكلمهم الله بما يسرهم, ولا ينظر إليهم يوم
القيامة بعين الرحمة, ولا يطهرهم من دنس الذنوب والكفر, ولهم عذاب موجع.
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ
هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
وإن مِن اليهود لَجماعةً يحرفون الكلام عن مواضعه, ويبدلون كلام الله;
ليوهموا غيرهم أن هذا من الكلام المنزل, وهو التوراة, وما هو منها في شيء,
ويقولون: هذا من عند الله أوحاه الله إلى نبيه موسى, وما هو من عند الله,
وهم لأجل دنياهم يقولون على الله الكذب وهم يعلمون أنهم كاذبون.
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
ما ينبغي لأحد من البشر أن يُنزِّل الله عليه كتابه ويجعله حكمًا بين خلقه
ويختاره نبياً, ثم يقول للناس: اعبدوني من دون الله, ولكن يقول: كونوا
حكماء فقهاء علماء بما كنتم تُعَلِّمونه غيركم من وحي الله تعالى, وبما
تدرسونه منه حفظًا وعلمًا وفقهًا.
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ
أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(80)
وما كان لأحد منهم أن يأمركم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا تعبدونهم
من دون الله. أَيُعْقَلُ -أيها الناس- أن يأمركم بالكفر بالله بعد
انقيادكم لأمره؟
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ
كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ
عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81)
واذكر -أيها الرسول- إذ أخذ الله سبحانه العهد المؤكد على جميع الأنبياء:
لَئِنْ آتيتكم من كتاب وحكمة, ثم جاءكم رسول من عندي, مصدق لما معكم
لتؤمنن به ولتنصرنَّه. فهل أقررتم واعترفتم بذلك وأخذتم على ذلك عهدي
الموثق؟ قالوا: أقررنا بذلك, قال: فليشهدْ بعضكم على بعض, واشهدوا على
أممكم بذلك, وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم. وفي هذا أن الله أخذ
الميثاق على كل نبي أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم, وأخذ الميثاق على
أمم الأنبياء بذلك.
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (82)
فمن أعرض عن دعوة الإسلام بعد هذا البيان وهذا العهد الذي أخذه الله على أنبيائه, فأولئك هم الخارجون عن دين الله وطاعة ربهم.
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
أيريد هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب غير دين الله -وهو الإسلام الذي بعث
الله به محمدا صلى الله عليه وسلم-، مع أن كل مَن في السموات والأرض
استسلم وانقاد وخضع لله طواعية -كالمؤمنين- ورغمًا عنهم عند الشدائد, حين
لا ينفعهم ذلك وهم الكفار, كما خضع له سائر الكائنات, وإليه يُرجَعون يوم
المعاد, فيجازي كلا بعمله. وهذا تحذير من الله تعالى لخلقه أن يرجع إليه
أحد منهم على غير ملة الإسلام.
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
قل لهم -أيها الرسول- : صدَّقنا بالله وأطعنا, فلا رب لنا غيره, ولا معبود
لنا سواه, وآمنَّا بالوحي الذي أنزله الله علينا, والذي أنزله على إبراهيم
خليل الله, وابنيه إسماعبل وإسحاق, وابن ابنه يعقوب بن إسحاق, والذي أنزله
على الأسباط -وهم الأنبياء الذين كانوا في قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة
مِن ولد يعقوب- وما أوتي موسى وعيسى من التوراة والإنجيل, وما أنزله الله
على أنبيائه, نؤمن بذلك كله, ولا نفرق بين أحد منهم, ونحن لله وحده
منقادون بالطاعة, مُقِرُّون له بالربوبية والألوهية والعبادة.
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85)
ومن يطلب دينًا غير دين الإسلام الذي هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد
له بالطاعة, والعبودية, ولرسوله النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم
بالإيمان به وبمتابعته ومحبته ظاهرًا وباطنًا, فلن يُقبل منه ذلك, وهو في
الآخرة من الخاسرين الذين بخسوا أنفسهم حظوظها.
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا
أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
كيف بوفق الله للإيمان به وبرسوله قومًا جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه
وسلم بعد إيمانهم به, وشهدوا أن محمدًا صلى الله علبه وسلم حق وما جاء به
هو الحق, وجاءهم الحجج من عند الله والدلائل بصحة ذلك؟ والله لا يوفق للحق
والصواب الجماعة الظلمة, وهم الذين عدلوا عن الحق إلى الباطل, فاختاروا
الكفر على الإيمان.
أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
أولئك الظالمون جزاؤهم أنَّ عليهم لعنة الله والملائكة والناسِ أجمعين, فهم مطرودون من رحمة الله.
خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
ماكثين في النار, لا يُرفع عنهم العذاب قليلا ليستريحوا, ولا يُؤخر عنهم لمعذرة يعتذرون بها.
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
إلا الذين رجعوا إلى ربهم بالتوبة النصوح من بعد كفرهم وظلمهم, وأصلحوا ما
أفسدوه بتوبتهم فإن الله يقبلها, فهو غفور لذنوب عباده, رحيم بهم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً
لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ (90)
إن الذين كفروا بعد إيمانهم واستمروا على الكفر إلى الممات لن تُقبل لهم
توبة عند حضور الموت, وأولئك هم الذين ضلُّوا السبيل, فأخطَؤُوا منهجه.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
إن الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, وماتوا على الكفر بالله
ورسوله, فلن يُقبل من أحدهم يوم القيامة ملء الأرض ذهبًا; ليفتدي به نفسه
من عذاب الله, ولو افتدى به نفسه فِعْلا. أولئك لهم عذاب موجع, وما لهم من
أحد ينقذهم من عذاب الله
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
لن تدركوا الجنة حتى تتصدقوا مما تحبون, وأي شيء تتصدقوا به مهما كان قليلا أو كثيرًا فإن الله به عليم, وسيجازي كل منفق بحسب عمله.
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
كل الأطعمة الطيِّبة كانت حلالا لأبناء يعقوب عليه السلام إلا ما حرَّم
يعقوب على نفسه لمرض نزل به, وذلك مِن قبل أن تُنَزَّل التوراة. فلما
نُزِّلت التوراة حرَّم الله على بني إسرائيل بعض الأطعمة التي كانت حلالا
لهم; وذلك لظلمهم وبغيهم. قل لهم -أيها الرسول- : هاتوا التوراة, واقرؤوا
ما فيها إن كنتم محقين في دعواكم أن الله أنزل فيها تحريم ما حرَّمه يعقوب
على نفسه, حتى تعلموا صدق ما جاء في القرآن من أن الله لم يحرم على بني
إسرائيل شيئًا من قبل نزول التوراة, إلا ما حرَّمه يعقوب على نفسه.
فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (94)
فمَن كذب على الله من بعد قراءة التوراة ووضوح الحقيقة, فأولئك هم الظالمون القائلون على الله بالباطل.
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (95)
قل لهم -أيها الرسول- صَدَق الله فيما أخبر به وفيما شرعه. فإن كنتم
صادقين في محبتكم وانتسابكم لخليل الله إبراهيم عليه السلام فاتبعوا
ملَّته التي شرعها الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, فإنها الحق
الذي لا شك فيه. وما كان إبراهيم عليه السلام من المشركين بالله في توحيده
وعبادته أحدًا.
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
إن أول بيت بُني لعبادة الله في الأرض لهو بيت الله الحرام الذي في "مكة",
وهذا البيت مبارك تضاعف فيه الحسنات, وتتنزل فيه الرحمات, وفي استقباله في
الصلاة, وقصده لأداء الحج والعمرة, صلاح وهداية للناس أجمعين.
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ
آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ
الْعَالَمِينَ (97)
في هذا البيت دلالات ظاهرات أنه من بناء إبراهيم, وأن الله عظَّمه
وشرَّفه, منها: مقام إبراهيم عليه السلام, وهو الحَجَر الذي كان يقف عليه
حين كان يرفع القواعد من البيت هو وابنه إسماعيل, ومن دخل هذا البيت
أَمِنَ على نفسه فلا يناله أحد بسوء. وقد أوجب الله على المستطيع من الناس
في أي مكان قَصْدَ هذا البيت لأداء مناسك الحج. ومن جحد فريضة الحج فقد
كفر, والله غني عنه وعن حجِّه وعمله, وعن سائر خَلْقه.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
قل -أيها الرسول- لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: لِمَ تجحدون حجج الله
التي دلَّتْ على أن دين الله هو الإسلام, وتنكرون ما في كتبهم من دلائل
وبراهين على ذلك, وأنتم تعلمون؟ والله شهيد على صنيعكم. وفي ذلك تهديد
ووعيد لهم.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ
آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
قل -أيها الرسول- لليهود والنصارى: لِمَ تمنعون من الإسلام من يريد الدخول
فيه تطلبون له زيغًا وميلا عن القصد والاستقامة, وأنتم تعلمون أن ما جئتُ
به هو الحق؟ وما الله بغافل عما تعملون, وسوف يجازيكم على ذلك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن تطيعوا جماعة من
اليهود والنصارى ممن آتاهم الله التوراة والإنجيل, يضلوكم, ويلقوا إليكم
الشُّبَه في دينكم; لترجعوا جاحدين للحق بعد أن كنتم مؤمنين به, فلا
تأمنوهم على دينكم, ولا تقبلوا لهم رأيًا أو مشورة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:00 pm

سورة أل عمران ( الآيات 200:151)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
سنقذف في قلوب الذين كفروا أشدَّ الفزع والخوف بسبب إشراكهم بالله آلهة
مزعومة, ليس لهم دليل أو برهان على استحقاقها للعبادة مع الله, فحالتهم في
الدنيا: رعب وهلع من المؤمنين, أما مكانهم في الآخرة الذي يأوون إليه فهو
النار; وذلك بسبب ظلمهم وعدوانهم, وساء هذا المقام مقامًا لهم.
وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ
حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي
الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ
مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ
ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
ولقد حقق الله لكم ما وعدكم به من نصر, حين كنتم تقتلون الكفار في غزوة
"أُحد" بإذنه تعالى, حتى إذا جَبُنتم وضعفتم عن القتال واختلفتم: هل تبقون
في مواقعكم أو تتركونها لجمع الغنانم مع مَن يجمعها؟ وعصيتم أمر رسولكم
حين أمركم ألا تفارفوا أماكنكم بأي حال, حلَّت بكم الهزيمة من بعد ما
أراكم ما تحبون من النصر, وتبيَّن أن منكم مَن يريد الغنائم, وأن منكم مَن
يطلب الآخرة وثوابها, ثم صرف الله وجوهكم عن عدوكم; ليختبركم, وقد علم
الله ندمكم وتوبتكم فعفا عنكم, والله ذو فضل عظيم على المؤمنين.
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى
مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
(153)
اذكروا -يا أصحاب محمد- ما كان مِن أمركم حين أخذتم تصعدون الجبل هاربين
من أعدائكم, ولا تلتفتون إلى أحد لِمَا اعتراكم من الدهشة والخوف والرعب,
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في الميدان يناديكم من خلفكم قائلا
إليَّ عبادَ الله, وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون, فكان جزاؤكم أن أنزل الله
بكم ألمًا وضيقًا وغمًّا; لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من نصر وغنيمة, ولا
ما حلَّ بكم من خوف وهزيمة. والله خبير بجميع أعمالكم, لا يخفى عليه منها
شيء
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً
يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ
هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ
لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ
لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ
إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(154)
ثم كان من رحمة الله بالمؤمنين المخلصين أن ألقى في قلوبهم من بعد ما نزل
بها من همٍّ وغمٍّ اطمئنانًا وثقة في وعد الله, وكان من أثره نعاس غَشِي
طائفة منهم, وهم أهل الإخلاص واليقين, وطائفة أُخرى أهمَّهم خلاص أنفسهم
خاصة, وضَعُفَتْ عزيمتهم وشُغِلوا بأنفسهم, وأساؤوا الظن بربهم وبدينه
وبنبيه, وظنوا أن الله لا يُتِمُّ أمر رسوله, وأن الإسلام لن نقوم له
قائمة, ولذلك تراهم نادمين على خروجهم, يقول بعضهم لبعض: هل كان لنا من
اختيار في الخروج للقتال؟ قل لهم -أيها الرسول- : إن الأمر كلَّه لله, فهو
الذي قدَّر خروجكم وما حدث لكم, وهم يُخْفون في أنفسهم ما لا يظهرونه لك
من الحسرة على خروجهم للقتال, يقولون: لو كان لنا أدنى اختيار ما قُتِلنا
هاهنا. قل لهم: إن الآجال بيد الله, ولو كنتم في بيوتكم, وقدَّر الله أنكم
تموتون, لخرج الذين كتب الله عليهم الموت إلى حيث يُقْتلون, وما جعل الله
ذلك إلا ليختبر ما في صدوركم من الشك والنفاق, وليميز الخبيث من الطيب,
ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال. والله عليم بما
في صدور خلقه, لا يخفى عليه شيء من أمورهم.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ
عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
إن الذين فرُّوا منكم -يا أصحاب- محمد عن القتال يوم التقى المؤمنون
والمشركون في غزوة "أُحد", إنما أوقعهم الشيطان في هذا الذنب ببعض ما
عملوا من الذنوب, ولقد تجاوز الله عنهم فلم يعاقبهم. إن الله غفور
للمذنبين التائبين, حليم لا يعاجل من عصاه بالعقوبة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا
غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ
اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تُشابهوا الكافرين
الذين لا يؤمنون بربهم, فهم يقولون لإخوانهم من أهل الكفر إذا خرجوا
يبحثون في أرض الله عن معاشهم أو كانوا مع الغزاة المقاتلين فماتوا أو
قُتِلوا: لو لم يخرج هؤلاء ولم يقاتلوا وأقاموا معنا ما ماتوا وما قُتلوا.
وهذا القول يزيدهم ألمًا وحزنًا وحسرة تستقر في قلوبهم, أما المؤمنون
فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر الله فيهدي الله قلوبهم, ويخفف عنهم المصيبة,
والله يحيي مَن قدَّر له الحياة -وإن كان مسافرًا أو غازيًا- ويميت مَنِ
انتهى أجله -وإن كان مقيمًا- والله بكل ما تعملونه بصير, فيجازيكم به.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
ولئن قُتِلتم -أيها المؤمنون- وأتم تجاهدون في سبيل الله أو متم في أثناء
القتال, ليغفرن الله لكم ذنوبكم, وليرحمنكم رحمة من عنده, فتفوزون بجنات
النعيم, وذلك خير من الدنيا وما يجمعه أهلها.
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
ولئن انقضت آجالكم في هذه الحياة الدنيا, فمتم على فُرُشكم, أو قتلتم في ساحة القتال, لإلى الله وحده تُحشرون, فيجازيكم بأعمالكم.
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً
غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
فبرحمة من الله لك ولأصحابك -أيها النبي- منَّ الله عليك فكنت رفيقًا بهم,
ولو كنت سيِّئ الخُلق قاسي القلب, لانْصَرَفَ أصحابك من حولك, فلا تؤاخذهم
بما كان منهم في غزوة "أُحد", واسأل الله -أيها النبي- أن يغفر لهم,
وشاورهم في الأمور التي تحتاج إلى مشورة, فإذا عزمت على أمر من الأمور
-بعد الاستشارة- فأَمْضِه معتمدًا على الله وحده, إن الله يحب المتوكلين
عليه.
إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (160)
إن يمددكم الله بنصره ومعونته فلا أحد يستطيع أن يغلبكم, وإن يخذلكم فمن
هذا الذي يستطيع أن ينصركم من بعد خذلانه لكم؟ وعلى الله وحده فليتوكل
المؤمنون.
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (161)
وما كان لنبيٍّ أن يَخُونَ أصحابه بأن يأخذ شيئًا من الغنيمة غير ما اختصه
الله به, ومن يفعل ذلك منكم يأت بما أخذه حاملا له يوم القيامة; ليُفضَح
به في الموقف المشهود, ثم تُعطى كل نفس جزاءَ ما كسبت وافيًا غير منقوص
دون ظلم.
أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
لا يستوي من كان قصده رضوان الله ومن هو مُكِبٌ على المعاصي, مسخط لربه, فاستحق بذلك سكن جهنم, وبئس المصير.
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
أصحاب الجنة المتبعون لما يرضي الله متفاوتون في الدرجات, وأصحاب النار
المتبعون لما يسخط الله متفاوتون في الدركات, لا يستوون. والله بصير
بأعمالهم لا يخفى عليه منها شيء.
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً
مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ
لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
لقد أنعم الله على المؤمنين من العرب; إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم, يتلو
عليهم آيات القرآن, ويطهرهم من الشرك والأخلاق الفاسدة, ويعلمهم القرآن
والسنة, وإن كانوا من قبل هذا الرسول لفي غيٍّ وجهل ظاهر.
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ
أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
أولما أصابتكم -أيها المؤمنون- مصيبة, وهي ما أُصيب منكم يوم "أُحد" قد
أصبتم مثليها من المشركين في يوم "بدْر", قلتم متعجبين: كيف يكون هذا ونحن
مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا وهؤلاء مشركون؟ قل لهم -أيها
النبي- : هذا الذي أصابكم هو من عند أنفسكم بسبب مخالفتكم أمْرَ رسولكم
وإقبالكم على جمع الغنائم. إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد, لا معقِّب
‌‌‌‌‌‌لحكمه.
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
وما وقع بكم مِن جراح أو قتل في غزوة "أُحد" يوم التقى جَمْعُ المؤمنين
وجمع المشركين فكان النصر للمؤمنين أولا ثم للمشركين ثانيًا, فذلك كله
بقضاء الله وقدره, وليظهر ما علمه الله في الأزل؛ ليميز المؤمنين الصادقين
منكم.
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً
لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
وليعلم المنافقين الذين كشف الله ما في قلوبهم حين قال المؤمنون لهم:
تعالوا قاتلوا معنا في سبيل الله, أو كونوا عونًا لنا بتكثيركم سوادنا,
فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون أحدًا لكنا معكم عليهم, هم للكفر في هذا
اليوم أقرب منهم للإيمان; لأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. والله
أعلم بما يُخفون في صدورهم.
الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا
قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (168)
هؤلاء المنافقون هم الذين قعدوا وقالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين
في حربهم المشركين يوم "أُحد": لو أطاعَنا هؤلاء ما قتلوا. قل لهم -أيها
الرسول- : فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم لو
أطاعوكم ما قتلوا, وأنكم قد نجوتم منه بقعودكم عن القتال.
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
ولا تظنَّنَّ -أيها النبي- أن الذين قتلوا في سبيل الله أموات لا
يُحِسُّون شيئًا, بل هم أحياء حياة برزخية في جوار ربهم الذي جاهدوا من
أجله, وماتوا في سبيله, يجري عليهم رزقهم في الجنة, ويُنعَّمون.
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
لقد عَمَّتهم السعادة حين مَنَّ الله عليهم, فأعطاهم مِن عظيم جوده وواسع
كرمه من النعيم والرضا ما تَقَرُّ به أعينهم, وهم يفرحون بإخوانهم
المجاهدين الذين فارقوهم وهم أحياء; ليفوزوا كما فازوا, لِعِلْمِهم أنهم
سينالون من الخير الذي نالوه, إذا استشهدوا في سبيل الله مخلصين له, وأن
لا خوف عليهم فيما يستقبلون من أمور الآخرة, ولا هم يحزنون على ما فاتهم
من حظوظ الدنيا.
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
وإنهم في فرحة غامرة بما أُعطوا من نعم الله وجزيل عطائه, وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين به, بل ينمِّيه ويزيده من فضله.
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ
الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
(172)
الذين لبُّوا نداء الله ورسوله وخرجوا في أعقاب المشركين إلى "حمراء
الأسد" بعد هزيمتهم في غزوة "أُحد" مع ما كان بهم من آلام وجراح, وبذلوا
غاية جهدهم, والتزموا بهدي نبيهم, للمحسنين منهم والمتقين ثواب عظيم.
الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
وهم الذين قال لهم بعض المشركين: إن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا أمرهم
على الرجوع إليكم لاستئصالكم, فاحذروهم واتقوا لقاءهم, فإنه لا طاقة لكم
بهم, فزادهم ذلك التخويف يقينًا وتصديقًا بوعد الله لهم, ولم يَثْنِهم ذلك
عن عزمهم, فساروا إلى حيث شاء الله, وقالوا: حسبنا الله أي: كافينا,
ونِعْم الوكيل المفوَّض إليه تدبير عباده.
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
فرجعوا من "حمراء الأسد" إلى "المدينة" بنعمة من الله بالثواب الجزيل
وبفضل منه بالمنزلة العالية, وقد ازدادوا إيمانًا ويقينًا, وأذلوا أعداء
الله, وفازوا بالسلامة من القتل والقتال, واتبعوا رضوان الله بطاعتهم له
ولرسوله. والله ذو فضل عظيم عليهم وعلى غيرهم.
إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
إنَّما المثبِّط لكم في ذلك هو الشيطان جاءكم يخوِّفكم أنصاره, فلا تخافوا
المشركين; لأنّهم ضعاف لا ناصر لهم, وخافوني بالإقبال على طاعتي إن كنتم
مصدِّقين بي, ومتبعين رسولي.
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً
فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا
الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (177)
لا يُدْخِل الحزنَ إلى قلبك -أيها الرسول- هؤلاء الكفارُ بمسارعتهم في
الجحود والضلال, إنهم بذلك لن يضروا الله, إنما يضرون أنفسهم بحرمانها
حلاوة الإيمان وعظيم الثواب, يريد الله ألا يجعل لهم ثوابًا في الآخرة;
لأنهم انصرفوا عن دعوة الحق, ولهم عذاب شديد ، إن الذين استبدلوا الكفر
بالإيمان لن يضروا الله شيئًا, بل ضرر فِعْلِهم يعود على أنفسهم, ولهم في
الآخرة عذاب موجع.
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ
عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
ولا يظننَّ الجاحدون أننا إذا أَطَلْنا أعمارهم, ومتعناهم بمُتع الدنيا,
ولم تؤاخذهم بكفرهم وذنوبهم, أنهم قد نالوا بذلك خيرًا لأنفسهم, إنما نؤخر
عذابهم وآجالهم; ليزدادوا ظلمًا وطغيانًا, ولهم عذاب يهينهم ويذلُّهم.
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ
رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا
وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
ما كان الله ليَدَعَكم أيها المصدقون بالله ورسوله العاملون بشرعه على ما
أنتم عليه من التباس المؤمن منكم بالمنافق حتى يَمِيزَ الخبيث من الطيب,
فيُعرف المنافق من المؤمن الصادق. وما كان مِن حكمة الله أن يطلعكم -أيها
المؤمنون- على الغيب الذي يعلمه من عباده, فتعرفوا المؤمن منهم من
المنافق, ولكنه يميزهم بالمحن والابتلاء, غير أن الله تعالى يصطفي من رسله
مَن يشاء؛ ليطلعه على بعض علم الغيب بوحي منه, فآمنوا بالله ورسوله, وإن
تؤمنوا إيمانًا صادقًا وتتقوا ربكم بطاعته, فلكم أجر عظيم عند الله.
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا
بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
ولا يظنن الذين يبخلون بما أنعم الله به عليهم تفضلا منه أن هذا البخل خير
لهم, بل هو شرٌّ لهم; لأن هذا المال الذي جمعوه سيكون طوقًا من نار يوضع
في أعناقهم يوم القيامة. والله سبحانه وتعالى هو مالك الملك, وهو الباقي
بعد فناء جميع خلقه, وهو خبير بأعمالكم جميعها, وسيجازي كلا على قدر
استحقاقه.
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
لقد سمع الله قول اليهود الذين قالوا: إن الله فقير إلينا يطلب منا أن
نقرضه أموالا ونحن أغنياء. سنكتب هذا القول الذي قالوه, وسنكتب أنهم راضون
بما كان مِن قَتْل آبائهم لأنبياء الله ظلمًا وعدوانًا, وسوف نؤاخذهم بذلك
في الآخرة, ونقول لهم وهم في النار يعذبون: ذوقوا عذاب النار المحرقة.
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)
ذلك العذاب الشديد بسبب ما قدَّمتموه في حياتكم الدنيا من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية, وأن الله ليس بظلام للعببد.
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ
لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ
جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ
فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
هؤلاء اليهود حين دُعُوا إلى الإسلام قالوا: إن الله أوصانا في التوراة
ألا نصدِّق مَن جاءنا يقول: إنه رسول من الله, حتى يأتينا بصدقة يتقرب بها
إلى الله, فتنزل نار من السماء فتحرقها. قل لهم -أيها الرسول- : أنتم
كاذبون في قولكم; لأنه قد جاء آباءكم رسلٌ من قِبلي بالمعجزات والدلائل
على صدقهم, وبالذي قلتم من الإتيان بالقربان الذي تأكله النار, فَلِمَ
قَتَل آباؤكم هؤلاء الأنبياء إن كنتم صادقين في دعواكم؟
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
فإن كذَّبك -أيها الرسول- هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكفر, فقد كذَّب
المبطلون كثيرًا من المرسلين مِن قبلك, جاءوا أقوامهم بالمعجزات الباهرات
والحجج الواضحات, والكتب السماوية التي هي نور يكشف الظلمات, والكتابِ
البيِّن الواضح.
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ
فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
كل نفس لا بدَّ أن تذوق الموت, وبهذا يرجع جميع الخلق إلى ربهم; ليحاسبهم.
وإنما تُوفَّون أجوركم على أعمالكم وافية غير منقوصة يوم القيامة, فمن
أكرمه ربه ونجَّاه من النار وأدخله الجنة فقد نال غاية ما يطلب. وما
الحياة الدنيا إلا متعة زائلة, فلا تغترُّوا بها.
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ
مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)
لَتُخْتَبَرُنَّ -أيها المؤمنون- في أموالكم بإخراج النفقات الواجبة
والمستحبَّة, وبالجوائح التي تصيبها, وفي أنفسكم بما يجب عليكم من
الطاعات, وما يحلُّ بكم من جراح أو قتل وفَقْد للأحباب, وذلك حتى يتميَّز
المؤمن الصادق من غيره. ولتَسمعُنَّ من اليهود والنصارى والمشركين ما يؤذي
أسماعكم من ألفاظ الشرك والطعن في دينكم. وإن تصبروا -أيها المؤمنون- على
ذلك كله, وتتقوا الله بلزوم طاعته واجتناب معصيته, فإن ذلك من الأمور التي
يُعزم عليها, وينافس فيها.
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
(187)
واذكر -أيها الرسول- إذ أخذ الله العهد الموثق على الذين آتاهم الله
الكتاب من اليهود والنصارى, فلليهود التوراة وللنصارى الإنجيل; ليعملوا
بهما, ويبينوا للناس ما فيهما, ولا يكتموا ذلك ولا يخفوه, فتركوا العهد
ولم يلتزموا به, وأخذوا ثمنا بخسًا مقابل كتمانهم الحق وتحريفهم الكتاب,
فبئس الشراء يشترون, في تضييعهم الميثاق, وتبديلهم الكتاب.
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ
الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
ولا تظنن الذين يفرحون بما أَتَوا من أفعال قبيحة كاليهود والمنافقين
وغيرهم, ويحبون أن يثني عليهم الناس بما لم يفعلوا, فلا تظنهم ناجين من
عذاب الله في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب موجع. وفي الآية وعيد شديد لكل
آت لفعل السوء معجب به, ولكل مفتخر بما لم يعمل, ليُثنيَ عليه الناس
ويحمدوه.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
ولله وحده ملك السموات والأرض وما فيهما, والله على كل شيء قدير.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190)
إن في خلق السموات والأرض على غير مثال سابق, وفي تعاقُب الليل والنهار,
واختلافهما طولا وقِصَرًا لدلائل وبراهين عظيمة على وحدانية الله لأصحاب
العقول السليمة.
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
الذين يذكرون الله في جميع أحوالهم: قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم, وهم
يتدبرون في خلق السموات والأرض, قائلين: يا ربنا ما أوجدت هذا الخلق
عبثًا, فأنت منزَّه عن ذلك, فاصْرِف عنا عذاب النار.
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
يا ربنا نجِّنا من النار, فإنك -يا ألله- مَن تُدخِلْه النار بذنوبه فقد
فضحته وأهنته, وما للمذنبين الظالمين لأنفسهم من أحد يدفع عنهم عقاب الله
يوم القيامة.
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ
آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193)
يا ربنا إننا سمعنا مناديا -هو نبيك محمد صلى الله عليه وسلم- ينادي الناس
للتصديق بك, والإقرار بوحدانيتك, والعمل بشرعك, فأجبنا دعوته وصدَّقنا
رسالته, فاغفر لنا ذنوبنا, واستر عيوبنا, وألحقنا بالصالحين.
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
يا ربنا أعطنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من نصر وتمكين وتوفيق وهداية, ولا
تفضحنا بذنوبنا يوم القيامة, فإنك كريم لا تُخْلف وعدًا وَعَدْتَ به عبادك
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا
وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا
وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
فأجاب الله دعاءهم بأنه لا يضيع جهد مَن عمل منهم عملا صالحًا ذكرًا كان
أو أنثى, وهم في أُخُوَّة الدين وقَبول الأعمال والجزاء عليها سواء,
فالذين هاجروا رغبةً في رضا الله تعالى, وأُخرجوا من ديارهم, وأوذوا في
طاعة ربهم وعبادتهم إيّاه, وقاتلوا وقُتِلوا في سبيل الله لإعلاء كلمته,
ليسترنَّ الله عليهم ما ارتكبوه من المعاصي, كما سترها عليهم في الدنيا,
فلا يحاسبهم عليها, وليدخلنَّهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار
جزاء من عند الله, والله عنده حسن الثواب.
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196)
لا تغتر -أيها الرسول- بما عليه أهل الكفر بالله من بسطة في العيش, وسَعَة
في الرزق, وانتقالهم من مكان إلى مكان للتجارات وطلب الأرباح والأموال,
فعمَّا قليل يزول هذا كلُّه عنهم, ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة.
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
قليل زائل, ثم يكون مصيرهم يوم القيامة إلى النار, وبئس الفراش.
لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (198)
لكن الذين خافوا ربهم, وامتثلوا أوامره, واجتنبوا نواهيه, قد أعدَّ الله
لهم جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار, هي منزلهم الدائم لا يخرجون منه.
وما عد الله أعظم وأفضل لأهل الطاعة مما يتقلب فيه الذين كفروا من نعيم
الدنيا.
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
وإن بعضًا من أهل الكتاب لَيصدِّق بالله ربًّا واحدًا وإلهًا معبودًا,
وبما أُنزِل إليكم من هذا القرآن, وبما أُنزِل إليهم من التوراة والإنجيل
متذللين لله, خاضعين له, لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا من حطام
الدنيا, ولا يكتمون ما أنزل الله, ولا يحرفونه كغيرهم من اهل الكتاب.
أولئك لهم ثواب عظيم عنده يوم يلقونه, فيوفيهم إياه غير منقوص. إنَّ الله
سريع الحساب, لا يعجزه إحصاء أعمالهم, ومحاسبتهم عليها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه اصبروا على طاعة ربكم,
وعلى ما ينزل بكم من ضر وبلاء, وصابروا أعداءكم حتى لا يكونوا أشد صبرًا
منكم, وأقيموا على جهاد عدوي وعدوكم, وخافوا الله في جميع أحوالكم; رجاء
أن تفوزوا برضاه في الدنيا والآخرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:01 pm

سورة النساء الآيات ( 100:51 )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ
يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51)
ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك اليهود الذين أُعطوا حظًّا من العلم
يصدقون بكل ما يُعبد من دون الله من الأصنام وشياطين الإنس والجن تصديقا
يحملهم على التحاكم إلى غير شرع الله, ويقولون للذين كفروا بالله تعالى
وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الكافرون أقْومُ, وأعدلُ طريقًا
من أولئك الذين آمنوا؟
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)
أولئك الذين كَثُرَ فسادهم وعمَّ ضلالهم, طردهم الله نعالى من رحمته, ومَن
يطرده الله من رحمته فلن تجد له من ينصره, ويدفع عنه سوء العذاب.
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
بل ألهم حظ من الملك, ولو أوتوه لما أعطوا أحدًا منه شيئًا, ولو كان مقدار النقرة التي تكون في ظهر النَّواة.
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54)
بل أيحسدون محمدًا صلى الله عليه وسلم على ما أعطاه الله من نعمة النبوة
والرسالة, ويحسدون أصحابه على نعمة التوفيق إلى الإيمان, والتصديق
بالرسالة, واتباع الرسول, والتمكين في الأرض, ويتمنون زوال هذا الفضل
عنهم؟ فقد أعطينا ذرية إبراهيم عليه السلام -من قَبْلُ- الكتب, التي
أنزلها الله عليهم وما أوحي إليهم مما لم يكن كتابا مقروءا, وأعطيناهم مع
ذلك ملكا واسعا.
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)
فمن هؤلاء الذين أوتوا حظًّا من العلم, مَن صدَّق برسالة محمد صلى الله
عليه وسلم, وعمل بشرعه, ومنهم مَن أعرض ولم يستجب لدعوته, ومنع الناس من
اتباعه. وحسبكم -أيها المكذبون- نار جهنم تسعَّر بكم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا
الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)
إن الذين جحدوا ما أنزل الله من آياته ووحي كتابه ودلائله وحججه, سوف
ندخلهم نارًا يقاسون حرَّها, كلما احترقت جلودهم بدَّلْناهم جلودًا أخرى;
ليستمر عذابهم وألمهم. إن الله تعالى كان عزيزًا لا يمتنع عليه شيء,
حكيمًا في تدبيره وقضائه.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ
فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
والذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان بالله تعالى والتصديق برسالة رسوله محمد
صلى الله عليه وسلم, واستقاموا على الطاعة, سندخلهم جنات تجري من تحتها
الأنهار, ينعمون فيها أبدًا ولا يخرجون منها, ولهم فيها أزواج طهرها الله
مِن كل أذى, وندخلهم ظلا كثيفًا ممتدًا في الجنة.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ
اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
(58)
إن الله تعالى يأمركم بأداء مختلف الأمانات, التي اؤتمنتم عليها إلى
أصحابها, فلا تفرطوا فيها, ويأمركم بالقضاء بين الناس بالعدل والقسط, إذا
قضيتم بينهم, ونِعْمَ ما يعظكم الله به ويهديكم إليه. إن الله تعالى كان
سميعًا لأقوالكم, مُطَّلعًا على سائر أعمالكم, بصيرًا بها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, استجيبوا لأوامر الله
تعالى ولا تعصوه, واستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من
الحق, وأطيعوا ولاة أمركم في غير معصية الله, فإن اختلفتم في شيء بينكم,
فأرجعوا الحكم فيه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه
وسلم, إن كنتم تؤمنون حق الإيمان بالله تعالى وبيوم الحساب. ذلك الردُّ
إلى الكتاب والسنة خير لكم من التنازع والقول بالرأي، وأحسن عاقبة ومآلا
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا
إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)
ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك المنافقين الذين يدَّعون الإيمان بما
أُنزل إليك -وهو القرآن- وبما أُنزل إلى الرسل من قبلك, وهم يريدون أن
يتحاكموا في فَصْل الخصومات بينهم إلى غير ما شرع الله من الباطل, وقد
أُمروا أن يكفروا بالباطل؟ ويريد الشيطان أن يبعدهم عن طريق الحق, بعدًا
شديدًا. وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان الصادق, يقتضي الانقياد لشرع
الله, والحكم به في كل أمر من الأمور, فمن زعم أنه مؤمن واختار حكم
الطاغوت على حكم الله, فهو كاذب في زعمه.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)
وإذا نُصح هؤلاء, وقيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله, وإلى الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم, وهديه, أبصَرْتَ الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر,
يعرضون عنك إعراضًا.
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً
وَتَوْفِيقاً (62)
فكيف يكون حال أولئك المناففين, إذا حلَّت بهم مصيبة بسبب ما اقترفوه
بأيديهم, ثم جاؤوك -أيها الرسول- يعتذرون, ويؤكدون لك أنهم ما قصدوا
بأعمالهم تلك إلا الإحسان والتوفيق بين الخصوم.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
أولئك هم الذين يعلم الله حقيقة ما في قلوبهم من النفاق, فتولَّ عنهم,
وحذِّرهم من سوء ما هم عليه, وقل لهم قولا مؤثرًا فيهم زاجرًا لهم.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً
(64)
وما بعَثْنَا من رسول من رسلنا, إلا ليستجاب له, بأمر الله تعالى وقضائه.
ولو أن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم باقتراف السيئات, جاؤوك -أيها الرسول- في
حياتك تائبين سائلين الله أن يغفر لهم ذنوبهم, واستغفرت لهم, لوجدوا الله
توابًا رحيمًا.
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)
أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أن هؤلاء لا يؤمنون حقيقة حتى يجعلوك حكمًا
فيما وقع بينهم من نزاع في حياتك, ويتحاكموا إلى سنتك بعد مماتك, ثم لا
يجدوا في أنفسهم ضيقًا مما انتهى إليه حكمك, وينقادوا مع ذلك انقيادًا
تاماً, فالحكم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة
في كل شأن من شؤون الحياة من صميم الإيمان مع الرضا والتسليم.
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ
اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ
أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ
تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً
(67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68)
ولو أوجبنا على هؤلاء المنافقين المتحاكمين إلى الطاغوت أن يقتل بعضهم
بعضًا, أو أن يخرجوا من ديارهم, ما استجاب لذلك إلا عدد قليل منهم, ولو
أنهم استجابوا لما يُنصحون به لكان ذلك نافعًا لهم, وأقوى لإيمانهم,
ولأعطيناهم من عندنا ثوابًا عظيمًا في الدنيا والآخرة, ولأرشدناهم
ووفقناهم إلى طريق الله القويم.
وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69)
ومن يستجب لأوامر الله تعالى وهدي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فأولئك
الذين عَظُمَ شأنهم وقدرهم, فكانوا في صحبة مَن أنعم الله تعالى عليهم
بالجنة من الأنبياء والصديقين الذين كمُل تصديقهم بما جاءت به الرسل،
اعتقادًا وقولا وعملا والشهداء في سبيل الله وصالح المؤمنين, وحَسُنَ
هؤلاء رفقاء في الجنة.
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
ذلك العطاء الجزيل من الله وحده. وكفى بالله عليما يعلم أحوال عباده, ومَن
يَستحقُّ منهم الثواب الجزيل بما قام به من الأعمال الصالحة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً (71)
يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم بالاستعداد لعدوكم, فاخرجوا لملاقاته جماعة بعد جماعة أو مجتمعين.
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ
قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً
(72)
وإنَّ منكم لنفرًا يتأخر عن الخروج لملاقاة الأعداء متثاقلا ويثبط غيره عن
عمد وإصرار, فإن قُدِّر عليكم وأُصِبتم بقتل وهزيمة, قال مستبشرًا: قد
حفظني الله, حين لم أكن حاضرًا مع أولئك الذين وقع لهم ما أكرهه لنفسي,
وسرَّه تخلفه عنكم.
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ
تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ
فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)
ولئن نالكم فضل من الله وغنيمة, ليقولن -حاسدًا متحسرًا, كأن لم تكن بينكم
وبينه مودة في الظاهر- : يا ليتني كنت معهم فأظفر بما ظَفِروا به من
النجاة والنصرة والغنيمة.
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ
أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)
فليجاهد في سبيل نصرة دين الله, وإعلاء كلمته, الذين يبيعون الحياة الدنيا
بالدار الآخرة وثوابها. ومن يجاهد في سبيل الله مخلصًا, فيُقْتَلْ أو
يَغْلِبْ, فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا.
وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا
وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ
نَصِيراً (75)
وما الذي يمنعكم -أيها المؤمنون- عن الجهاد في سبيل نصرة دين الله, ونصرة
عباده المستضعفين من الرجال والنساء والصغار الذين اعتُدي عليهم, ولا حيلة
لهم ولا وسيلة لديهم إلا الاستغاثة بربهم, يدعونه قائلين: ربنا أخرجنا من
هذه القرية -يعني "مكة "- التي ظَلَم أهلها أنفسهم بالكفر والمؤمنين
بالأذى, واجعل لنا من عندك وليّاً يتولى أمورنا, ونصيرًا ينصرنا على
الظالمين.
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ
الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76)
الذين صدَقُوا في إيمانهم اعتقادًا وعملا يجاهدون في سبيل نصرة الحق
وأهله, والذين كفروا يقاتلون في سبيل البغي والفساد في الأرض, فقاتلوا
أيها المؤمنون أهل الكفر والشرك الذين يتولَّون الشيطان, ويطيعون أمره, إن
تدبير الشيطان لأوليائه كان ضعيفًا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ
الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ
اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ
عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ
مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا
تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك الذين قيل لهم قبل الإذن بالجهاد:
امنعوا أيديكم عن قتال أعدائكم من المشركين, وعليكم أداء ما فرضه الله
عليكم من الصلاة, والزكاة, فلما فرض عليهم القتال إذا جماعة منهم قد تغير
حالهم, فأصبحوا يخافون الناس ويرهبونهم, كخوفهم من الله أو أشد, ويعلنون
عما اعتراهم من شدة الخوف, فيقولون: ربنا لِمَ أَوْجَبْتَ علينا القتال؟
هلا أمهلتنا إلى وقت قريب, رغبة منهم في الحياة الدنيا, قل لهم -أيها
الرسول- : الدنيا قليل, والآخرة وما فيها أعظم وأبقى لمن اتقى, فعمل بما
أُمر به, واجتنب ما نُهي عنه., لا يظلم ربك أحدًا شيئًا, ولو كان مقدار
الخيط الذي يكون في شق نَواة التمرة.
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ
يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)
أينما تكونوا يلحقكم الموت في أي مكان كنتم فيه عند حلول آجالكم, ولو كنتم
في حصون منيعة بعيدة عن ساحة المعارك والقتال. وإن يحصل لهم ما يسرُّهم من
هذه الحياة, ينسبوا حصوله إلى الله تعالى, وإن وقع عليهم ما يكرهونه
ينسبوه إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم جهالة وتشاؤمًا, وما علموا أن
ذلك كله من عند الله وحده, بقضائه وقدره, فما بالهم لا يقاربون فَهْمَ
أيِّ حديث تحدثهم به.
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى
بِاللَّهِ شَهِيداً (79)
ما أصابك -أيها الإنسان- مِن خير ونعمة فهو من الله تعالى وحده, فضلا
وإحسانًا, وما أصابك من جهد وشدة فبسبب عملك السيئ, وما اقترفته يداك من
الخطايا والسيئات. وبعثناك -أيها الرسول- لعموم الناس رسولا تبلغهم رسالة
ربك, وكفى بالله شهيدًا على صدق رسالتك.
مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
من يستجب للرسول صلى الله عليه وسلم, ويعمل بهديه, فقد استجاب لله تعالى
وامتثل أمره, ومن أعرض عن طاعة الله ورسوله فما بعثناك -أيها الرسول- على
هؤلاء المعترضين رقيبًا تحفظ أعمالهم وتحاسبهم عليها, فحسابهم علينا.
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلاً (81)
ويُظْهر هؤلاء المعرضون, وهم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم,
طاعتهم للرسول وما جاء به, فإذا ابتعدوا عنه وانصرفوا عن مجلسه, دبَّر
جماعة منهم ليلا غير ما أعلنوه من الطاعة, وما علموا أن الله يحصي عليهم
ما يدبرون, وسيجازيهم عليه أتم الجزاء, فتول عنهم -أيها الرسول- ولا تبال
بهم, فإنهم لن يضروك, وتوكل على الله, وحسبك به وليّاً وناصرًا.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)
أفلا ينظر هؤلاء في القرآن, وما جاء به من الحق, نظر تأمل وتدبر, حيث جاء
على نسق محكم يقطع بأنه من عند الله وحده؟ ولو كان مِن عند غيره لوجدوا
فيه اختلافًا كثيرًا.
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
وإذا جاء هؤلاء الذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم أمْرٌ يجب كتمانه
متعلقًا بالأمن الذي يعود خيره على الإسلام والمسلمين, أو بالخوف الذي
يلقي في قلوبهم عدم الاطمئنان, أفشوه وأذاعوا به في الناس, ولو ردَّ هؤلاء
ما جاءهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أهل العلم والفقه
لَعَلِمَ حقيقة معناه أهل الاستنباط منهم. ولولا أنْ تَفَضَّلَ الله عليكم
ورحمكم لاتبعتم الشيطان ووساوسه إلا قليلا منكم.
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ
الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84)
فجاهد -أيها النبي- في سبيل الله لإعلاء كلمته, لا تلزم فعل غيرك ولا
تؤاخذ به, وحُضَّ المؤمنين على القتال والجهاد, ورغِّبهم فيه, لعل الله
يمنع بك وبهم بأس الكافرين وشدتهم. والله تعالى أشد قوة وأعظم عقوبة
للكافرين.
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ
يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)
من يَسْعَ لحصول غيره على الخير يكن له بشفاعته نصيب من الثواب, ومن
يَسْعَ لإيصال الشر إلى غيره يكن له نصيب من الوزر والإثم. وكان الله على
كل شيء شاهدًا وحفيظًا.
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)
وإذا سلَّم عليكم المسلم فردُّوا عليه بأفضل مما سلَّم لفظًا وبشاشةً, أو
ردوا عليه بمثل ما سلَّم, ولكل ثوابه وجزاؤه. إن الله تعالى كان على كل
شيء مجازيًا
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
الله وحده المتفرد بالألوهية لجميع الخلق, ليجمعنكم يوم القيامة, الذي لا
شك فيه, للحساب والجزاء. ولا أحد أصدق من الله حديثًا فيما أخبر به.
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ
بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ
يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)
فما لكم -أيها المؤمنون- في شأن المنافقين إذ اختلفتم فرقتين: فرقة تقول
بقتالهم وأخرى لا تقول بذلك؟ والله تعالى قد أوقعهم في الكفر والضلال بسبب
سوء أعمالهم. أتودون هداية من صرف الله تعالى قلبه عن دينه؟ ومن خذله الله
عن دينه, واتباع ما أمره به, فلا طريق له إلى الهدى.
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (89)
تمنَّى المنافقون لكم أيها المؤمنون, لو تنكرون حقيقة ما آمنت به قلوبكم,
مثلما أنكروه بقلوبهم, فتكونون معهم في الإنكار سواء, فلا تتخذوا منهم
أصفياء لكم, حتى يهاجروا في سبيل الله, برهانًا على صدق إيمانهم, فإن
أعرضوا عما دعوا إليه, فخذوهم أينما كانوا واقتلوهم, ولا تتخذوا منهم
وليّاً من دون الله ولا نصيرًا تستنصرونه به.
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ
يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ
فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سَبِيلاً (90)
لكن الذين يتصلون بقوم بينكم وبينهم عهد وميثاق فلا تقاتلوهم, وكذلك الذين
أتَوا إليكم وقد ضاقت صدورهم وكرهوا أن يقاتلوكم, كما كرهوا أن يقاتلوا
قومهم, فلم يكونوا معكم ولا مع قومهم, فلا تقاتلوهم, ولو شاء الله تعالى
لسلَّطهم عليكم, فلقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين, ولكن الله تعالى صرفهم
عنكم بفضله وقدرته, فإن تركوكم فلم يقاتلوكم, وانقادوا اليكم مستسلمين,
فليس لكم عليهم من طريق لقتالهم.
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا
قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ
لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا
أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (91)
ستجدون قومًا آخرين من المنافقين يودون الاطمئنان على أنفسهم من جانبكم,
فيظهرون لكم الإيمان, ويودون الاطمئنان على أنفسهم من جانب قومهم
الكافرين, فيظهرون لهم الكفر, كلما أعيدوا إلى موطن الكفر والكافرين,
وقعوا في أسوأ حال. فهؤلاء إن لم ينصرفوا عنكم, ويقدموا إليكم الاستسلام
التام, ويمنعوا أنفسهم عن قتالكم فخذوهم بقوة واقتلوهم أينما كانوا,
وأولئك الذين بلغوا في هذا المسلك السيِّئ حدّاً يميزهم عمَّن عداهم, فهم
الذين جعلنا لكم الحجة البينة على قتلهم وأسرهم.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)
ولا يحق لمؤمن الاعتداء على أخيه المؤمن وقتله بغير حق, إلا أن يقع منه
ذلك على وجه الخطأ الذي لا عمد فيه, ومن وقع منه ذلك الخطأ فعليه عتق رقبة
مؤمنة, وتسليم دية مقدرة إلى أوليائه, إلا أن يتصدقوا بها عليه ويعفوا
عنه. فإن كان المقتول من قوم كفار أعداء للمؤمنين, وهو مؤمن بالله تعالى,
وبما أنزل من الحق على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, فعلى قاتله عتق
رقبة مؤمنة, وإن كان من قوم بينكم وبينهم عهد وميثاق, فعلى قاتله دية تسلم
إلى أوليائه وعتق رقبة مؤمنة, فمن لم يجد القدرة على عتق رقبة مؤمنة,
فعليه صيام شهرين متتابعين; ليتوب الله تعالى عليه. وكان الله تعالى عليما
بحقيقة شأن عباده, حكيمًا فيما شرعه لهم.
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً
فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً
عَظِيماً (93)
ومن يَعْتَدِ على مؤمن فيقتله عن عمد بغير حق فعاقبته جهنم, خالدًا فيها
مع سخط الله تعالى عليه وطَرْدِهِ من رحمته, إن جازاه على ذنبه وأعدَّ
الله له أشد العذاب بسبب ما ارتكبه من هذه الجناية العظيمة. ولكنه سبحانه
يعفو ويتفضل على أهل الإيمان فلا يجازيهم بالخلود في جهنم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ
مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ
مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
(94)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إذا خرجتم في الأرض
مجاهدين في سبيل الله فكونوا على بينة مما تأتون وتتركون, ولا تنفوا
الإيمان عمن بدا منه شيء من علامات الإسلام ولم يقاتلكم; لاحتمال أن يكون
مؤمنًا يخفي إيمانه, طالبين بذلك الحياة الدنيا, والله تعالى عنده من
الفضل والعطاء ما يغنيكم به, كذلك كنتم في بدء الإسلام تخفون إيمانكم عن
قومكم من المشركين فمَنَّ الله عليكم, وأعزَّكم بالإيمان والقوة, فكونوا
على بيِّنة ومعرفة في أموركم. إن الله تعالى عليم بكل أعمالكم, مطَّلع على
دقائق أموركم, وسيجازيكم عليها.
لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ
فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى
الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ
اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)
لا يتساوى المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله -غير أصحاب الأعذار منهم-
والمجاهدون في سبيل الله, بأموالهم وأنفسهم, فضَّل الله تعالى المجاهدين
على القاعدين, ورفع منزلتهم درجة عالية في الجنة, وقد وعد الله كلا من
المجاهدين بأموالهم وأنفسهم والقاعدين من أهل الأعذار الجنة لِما بذلوا
وضحَّوا في سبيل الحق, وفضَّل الله تعالى المجاهدين على القاعدين ثوابًا
جزيلا.
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
هذا الثواب الجزيل منازل عالية في الجنات من الله تعالى لخاصة عباده
المجاهدين في سبيله, ومغفرة لذنوبهم ورحمة واسعة ينعمون فيها. وكان الله
غفورًا لمن تاب إليه وأناب, رحيمًا بأهل طاعته, المجاهدين في سبيله.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا
فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا
فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97)
إن الذين توفَّاهم الملائكة وقد ظلموا أنفسهم بقعودهم في دار الكفر وترك
الهجرة, تقول لهم الملائكة توبيخًا لهم: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟
فيقولون: كنا ضعفاء في أرضنا, عاجزين عن دفع الظلم والقهر عنا, فيقولون
لهم توبيخا: ألم تكن أرض الله واسعة فتخرجوا من أرضكم إلى أرض أخرى بحيث
تأمنون على دينكم؟ فأولئك مثواهم النار, وقبح هذا المرجع والمآب.
إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)
ويعذر من ذاك المصير العجزة من الرجال والنساء والصغار الذين لا يقدرون
على دفع القهر والظلم عنهم, ولا يعرفون طريقًا يخلصهم مما هم فيه من
المعاناة.
فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99)
فهؤلاء الضعفاء هم الذين يُرجى لهم من الله تعالى العفو; لعلمه تعالى بحقيقة أمرهم. وكان الله عفوًا غفورًا.
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً
كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
ومَن يخرج من أرض الشرك إلى أرض الإسلام فرارًا بدينه, راجيًا فضل ربه,
قاصدًا نصرة دينه, يجد في الأرض مكانًا ومتحولا ينعم فيه بما يكون سببًا
في قوته وذلة أعدائه, مع السعة في رزقه وعيشه, ومن يخرج من بيته قاصدًا
نصرة دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, وإعلاء كلمة الله, ثم يدركه
الموت قبل بلوغه مقصده, فقد ثبت له جزاء عمله على الله, فضلا منه
وإحسانًا. وكان الله غفورًا رحيمًا بعباده.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:01 pm

سورة النساء الآيات ( 176:101 )


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً (101)
وإذا سافرتم -أيها المؤمنون- في أرض الله, فلا حرج ولا إثم عليكم في قصر
الصلاة إن خفتم من عدوان الكفار عليكم في حال صلاتكم, وكانت غالب أسفار
المسلمين في بدء الإسلام مخوفة, والقصر رخصة في السفر حال الأمن أو الخوف.
إن الكافرين مجاهرون لكم بعداوتهم, فاحذروهم.
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ
يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ
أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً
وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ
أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (102)
وإذا كنت -أيها النبي- في ساحة القتال, فأردت أن تصلي بهم, فلتقم جماعة
منهم معك للصلاة, وليأخذوا سلاحهم, فإذا سجد هؤلاء فلتكن الجماعة الأخرى
من خلفكم في مواجهة عدوكم, وتتم الجماعة الأولى ركعتهم الثانية
ويُسلِّمون, ثم تأتي الجماعة الأخرى التي لم تبدأ الصلاة فليأتموا بك في
ركعتهم الأولى, ثم يكملوا بأنفسهم ركعتهم الثانية, وليحذروا مِن عدوهم
وليأخذوا أسلحتهم. ودَّ الجاحدون لدين الله أن تغفُلوا عن سلاحكم وزادكم;
ليحملوا عليكم حملة واحلة فيقضوا عليكم, ولا إثم عليكم حيننذ إن كان بكم
أذى من مطر, أو كنتم في حال مرض, أن تتركوا أسلحتكم, مع أخذ الحذر. إن
الله تعالى أعدَّ للجاحدين لدينه عذابًا يهينهم, ويخزيهم.
فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً
وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً (103)
فإذا أدَّيتم الصلاة, فأديموا ذكر الله في جميع أحوالكم, فإذا زال الخوف
فأدُّوا الصلاة كاملة, ولا تفرِّطوا فيها فإنها واجبة في أوقات معلومة في
الشرع.
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا
لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
ولا تضعفوا في طلب عدوكم وقتاله, إن تكونوا تتألمون من القتال وآثاره,
فأعداؤكم كذلك يتألمون منه أشد الألم, ومع ذلك لا يكفون عن قتالكم, فأنتم
أولى بذلك منهم, لما ترجونه من الثواب والنصر والتأييد, وهم لا يرجون ذلك.
وكان الله عليمًا بكل أحوالكم, حكيمًا في أمره وتدبيره.
إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105)
إنا أنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن مشتملا على الحق; لتفصل بين الناس
جميعًا بما أوحى الله إليك, وبَصَّرك به, فلا تكن للذين يخونون أنفسهم
-بكتمان الحق- مدافعًا عنهم بما أيدوه لك من القول المخالف للحقيقة.
وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)
واطلب من الله تعالى المغفرة في جميع أحوالك, إن الله تعالى كان غفورًا لمن يرجو فضله ونوال مغفرته, رحيمًا به.
وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)
ولا تدافع عن الذين يخونون أنفسهم بمعصية الله. إن الله -سبحانه- لا يحب مَن عَظُمَتْ خيانته, وكثر ذنبه.
يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ
مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ
اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)
يستترون من الناس خوفًا من اطلاعهم على أعمالهم السيئة, ولا يستترون من
الله تعالى ولا يستحيون منه, وهو عزَّ شأنه معهم بعلمه, مطلع عليهم حين
يدبِّرون -ليلا- ما لا يرضى من القول, وكان الله -تعالى- محيطًا بجميع
أقوالهم وأفعالهم, لا يخفى عليه منها شيء.
هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
ها أنتم -أيها المؤمنون- قد حاججتم عن هؤلاء الخائنين لأنفسهم في هذه
الحياة الدنيا, فمن يحاجج الله تعالى عنهم يوم البعث والحساب؟ ومن ذا الذي
يكون على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة؟
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
ومن يُقْدِمْ على عمل سيِّئ قبيح, أو يظلم نفسه بارتكاب ما يخالف حكم الله
وشرعه, ثم يرجع إلى الله نادمًا على ما عمل, راجيًا مغفرته وستر ذنبه, يجد
الله تعالى غفورًا له, رحيمًا به.
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)
ومن يعمد إلى ارتكاب ذنب فإنما يضر بذلك نفسه وحدها, وكان الله تعالى عليمًا بحقيقة أمر عباده, حكيمًا فيما يقضي به بين خلقه.
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)
ومن يعمل خطيئة بغير عمد, أو يرتكب ذنبًا متعمدًا ثم يقذف بما ارتكبه نفسًا بريئة لا جناية لها, فقد تحمَّل كذبًا وذنبًا بيّنا.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
ولولا أن الله تعالى قد مَنَّ عليك -أيها الرسول- ورحمك بنعمة النبوة,
فعصمك بتوفيقه بما أوحى إليك, لعزمت جماعة من الذين يخونون أنفسهم أن
يُزِلُّوكَ عن طريق الحق, وما يُزِلُّونَ بذلك إلا أنفسهم, وما يقدرون على
إيذائك لعصمة الله لك, وأنزل الله عليك القرآن والسنة المبينة له, وهداك
إلى علم ما لم تكن تعلمه مِن قبل, وكان ما خصَّك الله به من فضلٍ أمرًا
عظيمًا.
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ
أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
لا نفع في كثير من كلام الناس سرّاً فيما بينهم, إلا إذا كان حديثًا
داعيًا إلى بذل المعروف من الصدقة, أو الكلمة الطيبة, أو التوفيق بين
الناس, ومن يفعل تلك الأمور طلبًا لرضا الله تعالى راجيًا ثوابه, فسوف
نؤتيه ثوابًا جزيلا واسعًا.
وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (115)
ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ما ظهر له الحق, ويسلك طريقًا
غير طريق المؤمنين, وما هم عليه من الحق, نتركه وما توجَّه إليه, فلا
نوفقه للخير, وندخله نار جهنم يقاسي حرَّها, وبئس هذا المرجع والمآل.
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
بَعِيداً (116)
إن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به, ويغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء
من عباده. ومن يجعل لله تعالى الواحد الأحد شريكًا من خلقه, فقد بَعُدَ عن
الحق بعدًا كبيرًا.
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117)
ما يعبد المشركون من دون الله تعالى إلا أوثانًا لا تنفع ولا تضر, وما
يعبدون إلا شيطانًا متمردًا على الله, بلغ في الفساد والإفساد حدّاً
كبيرًا.
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)
طرده الله تعالى من رحمته. وقال الشيطان: لأتخذن مِن عبادك جزءًا معلومًا في إغوائهم قولا وعملا.
وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ
آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ
وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ
خُسْرَاناً مُبِيناً (119)
ولأصرفَنَّ مَن تبعني منهم عن الحق, ولأعِدَنَّهم بالأماني الكاذبة,
ولأدعونَّهم إلى تقطيع آذان الأنعام وتشقيقها لما أزينه لهم من الباطل,
ولأدعونَّهم إلى تغيير خلق الله في الفطرة, وهيئة ما عليه الخلق. ومن
يستجب للشيطان ويتخذه ناصرًا له من دون الله القوي العزيز, فقد هلك هلاكًا
بيِّنًا.
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)
يعد الشيطان أتباعه بالوعود الكاذبة, ويغريهم بالأماني الباطلة الخادعة, وما يَعِدهم إلا خديعة لا صحة لها, ولا دليل عليها.
أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121)
أولئك مآلهم جهنم, ولا يجدون عنها معدلا ولا ملجأً.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ
اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً (122)
والذين صَدَقوا في إيمانهم بالله تعالى, وأتبعوا الإيمان بالأعمال الصالحة
سيدخلهم الله -بفضله- جنات تجري من نحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها
أبدًا, وعدا من الله تعالى الذي لا يخلف وعده. ولا أحد أصدق من الله تعالى
في قوله ووعده.
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا
نَصِيراً (123)
لا يُنال هذا الفضل العظيم بالأماني التي تتمنونها أيها المسلمون, ولا
بأماني أهل الكتاب من اليهود والنصارى, وإنما يُنال بالإيمان الصادق بالله
تعالى, وإحسان العمل الذي يرضيه. ومن يعمل عملا سيئًا يجز به, ولا يجد له
سوى الله تعالى وليّاً يتولى أمره وشأنه, ولا نصيرًا ينصره, ويدفع عنه سوء
العذاب.
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً
(124)
ومن يعمل من الأعمال الصالحة من ذكر أو أنثى, وهو مؤمن بالله تعالى وبما
أنزل من الحق, فأولئك يدخلهم الله الجنة دار النعيم المقيم, ولا يُنْقَصون
من ثواب أعمالهم شيئًا, ولو كان مقدار النقرة في ظهر النواة.
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ
مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)
لا أحد أحسن دينًا ممن انقاد بقلبه وسائر جوارحه لله تعالى وحده, وهو
محسن, واتبع دين إبراهيم وشرعه, مائلا عن العقائد الفاسدة والشرائع
الباطلة. وقد اصطفى الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- واتخذه صفيّاً من
بين سائر خلقه. وفي هذه الآية, إثبات صفة الخُلّة لله -تعالى- وهي أعلى
مقامات المحبة, والاصطفاء.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
ولله جميع ما في هذا الكون من المخلوقات, فهي ملك له تعالى وحده. وكان الله تعالى بكل شيء محيطًا, لا يخفى عليه شيء من أمور خلقه.
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ
وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ
اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِهِ عَلِيماً (127)
يطلب الناس منك -أيها النبي- أن تبين لهم ما أشكل عليهم فَهْمُه من قضايا
النساء وأحكامهن, قل الله تعالى يبيِّن لكم أمورهن, وما يتلى عليكم في
الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تعطونهن ما فرض الله تعالى لهن من المهر
والميراث وغير ذلك من الحقوق, وتحبون نكاحهن أو ترغبون عن نكاحهن, ويبيِّن
الله لكم أمر الضعفاء من الصغار, ووجوب القيام لليتامى بالعدل وترك الجور
عليهم في حقوقهم. وما تفعلوا من خير فإن الله تعالى كان به عليمًا, لا
يخفى عليه شيء منه ولا من غيره
وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ
خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
وإن علمت امرأة من زوجها ترفعًا عنها, وتعاليًا عليها أو انصرافًا عنها
فلا إثم عليهما أن يتصالحا على ما تطيب به نفوسهما من القسمة أو النفقة,
والصلح أولى وأفضل. وجبلت النفوس على الشح والبخل. وإن تحسنوا معاملة
زوجاتكم وتخافوا الله فيهن, فإن الله كان بما تعملون من ذلك وغيره عالمًا
لا يخفى عليه شيء, وسيجازيكم على ذلك.
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ
حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً
(129)
ولن تقدروا -أيها الرجال- على تحقيق العدل التام بين النساء في المحبة
وميل القلب, مهما بذلتم في ذلك من الجهد, فلا تعرضوا عن المرغوب عنها كل
الإعراض, فتتركوها كالمرأة التي ليست بذات زوج ولا هي مطلقة فتأثموا. وإن
تصلحوا أعمالكم فتعدلوا في قَسْمكم بين زوجاتكم, وتراقبوا الله تعالى
وتخشوه فيهن, فإن الله تعالى كان غفورًا لعباده, رحيمًا بهم.
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً (130)
وإن وقعت الفرقة بين الرجل وامرأته, فإن الله تعالى يغني كلا منهما من
فضله وسعته; فإنه سبحانه وتعالى واسع الفضل والمنة, حكيم فيما يقضي به بين
عباده.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا
اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا
فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131)
ولله ملك ما في السموات وما في الأرض وما بينهما. ولقد عهدنا إلى الذين
أُعطوا الكتاب من قبلكم من اليهود والنصارى, وعهدنا إليكم كذلك -يا أمة
محمد- بتقوى الله تعالى, والقيام بأمره واجتناب نهيه, وبيَّنَّا لكم أنكم
إن تجحدوا وحدانية الله تعالى وشرعه فإنه سبحانه غني عنكم; لأن له جميع ما
في السموات والأرض. وكان الله غنيّاً عن خلقه, حميدًا في صفاته وأفعاله.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)
ولله ملك ما في هذا الكون من الكائنات, وكفى به سبحانه قائمًا بشؤون خلقه حافظًا لها.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً (133)
إن يشأ الله يُهلكُّم أيها الناس, ويأت بقوم آخرين غيركم. وكان الله على ذلك قديرًا.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
من يرغب منكم -أيها الناس- في ثواب الدنيا ويعرض عن الآخرة, فعند الله
وحده ثواب الدنيا والآخرة, فليطلب من الله وحده خيري الدنيا والآخرة, فهو
الذي يملكهما. وكان الله سميعًا لأقوال عباده, بصيرًا بأعمالهم ونياتهم,
وسيجازيهم على ذلك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى
بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, كونوا قائمين بالعدل,
مؤدين للشهادة لوجه الله تعالى, ولو كانت على أنفسكم, أو على آبائكم
وأمهاتكم, أو على أقاربكم, مهما كان شأن المشهود عليه غنيًّا أو فقيرًا;
فإن الله تعالى أولى بهما منكم, وأعلم بما فيه صلاحهما, فلا يحملنَّكم
الهوى والتعصب على ترك العدل, وإن تحرفوا الشهادة بألسنتكم فتأتوا بها على
غير حقيقتها, أو تعرضوا عنها بترك أدائها أو بكتمانها, فإن الله تعالى كان
عليمًا بدقائق أعمالكم, وسيجازيكم بها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
بَعِيداً (136)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه داوموا على ما أنتم عليه
من التصديق الجازم بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم, ومن
طاعتهما, وبالقرآن الذي نزله عليه, وبجميع الكتب التي أنزلها الله على
الرسل. ومن يكفر بالله تعالى, وملائكته المكرمين, وكتبه التي أنزلها
لهداية خلقه, ورسله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته, واليوم الآخر الذي يقوم
الناس فيه بعد موتهم للعرض والحساب, فقد خرج من الدين, وبَعُدَ بعدًا
كبيرًا عن طريق الحق.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا
ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا
لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)
إن الذين دخلوا في الإيمان, ثم رجعوا عنه إلى الكفر, ثم عادوا إلى
الإيمان, ثم رجعوا إلى الكفر مرة أخرى, ثم أصرُّوا على كفرهم واستمروا
عليه, لم يكن الله ليغفر لهم, ولا ليدلهم على طريق من طرق الهداية, التي
ينجون بها من سوء العاقبة.
بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138)
بشّر -أيها الرسول- المنافقين -وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر- بأن لهم عذابًا موجعًا.
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً (139)
الذين يوالون الكافرين, ويتخذونهم أعوانًا لهم, ويتركون ولاية المؤمنين,
ولا يرغبون في مودتهم. أيطلبون بذلك النصرة والمنعة عند الكافرين؟ إنهم لا
يملكون ذلك, فالنصرة والعزة والقوة جميعها لله تعالى وحده.
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ
اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً
(140)
وقد نزل عليكم -أيها المؤمنون- في كتاب ربكم أنه إذا سمعتم الكفر بآيات
الله والاستهزاء بها فلا تجلسوا مع الكافرين والمستهزئين, إلا إذا أخذوا
في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بآيات الله. إنكم إذا جالستموهم, وهم
على ما هم عليه, فأنتم مثلهم; لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم, والراضي
بالمعصية كالفاعل لها. إن الله تعالى جامع المنافقين والكافرين في نار
جهنم جميعًا, يلْقَون فيها سوء العذاب.
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ
قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ
قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
المنافقون هم الذين ينتظرون ما يحلُّ بكم -أيها المؤمنون- من الفتن
والحرب, فإن منَّ الله عليكم بفضله, ونصركم على عدوكم وغنمتم, قالوا لكم:
ألم نكن معكم نؤازركم؟ وإن كان للجاحدين لهذا الدين قَدْرٌ من النصر
والغنيمة, قالوا لهم: ألم نساعدكم بما قدَّمناه لكم ونَحْمِكُم من
المؤمنين؟ فالله تعالى يقضي بينكم وبينهم يوم القيامة, ولن يجعل الله
للكافرين طريقًا للغلبة على عباده الصالحين, فالعاقبة للمتقين في الدنيا
والآخرة.
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا
قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142)
إنَّ طريقة هؤلاء المنافقين مخادعة الله تعالى, بما يظهرونه من الإيمان
وما يبطنونه من الكفر, ظنًّا أنه يخفى على الله, والحال أن الله خادعهم
ومجازيهم بمثل عملهم, وإذا قام هؤلاء المنافقون لأداء الصلاة, قاموا إليها
في فتور, يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة, ولا يذكرون الله تعالى إلا ذكرًا
قليلا.
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
إنَّ مِن شأن هؤلاء المنافقين التردد والحَيْرة والاضطراب, لا يستقرون على
حال, فلا هم مع المؤمنين ولا هم مع الكافرين. ومن يصرف الله قلبه عن
الإيمان به والاستمساك بهديه, فلن تجد له طريقًا إلى الهداية واليقين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (144)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لا توالوا الجاحدين لدين
الله, وتتركوا موالاة المؤمنين ومودتهم. أتريدون بمودَّة أعدائكم أن
تجعلوا لله تعالى عليكم حجة ظاهرة على عدم صدقكم في إيمانكم؟
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)
إن المنافقين في أسفل منازل النار يوم القيامة, ولن تجد لهم -أيها الرسول- ناصرًا يدفع عنهم سوء هذا المصير.
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)
إلا الذين رجعوا إلى الله تعالى وتابوا إليه, وأصلحوا ما أفسدوا من
أحوالهم باطنًا وظاهرًا, ووالوا عباده المؤمنين, واستمسكوا بدين الله,
وأخلصوا له سبحانه, فأولئك مع المؤمنين في الدنيا والآخرة, وسوف يعطي الله
المؤمنين ثوابًا عظيمًا.
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147)
ما يفعل الله بعذابكم إن أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله, فإن الله
سبحانه غني عمَّن سواه, وإنما يعذب العباد بذنوبهم. وكان الله شاكرًا
لعباده على طاعتهم له, عليمًا بكل شيء.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)
لا يُحِبُّ الله أن يَجهر أحدٌ بقول السوء, لكن يُباح للمظلوم أن يَذكُر
ظالمه بما فيه من السوء; ليبيِّن مَظْلمته. وكان الله سميعًا لما تجهرون
به, عليمًا بما تخفون من ذلك.
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً (149)
نَدَب الله تعالى إلى العفو, ومهَّد له بأنَّ المؤمن: إمَّا أن يُظهر
الخير, وإمَّا أن يُخفيه, وكذلك مع الإساءة: إما أن يظهرها في حال
الانتصاف من المسيء, وإما أن يعفو ويصفح, والعفوُ أفضلُ; فإن من صفاته
تعالى العفو عن عباده مع قدرته عليهم.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلاً (150)
إن الذين يكفرون بالله ورسله من اليهود والنصارى, ويريدون أن يفرقوا بين
الله ورسله بأن يؤمنوا بالله ويكذبوا رسله الذين أرسلهم إلى خلقه, أو
يعترفوا بصدق بعض الرسل دون بعض, ويزعموا أنَّ بعضهم افتروا على ربِّهم,
ويريدون أن يتخذوا طريقًا إلى الضلالة التي أحدثوها والبدعة التي ابتدعوها.
أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (151)
أولئك هم أهل الكفر المحقَّق الذي لا شك فيه, وأعتدنا للكافرين عذابًا يخزيهم ويهينهم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
والذين صَدَّقوا بوحدانية الله, وأقرُّوا بنبوَّة رسله أجمعين, ولم يفرقوا
بين أحد منهم, وعملوا بشريعة الله, أولئك سوف يعطيهم جزاءهم وثوابهم على
إيمانهم به وبرسله. وكان الله غفورًا رحيمًا.
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنْ
السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا
أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ
فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً (153)
يسألك اليهود -أيها الرسول- معجزة مثل معجزة موسى تشهد لك بالصدق: بأن
تنزل عليهم صُحُفًا من الله مكتوبةً, مثل مجيء موسى بالألواح من عند الله,
فلا تعجب -أيها الرسول- فقد سأل أسلافهم موسى -عليه السلام- ما هو أعظم:
سألوه أن يريهم الله علانيةً, فَصُعِقوا بسبب ظلمهم أنفسهم حين سألوا
أمرًا ليس من حقِّهم. وبعد أن أحياهم الله بعد الصعق, وشاهدوا الآيات
البينات على يد موسى القاطعة بنفي الشرك, عبدوا العجل من دون الله,
فعَفونا عن عبادتهم العجل بسبب توبتهم, وآتينا موسى حجة عظيمة تؤيِّد صِدق
نُبُوَّتِه.
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ
وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (154)
ورفعنا فوق رؤوسهم جبل الطور حين امتنعوا عن الالتزام بالعهد المؤكد الذي
أعطوه بالعمل بأحكام التوراة, وأمرناهم أن يدخلوا باب "بيت المقدس"
سُجَّدًا, فدخلوا يزحفون على أستاههم, وأمرناهم ألا يَعْتَدُوا بالصيد في
يوم السبت فاعتدَوا, وصادوا, وأخذنا عليهم عهدًا مؤكدًا, فنقضوه.
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا
غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ
إِلاَّ قَلِيلاً (155)
فلعنَّاهم بسبب نقضهم للعهود, وكفرهم بآيات الله الدالة على صدق رسله,
وقتلهم للأنبياء ظلمًا واعتداءً, وقولهم: قلوبنا عليها أغطية فلا تفقه ما
تقول, بل طمس الله عليها بسبب كفرهم, فلا يؤمنون إلا إيمانًا قليلا لا
ينفعهم.
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156)
وكذلك لعنَّاهم بسبب كفرهم وافترائهم على مريم بما نسبوه إليها من الزنى, وهي بريئة منه.
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ
اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)
وبسبب قولهم -على سبيل التهكم والاستهزاء- : هذا الذي يدعي لنفسه هذا
المنصب (قتلناه), وما قتلوا عيسى وما صلبوه, بل صلبوا رجلا شبيهًا به
ظنًّا منهم أنه عيسى. ومن ادَّعى قَتْلَهُ من اليهود, ومن أسلمه إليهم من
النصارى, كلهم واقعون في شك وحَيْرَة, لا عِلْمَ لديهم إلا اتباع الظن,
وما قتلوه متيقنين بل شاكين متوهمين.
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)
بل رفع الله عيسى إليه ببدنه وروحه حيًّا, وطهَّره من الذين كفروا. وكان الله عزيزًا في ملكه, حكيمًا في تدبيره وقضائه.
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
وإنه لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب بعد نزول عيسى آخر الزمان إلا آمن به قبل
موته عليه السلام, ويوم القيامة يكون عيسى -عليه السلام- شهيدًا بتكذيب
مَن كذَّبه, وتصديق مَن صدَّقه.
فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160)
فبسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حَرَّم الله عليهم طيبات
من المأكل كانت حلالا لهم, وبسبب صدِّهم أنفسهم وغيرهم عن دين الله القويم.
وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ
النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً
أَلِيماً (161)
وبسبب تناولهم الربا الذي نهوا عنه, واستحلالهم أموال الناس بغير استحقاق,
وأعتدنا للكافرين بالله ورسوله مِن هؤلاء اليهود عذابًا موجعًا في الآخرة.
لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
(162)
لكنِ المتمكنون في العلم بأحكام الله من اليهود, والمؤمنون بالله ورسوله,
يؤمنون بالذي أنزله الله إليك -أيها الرسول- وهو القرآن, وبالذي أنزل إلى
الرسل من قبلك كالتوراة والإنجيل, ويؤدُّون الصلاة في أوقاتها, ويخرجون
زكاة أموالهم, ويؤمنون بالله وبالبعث والجزاء, أولئك سيعطيهم الله ثوابًا
عظيمًا, وهو الجنة.
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (163)
إنا أوحينا اليك -أيها الرسول- بتبليغ الرسالة كما أوحينا إلى نوح
والنبيين من بعده, وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط
-وهم الأنبياء الذين كانوا في قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة من ولد
يعقوب- وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان. وآتينا داود زبورًا, وهو كتاب
وصحف مكتوبة.
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164)
وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك في القرآن من قبل هذه الآية, ورسلا لم
نقصصهم عليك لحكمة أردناها. وكلم الله موسى تكليمًا؛ تشريفًا له بهذه
الصفة. وفي هذه الآية الكريمة, إثبات صفة الكلام لله -تعالى- كما يليق
بجلاله, وأنه سبحانه كلم نبيه موسى -عليه السلام- حقيقة بلا وساطة.
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى
اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)
أرسَلْتُ رسلا إلى خَلْقي مُبشِّرين بثوابي, ومنذرين بعقابي; لئلا يكون
للبشر حجة يعتذرون بها بعد إرسال الرسل. وكان الله عزيزًا في ملكه, حكيمًا
في تدبيره.
لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
إن يكفر بك اليهود وغيرهم -أيها الرسول- فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي
أَنْزَلَ عليه القرآن العظيم, أنزله بعلمه, وكذلك الملائكة يشهدون بصدق ما
أوحي إليك, وشهادة الله وحدها كافية.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167)
إن الذين جحدوا نُبُوَّتك, وصدوا الناس عن الإسلام, قد بَعُدوا عن طريق الحق بُعْدًا شديدًا.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168)
إن الذين كفروا بالله وبرسوله, وظلموا باستمرارهم على الكفر, لم يكن الله ليغفر ذنوبهم, ولا ليدلهم على طريق ينجيهم.
إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)
إلا طريق جهنم ماكثين فيها أبدًا, وكان ذلك على الله يسيرًا, فلا يعجزه شيء.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ
رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ
مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
يا أيها الناس قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالإسلام دين الحق
من ربكم, فَصَدِّقوه واتبعوه, فإن الإيمان به خيرلكم, وإن تُصرُّوا على
كفركم فإن الله غني عنكم وعن إيمانكم; لأنه مالك ما في السموات والأرض.
وكان الله عليمًا بأقوالكم وأفعالكم, حكيمًا في تشريعه وأمره. فإذا كانت
السموات والأرض قد خضعتا لله تعالى كونًا وقدرًا خضوع سائر ملكه, فأولى
بكم أن تؤمنوا بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وبالقرآن الذي
أنزله عليه, وأن تنقادوا لذلك شرعًا حتى يكون الكون كلُّه خاضعًا لله
قدرًا وشرعًا. وفي الآية دليل على عموم رسالة نبي الله ورسوله محمد صلى
الله عليه وسلم.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً
لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ
وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلاً (171)
يا أهل الإنجيل لا تتجاوزوا الاعتقاد الحق في دينكم, ولا تقولوا على الله
إلا الحق, فلا تجعلوا له صاحبةً ولا ولدًا. إنما المسيح عيسى ابن مريم
رسول الله أرسله الله بالحق, وخَلَقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى
مريم, وهي قوله: "كن", فكان, وهي نفخة من الله تعالى نفخها جبريل بأمر
ربه, فَصدِّقوا بأن الله واحد وأسلموا له, وصدِّقوا رسله فيما جاؤوكم به
من عند الله واعملوا به, ولا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين. انتهوا عن
هذه المقالة خيرًا لكم مما أنتم عليه, إنما الله إله واحد سبحانه. ما في
السموات والأرض مُلْكُه, فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد؟ وكفى بالله
وكيلا على تدبير خلقه وتصريف معاشهم, فتوكَّلوا عليه وحده فهو كافيكم.
لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا
الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)
لن يَأْنف ولن يمتنع المسيح أن يكون عبدًا لله, وكذلك لن يأنَفَ الملائكة
المُقَرَّبون من الإقرار بالعبودية لله تعالى. ومن يأنف عن الانقياد
والخضوع ويستكبر فسيحشرهم كلهم إليه يوم القيامة, ويفصلُ بينهم بحكمه
العادل, ويجازي كلا بما يستحق.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (173)
فأمَّا الذين صَدَّقوا بالله اعتقادًا وقولا وعملا واستقاموا على شريعته
فيوفيهم ثواب أعمالهم, ويزيدُهم من فضله, وأما الذين امتنعوا عن طاعة
الله, واستكبروا عن التذلل له فيعذبهم عذابًا موجعًا, ولا يجدون لهم
وليًّا ينجيهم من عذابه, ولا ناصرًا ينصرهم من دون الله.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)
يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم, وهو رسولنا محمد, وما جاء به من
البينات والحجج القاطعة, وأعظمها القرآن الكريم, مما يشهد بصدق نبوته
ورسالته الخاتمة, وأنزلنا إليكم القرآن هدًى ونورًا مبينًا.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ
صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (175)
فأمَّا الذين صدَّقوا بالله اعتقادًا وقولا وعملا واستمسكوا بالنور الذي
أُنزل إليهم, فسيدخلهم الجنة رحمة منه وفضلا ويوفقهم إلى سلوك الطريق
المستقيم المفضي إلى روضات الجنات.
يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ
هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ
وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا
اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا
إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (176)
يسألونك -أيها الرسول- عن حكم ميراث الكلالة, وهو من مات وليس له ولدٌ ولا
والد, قل: الله يُبيِّن لكم الحكم فيها: إن مات امرؤ ليس له ولد ولا والد,
وله أخت لأبيه وأمه, أو لأبيه فقط, فلها نصف تركته, ويرث أخوها شقيقًا كان
أو لأب جميع مالها إذا ماتت وليس لها ولد ولا والد. فإن كان لمن مات
كلالةً أختان فلهما الثلثان مما ترك. وإذا اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم
مع الإناث فللذكر مثل نصيب الأنثيين من أخواته. يُبيِّن الله لكم قسمة
المواريث وحكم الكلالة, لئلا تضلوا عن الحقِّ في أمر المواريث. والله عالم
بعواقب الأمور, وما فيها من الخير لعباده.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:02 pm

سورةالمائدة
الآيات (30:1 )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ



يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, أتِمُّوا عهود الله
الموثقة, من الإيمان بشرائع الدين, والانقياد لها, وأَدُّوا العهود لبعضكم
على بعض من الأمانات, والبيوع وغيرها, مما لم يخالف كتاب الله, وسنة رسوله
محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أحَلَّ الله لكم البهيمة من الأنعام, وهي
الإبلُ والبقر والغنم, إلا ما بيَّنه لكم من تحريم الميتة والدم وغير ذلك,
ومن تحريم الصيد وأنتم محرمون. إن الله يحكم ما يشاء وَفْق حكمته وعدله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا
الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ
الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (2)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تتعدَّوا حدود الله
ومعالمه, ولا تستحِلُّوا القتال في الأشهر الحرم, وهي: ذو القعدة وذو
الحجة والمحرم ورجب, وكان ذلك في صدر الإسلام, ولا تستحِلُّوا حرمة
الهَدْي, ولا ما قُلِّدَ منه; إذ كانوا يضعون القلائد, وهي ضفائر من صوف
أو وَبَر في الرقاب علامةً على أن البهيمة هَدْيٌ وأن الرجل يريد الحج,
ولا تَسْتَحِلُّوا قتال قاصدي البيت الحرام الذين يبتغون من فضل الله ما
يصلح معايشهم ويرضي ربهم. وإذا حللتم من إحرامكم حلَّ لكم الصيد, ولا
يحمِلَنَّكم بُغْض قوم من أجل أن منعوكم من الوصول إلى المسجد الحرام -كما
حدث عام "الحديبية"- على ترك العدل فيهم. وتعاونوا -أيها المؤمنون فيما
بينكم- على فِعْل الخير, وتقوى الله, ولا تعاونوا على ما فيه إثم ومعصية
وتجاوز لحدود الله, واحذروا مخالفة أمر الله فإنه شديد العقاب.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا
ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ
دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
حرَّم الله عليكم الميتة, وهي الحيوان الذي تفارقه الحياة بدون ذكاة,
وحرَّم عليكم الدم السائل المُراق, ولحم الخنزير, وما ذُكِر عليه غير اسم
الله عند الذبح, والمنخنقة التي حُبِس نَفَسُها حتى ماتت, والموقوذة وهي
التي ضُربت بعصا أو حجر حتى ماتت, والمُتَرَدِّية وهي التي سقطت من مكان
عال أو هَوَت في بئر فماتت, والنطيحة وهي التي ضَرَبَتْها أخرى بقرنها
فماتت, وحرَّم الله عليكم البهيمة التي أكلها السبُع, كالأسد والنمر
والذئب, ونحو ذلك. واستثنى -سبحانه- مما حرَّمه من المنخنقة وما بعدها ما
أدركتم ذكاته قبل أن يموت فهو حلال لكم, وحرَّم الله عليكم ما ذُبِح لغير
الله على ما يُنصب للعبادة من حجر أو غيره, وحرَّم الله عليكم أن تطلبوا
عِلْم ما قُسِم لكم أو لم يقسم بالأزلام, وهي القداح التي كانوا يستقسمون
بها إذا أرادوا أمرًا قبل أن يقدموا عليه. ذلكم المذكور في الآية من
المحرمات -إذا ارتُكبت- خروج عن أمر الله وطاعته إلى معصيته. الآن انقطع
طمع الكفار من دينكم أن ترتدوا عنه إلى الشرك بعد أن نصَرْتُكم عليهم, فلا
تخافوهم وخافوني. اليوم أكملت لكم دينكم دين الإسلام بتحقيق النصر وإتمام
الشريعة, وأتممت عليكم نعمتي بإخراجكم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان,
ورضيت لكم الإسلام دينًا فالزموه, ولا تفارقوه. فمن اضطرَّ في مجاعة إلى
أكل الميتة, وكان غير مائل عمدًا لإثم, فله تناوله, فإن الله غفور له,
رحيم به.
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ
وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ
مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
يسألك أصحابك -أيها النبي- : ماذا أُحِلَّ لهم أَكْلُه؟ قل لهم: أُحِلَّ
لكم الطيبات وصيدُ ما دَرَّبتموه من ذوات المخالب والأنياب من الكلاب
والفهود والصقور ونحوها مما يُعَلَّم, تعلمونهن طلب الصيد لكم, مما علمكم
الله, فكلوا مما أمسكن لكم, واذكروا اسم الله عند إرسالها للصيد, وخافوا
الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه. إن الله سريع الحساب.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ
فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (5)
ومن تمام نعمة الله عليكم اليوم -أيها المؤمنون- أن أَحَلَّ لكم الحلال
الطيب, وذبائحُ اليهود والنصارى -إن ذكَّوها حَسَبَ شرعهم- حلال لكم
وذبائحكم حلال لهم. وأَحَلَّ لكم -أيها المؤمنون- نكاح المحصنات, وهُنَّ
الحرائر من النساء المؤمنات, العفيفات عن الزنى, وكذلك نكاحَ الحرائر
العفيفات من اليهود والنصارى إذا أعطيتموهُنَّ مهورهن, وكنتم أعِفَّاء غير
مرتكبين للزنى, ولا متخذي عشيقات, وأمِنتم من التأثر بدينهن. ومن يجحد
شرائع الإيمان فقد بطل عمله, وهو يوم القيامة من الخاسرين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة, وأنتم على غير طهارة
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم مع المرافق (والمِرْفَق: المِفْصَل الذي بين
الذراع والعَضُد) وامسحوا رؤوسكم, واغسلوا أرجلكم مع الكعبين (وهما:
العظمان البارزان عند ملتقى الساق بالقدم) . وإن أصابكم الحدث الأكبر
فتطهروا بالاعتسال منه قبل الصلاة. فإن كنتم مرضى, أو على سفر في حال
الصحة, أو قضى أحدكم حاجته, أو جامع زوجته فلم تجدوا ماء فاضربوا بأيديكم
وجه الأرض, وامسحوا وجوهكم وأيديكم منه. ما يريد الله في أمر الطهارة أن
يُضَيِّق عليكم, بل أباح التيمم توسعةً عليكم, ورحمة بكم, إذ جعله بديلا
للماء في الطهارة, فكانت رخصة التيمُّم من تمام النعم التي تقتضي شكر
المنعم; بطاعته فيما أمر وفيما نهى.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي
وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
واذكروا نعمة الله عليكم فيما شَرَعه لكم, واذكروا عهده الذي أخذه تعالى
عليكم من الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, والسمع والطاعة
لهما, واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه. إن الله عليمٌ بما
تُسِرُّونه في نفوسكم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ
بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (Cool
يا أيها الذين آمَنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كونوا
قوَّامين بالحق, ابتغاء وجه الله, شُهداء بالعدل, ولا يحملنكم بُغْضُ قوم
على ألا تعدلوا, اعدِلوا بين الأعداء والأحباب على درجة سواء, فذلك العدل
أقرب لخشية الله, واحذروا أن تجوروا. إن الله خبير بما تعملون, وسيجازيكم
به.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
وعد الله الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات أن يغفر لهم ذنوبهم, وأن يثيبهم على ذلك الجنة, والله لا يخلف وعده.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
والذين جحدوا وحدانية الله الدالة على الحق المبين, وكذَّبوا بأدلته التي جاءت بها الرسل, هم أهل النار الملازمون لها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (11)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه اذكروا ما أنعم الله به
عليكم من نعمة الأمنِ, وإلقاءِ الرعب في قلوب أعدائكم الذين أرادوا أن
يبطشوا بكم, فصرفهم الله عنكم, وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم, واتقوا
الله واحذروه, وتوكلوا على الله وحده في أموركم الدينية والدنيوية, وثِقوا
بعونه ونصره.
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا
مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ
أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأكَفِّرَنَّ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ
سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
ولقد أخذ الله العهد المؤكَّد على بني إسرائيل أن يخلصوا له العبادة وحده,
وأمر الله موسى أن يجعل عليهم اثني عشر عريفًا بعدد فروعهم, يأخذون عليهم
العهد بالسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه, وقال الله لبني إسرائيل: إني
معكم بحفظي ونصري, لئن أقمتم الصلاة, وأعطيتم الزكاة المفروضة مستحقيها,
وصدَّقتم برسلي فيما أخبروكم به ونصرتموهم, وأنفقتم في سبيلي, لأكفِّرنَّ
عنكم سيئاتكم, ولأدْخِلَنَّكُم جناتٍ تجري من تحت قصورها الأنهار, فمن جحد
هذا الميثاق منكم فقد عدل عن طريق الحق إلى طريق الضلال.
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً
مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ
إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
فبسبب نقض هؤلاء اليهود لعهودهم المؤكَّدة طردناهم من رحمتنا, وجعلنا
قلوبهم غليظة لا تلين للإيمان, يبدلون كلام الله الذي أنزله على موسى, وهو
التوراة, وتركوا نصيبًا مما ذُكِّروا به, فلم يعملوا به. ولا تزال -أيها
الرسول- تجد من اليهود خيانةً وغَدرًا, فهم على منهاج أسلافهم إلا قليلا
منهم, فاعف عن سوء معاملتهم لك, واصفح عنهم, فإن الله يحب مَن أحسن العفو
والصفح إلى من أساء إليه. (وهكذا يجد أهل الزيغ سبيلا إلى مقاصدهم السيئة
بتحريف كلام الله وتأويله على غير وجهه, فإن عجَزوا عن التحريف والتأويل
تركوا ما لا يتفق مع أهوائهم مِن شرع الله الذي لا يثبت عليه إلا القليل
ممن عصمه الله منهم).
وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ
يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
وأخذنا على الذين ادَّعوا أنهم أتباع المسيح عيسى -وليسوا كذلك- العهد
المؤكد الذي أخذناه على بني إسرائيل: بأن يُتابعوا رسولهم وينصروه
ويؤازروه, فبدَّلوا دينهم, وتركوا نصيبًا مما ذكروا به, فلم يعملوا به,
كما صنع اليهود, فألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة, وسوف
ينبئهم الله بما كانوا يصنعون يوم الحساب, وسيعاقبهم على صنيعهم.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ
كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى, قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه
وسلم يبيِّن لكم كثيرًا مما كنتم تُخْفونه عن الناس مما في التوراة
والإنجيل, ويترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة. قد جاءكم من الله نور وكتاب
مبين: وهو القرآن الكريم.
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ
وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
يهدي الله بهذا الكتاب المبين من اتبع رضا الله تعالى, طرق الأمن
والسلامة, ويخرجهم بإذنه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان, ويوفقهم إلى
دينه القويم.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ
يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
لقد كفر النصارى القائلون بأن الله هو المسيح ابن مريم, قل -أيها الرسول-
لهؤلاء الجهلة من النصارى: لو كان المسيح إلهًا كما يدَّعون لقَدرَ أن
يدفع قضاء الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أُمِّه ومَن في الأرض جميعًا, وقد
ماتت أم عيسى فلم يدفع عنها الموت, كذلك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه;
لأنهما عبدان من عباد الله لا يقدران على دفع الهلاك عنهما, فهذا دليلٌ
على أنه بشر كسائر بني آدم. وجميع الموجودات في السموات والأرض ملك لله,
يخلق ما يشاء ويوجده, وهو على كل شيء قدير. فحقيقة التوحيد توجب تفرُّد
الله تعالى بصفات الربوبية والألوهية, فلا يشاركه أحد من خلقه في ذلك,
وكثيرًا ما يقع الناس في الشرك والضلال بغلوهم في الأنبياء والصالحين, كما
غلا النصارى في المسيح, فالكون كله لله, والخلق بيده وحده, وما يظهر من
خوارق وآيات مَرَدُّه إلى الله. يخلق سبحانه ما يشاء, ويفعل ما يريد.
وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ
بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ (18)
وزعم اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه, قل لهم -أيها الرسول- :
فَلأيِّ شيء يعذِّبكم بذنوبكم؟ فلو كنتم أحبابه ما عذبكم, فالله لا يحب
إلا من أطاعه, وقل لهم: بل أنتم خلقٌ مثلُ سائر بني آدم, إن أحسنتُم
جوزيتم بإحسانكم خيرا, وإن أسَأْتُم جوزيتم بإساءتكم شرًّا, فالله يغفر
لمن يشاء, ويعذب من يشاء, وهو مالك الملك, يُصَرِّفه كما يشاء, وإليه
المرجع, فيحكم بين عباده, ويجازي كلا بما يستحق.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى
فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا
نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (19)
يا أيها اليهود والنصارى قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم,
يُبيِّن لكم الحق والهدى بعد مُدَّة من الزمن بين إرساله بإرسال عيسى ابن
مريم; لئلا تقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير, فلا عُذرَ لكم بعد إرساله
إلبكم, فقد جاءكم من الله رسولٌ يبشِّر مَن آمن به, ويُنذِز مَن عصاه.
والله على كل شيء قدير من عقاب العاصي وثواب المطيع.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ (20)
واذكر -أيها الرسول- إذ قال موسى عليه السلام لقومه: يا بني إسرائيل
اذكروا نعمة الله عليكم, إذ جعل فيكم أنبياء, وجعلكم ملوكًا تملكون أمركم
بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه, وقد منحكم من نعمه صنوفًا لم يمنحها
أحدًا من عالَمي زمانكم.
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ
لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(21)
يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة -أي المطهرة, وهي "بيت المقدس" وما حولها-
التي وعد الله أن تدخلوها وتقاتلوا مَن فيها من الكفار, ولا ترجعوا عن
قتال الجبارين, فتخسروا خير الدنيا وخير الآخرة.
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ
نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا
فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
قالوا: يا موسى, إن فيها قومًا أشداء أقوياء, لا طاقة لنا بحربهم, وإنَّا لن نستطيع دخولها وهم فيها, فإن يخرجوا منها فإنَّا داخلون.
قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا
ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ
غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قال رجلان من الذين يخشون الله تعالى, أنعم الله عليهما بطاعته وطاعة
نبيِّه, لبني إسرائيل: ادخلوا على هؤلاء الجبارين باب مدينتهم, أخْذًا
بالأسباب, فإذا دخلتم الباب غلبتموهم, وعلى الله وحده فتوكَّلوا, إن كنتم
مُصدِّقين رسوله فيما جاءكم به, عاملين بشرعه.
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
قال قوم موسى له: إنا لن ندخل المدينة أبدًا ما دام الجبارون فيها, فاذهب
أنت وربك فقاتلاهم, أما نحن فقاعدون هاهنا ولن نقاتلهم. وهذا إصرارٌ منهم
على مخالفة موسى عليه السلام.
قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
توجَّه موسى إلى ربه داعيًا: إني لا أقدر إلا على نفسي وأخي, فاحكم بيننا وبين القوم الفاسقين.
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ
فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قال الله لنبيه موسى عليه السلام: إن الأرض المقدَّسة محرَّم على هؤلاء
اليهود دخولها أربعين سنة, يتيهون في الأرض حائرين, فلا تأسف -يا موسى-
على القوم الخارجين عن طاعتي.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا
قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ
قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ
الْمُتَّقِينَ (27)
واقصص -أيها الرسول- على بني إسرائيل خَبَر ابنَيْ آدم قابيل وهابيل, وهو
خبرٌ حقٌ: حين قَدَّم كلٌّ منهما قربانًا -وهو ما يُتَقرَّب به إلى الله
تعالى - فتقبَّل الله قُربان هابيل; لأنه كان تقيًّا, ولم يتقبَّل قُربان
قابيل; لأنه لم يكن تقيًّا, فحسد قابيلُ أخاه, وقال: لأقتلنَّك, فَردَّ
هابيل: إنما يتقبل الله ممن يخشونه.
لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي
إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
وقال هابيلُ واعظًا أخاه: لَئنْ مَدَدْتَ إليَّ يدكَ لتقتُلني لا تَجِدُ مني مثل فعْلك, وإني أخشى الله ربَّ الخلائق أجمعين.
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
إني أريد أن ترجع حاملا إثم قَتْلي, وإثمك الذي عليك قبل ذلك, فتكون من أهل النار وملازميها, وذلك جزاء المعتدين.
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ (30)
فَزَيَّنت لقابيلَ نفسُه أن يقتل أخاه, فقتله, فأصبح من الخاسرين الذين باعوا آخرتهم بدنياهم.
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ
يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ
مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ
النَّادِمِينَ (31)
لما قتل قابيلُ أخاه لم يعرف ما يصنع بجسده, فأرسل الله غرابًا يحفر حفرةً
في الأرض ليدفن فيها غرابًا مَيِّتًا; ليدل قابيل كيف يدفن جُثمان أخيه؟
فتعجَّب قابيل, وقال: أعجزتُ أن أصنع مثل صنيع هذا الغراب فأستُرَ عورة
أخي؟ فدَفَنَ قابيل أخاه, فعاقبه الله بالندامة بعد أن رجع بالخسران.
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ
قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا
قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ
إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
بسبب جناية القتل هذه شَرَعْنا لبني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير سبب من
قصاص, أو فساد في الأرض بأي نوع من أنواع الفساد, الموجب للقتل كالشرك
والمحاربة فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله,
وأنه من امتنع عن قَتْل نفس حرَّمها الله فكأنما أحيا الناس جميعًا;
فالحفاظ على حرمة إنسان واحد حفاظ على حرمات الناس كلهم. ولقد أتت بني
إسرائيل رسلُنا بالحجج والدلائل على صحة ما دعَوهم إليه من الإيمان بربهم,
وأداء ما فُرِضَ عليهم, ثم إن كثيرًا منهم بعد مجيء الرسل إليهم لمتجاوزون
حدود الله بارتكاب محارم الله وترك أوامره.
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا
مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
إنما جزاء الذين يحاربون الله, ويبارزونه بالعداوة, ويعتدون على أحكامه,
وعلى أحكام رسوله, ويفسدون في الأرض بقتل الأنفس, وسلب الأموال, أن
يُقَتَّلوا, أو يُصَلَّبوا مع القتل (والصلب: أن يُشَدَّ الجاني على خشبة)
أو تُقْطَع يدُ المحارب اليمنى ورجله اليسرى, فإن لم يَتُبْ تُقطعْ يدُه
اليسرى ورجلُه اليمنى, أو يُنفَوا إلى بلد غير بلدهم, ويُحبسوا في سجن ذلك
البلد حتى تَظهر توبتُهم. وهذا الجزاء الذي أعدَّه الله للمحاربين هو ذلّ
في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب شديد إن لم يتوبوا.
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
لكن مَن أتى من المحاربين من قبل أن تقدروا عليهم وجاء طائعًا نادمًا فإنه
يسقط عنه ما كان لله, فاعلموا -أيها المؤمنون- أن الله غفور لعباده, رحيم
بهم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, خافوا الله, وتَقَرَّبوا
إليه بطاعته والعمل بما يرضيه, وجاهدوا في سبيله; كي تفوزوا بجناته.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً
وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
إن الذين جحدوا وحدانية الله, وشريعته, لو أنهم سلكوا جميع ما في الأرض,
وملكوا مثله معه, وأرادوا أن يفتدوا أنفسهم يوم القيامة من عذاب الله بما
ملكوا, ما تَقبَّل الله ذلك منهم, ولهم عذاب مُوجع.
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
يريد هؤلاء الكافرون الخروج من النار لما يلاقونه من أهوالها, ولا سبيل لهم إلى ذلك, ولهم عذاب دائم.
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
والسارق والسارقة فاقطعوا -يا ولاة الأمر- أيديهما بمقتضى الشرع, مجازاة
لهما على أَخْذهما أموال الناس بغير حق, وعقوبةً يمنع الله بها غيرهما أن
يصنع مثل صنيعهما. والله عزيز في ملكه, حكيم في أمره ونهيه.
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
فمن تاب مِن بعد سرقته, وأصلح في كل أعماله, فإن الله يقبل توبته. إن الله غفور لعباده, رحيم بهم.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
ألم تعلم -أيها الرسول- أن الله خالق الكون ومُدبِّره ومالكه, وأنه تعالى
الفعَّال لما يريد, يعذب من يشاء, ويغفر لمن يشاء, وهو على كل شيء قدير.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:03 pm

سورة المائدة
الآيات ( 80:41 )
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ
تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ
وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ
يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوتك من المنافقين الذين
أظهروا الإسلام وقلوبهم خالية منه, فإني ناصرك عليهم. ولا يحزنك تسرُّع
اليهود إلى إنكار نبوتك, فإنهم قوم يستمعون للكذب, ويقبلون ما يَفْتَريه
أحبارُهم, ويستجيبون لقوم آخرين لا يحضرون مجلسك, وهؤلاء الآخرون
يُبَدِّلون كلام الله من بعد ما عَقَلوه, ويقولون: إن جاءكم من محمد ما
يوافق الذي بدَّلناه وحرَّفناه من أحكام التوراة فاعملوا به, وإن جاءكم
منه ما يخالفه فاحذروا قبوله, والعمل به. ومن يشأ الله ضلالته فلن تستطيع
-أيها الرسول- دَفْعَ ذلك عنه, ولا تقدر على هدايته. وإنَّ هؤلاء
المنافقين واليهود لم يُرِدِ الله أن يطهِّر قلوبهم من دنس الكفر, لهم
الذلُّ والفضيحة في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب عظيم
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ
يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
هؤلاء اليهود يجمعون بين استماع الكذب وأكل الحرام, فإن جاؤوك يتحاكمون
إليك فاقض بينهم, أو اتركهم, فإن لم تحكم بينهم فلن يقدروا على أن يضروك
بشيء, وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل. إن الله يحب العادلين.
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ
ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
إنَّ صنيع هؤلاء اليهود عجيب, فهم يحتكمون إليك -أيها الرسول- وهم لا
يؤمنون بك, ولا بكتابك, مع أن التوراة التي يؤمنون بها عندهم, فيها حكم
الله, ثم يتولَّون مِن بعد حكمك إذا لم يُرضهم, فجمعوا بين الكفر بشرعهم,
والإعراض عن حكمك, وليس أولئك المتصفون بتلك الصفات, بالمؤمنين بالله وبك
وبما تحكم به.
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ
وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)
إنا أنزلنا التوراة فيها إرشاد من الضلالة, وبيان للأحكام, وقد حكم بها
النبيُّون -الذين انقادوا لحكم الله, وأقروا به- بين اليهود, ولم يخرجوا
عن حكمها ولم يُحَرِّفوها, وحكم بها عُبَّاد اليهود وفقهاؤهم الذين
يربُّون الناس بشرع الله; ذلك أن أنبياءهم قد استأمنوهم على تبليغ
التوراة, وفِقْه كتاب الله والعمل به, وكان الربانيون والأحبار شهداء على
أن أنبياءهم قد قضوا في اليهود بكتاب الله. ويقول تعالى لعلماء اليهود
وأحبارهم: فلا تخشوا الناس في تنفيذ حكمي; فإنهم لا يقدرون على نفعكم ولا
ضَرِّكم, ولكن اخشوني فإني أنا النافع الضار, ولا تأخذوا بترك الحكم بما
أنزلتُ عوضًا حقيرًا. الحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، فالذين
يبدلون حكم الله الذي أنزله في كتابه, فيكتمونه ويجحدونه ويحكمون بغيره
معتقدين حله وجوازه فأولئك هم الكافرون.
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ
لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ
الظَّالِمُونَ (45)
وفَرَضنا عليهم في التوراة أن النفس تُقْتَل بالنفس, والعين تُفْقَأ
بالعين, والأنف يُجْدَع بالأنف, والأذُن تُقْطع بالأذُن, والسنَّ تُقْلَعُ
بالسنِّ, وأنَّه يُقْتَصُّ في الجروح, فمن تجاوز عن حقه في الاقتصاص من
المُعتدي فذلك تكفير لبعض ذنوب المعتدى عليه وإزالةٌ لها. ومن لم يحكم بما
أنزل الله في القصاص وغيره, فأولئك هم المتجاوزون حدود الله.
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى
وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
وأتبعنا أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم مؤمنًا بما في التوراة, عاملا
بما فيها مما لم ينسخه كتابه, وأنزلنا إليه الإنجيل هاديا إلى الحق,
ومبيِّنًا لما جهله الناس مِن حكم الله, وشاهدًا على صدق التوراة بما
اشتمل عليه من أحكامها, وقد جعلناه بيانًا للذين يخافون الله وزاجرًا لهم
عن ارتكاب المحرَّمات.
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47)
وليحكم أهل الإنجيل الذين أُرسِل إليهم عيسى بما أنزل الله فيه. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الخارجون عن أمره, العاصون له.
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ
الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا
آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
وأنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن, وكل ما فيه حقّ يشهد على صدق الكتب
قبله, وأنها من عند الله, مصدقًا لما فيها من صحة، ومبيِّنًا لما فيها من
تحريف، ناسخًا لبعض شرائعها, فاحكم بين المحتكمين إليك من اليهود بما أنزل
الله إليك في هذا القرآن, ولا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى
أهوائهم وما اعتادوه, فقد جعلنا لكل أمة شريعة, وطريقة واضحة يعملون بها.
ولو شاء الله لجعل شرائعكم واحدة, ولكنه تعالى خالف بينها ليختبركم, فيظهر
المطيع من العاصي, فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين بالعمل بما في
القرآن, فإن مصيركم إلى الله, فيخبركم بما كنتم فيه تختلفون, ويجزي كلا
بعمله.
وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ
اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ
لَفَاسِقُونَ (49)
واحكم -أيها الرسول- بين اليهود بما أنزل الله إليك في القرآن, ولا تتبع
أهواء الذين يحتكمون إليك, واحذرهم أن يصدُّوك عن بعض ما أنزل الله إليك
فتترك العمل به, فإن أعرض هؤلاء عمَّا تحكم به فاعلم أن الله يريد أن
يصرفهم عن الهدى بسبب ذنوبٍ اكتسبوها من قبل. وإن كثيرًا من الناس
لَخارجون عن طاعة ربهم.
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
أيريد هؤلاء اليهود أن تحكم بينهم بما تعارف عليه المشركون عبدةُ الأوثان
من الضلالات والجهالات؟! لا يكون ذلك ولا يليق أبدًا ومَن أعدل مِن الله
في حكمه لمن عقل عن الله شَرْعه, وآمن به, وأيقن أن حكم الله هو الحق؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى حلفاءَ وأنصارًا على أهل
الإيمان; ذلك أنهم لا يُوادُّون المؤمنين, فاليهود يوالي بعضهم بعضًا,
وكذلك النصارى, وكلا الفريقين يجتمع على عداوتكم. وأنتم -أيها المؤمنون-
أجدرُ بأن ينصر بعضُكم بعضًا. ومن يتولهم منكم فإنه يصير من جملتهم, وحكمه
حكمهم. إن الله لا يوفق الظالمين الذين يتولون الكافرين.
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ
نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا
فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
يخبر الله تعالى عن جماعة من المنافقين أنهم كانوا يبادرون في موادة
اليهود لما في قلوبهم من الشكِّ والنفاق, ويقولون: إنما نوادُّهم خشية أن
يظفروا بالمسلمين فيصيبونا معهم, قال الله تعالى ذكره: فعسى الله أن يأتي
بالفتح -أي فتح "مكة"- وينصر نَبِيَّه, ويُظْهِر الإسلام والمسلمين على
الكفار, أو يُهيِّئ من الأمور ما تذهب به قوةُ اليهود والنَّصارى, فيخضعوا
للمسلمين, فحينئذٍ يندم المنافقون على ما أضمروا في أنفسهم من موالاتهم.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
وحينئذ يقول بعض المؤمنين لبعض مُتعجِّبين من حال المنافقين -إذا كُشِف
أمرهم-: أهؤلاء الذين أقسموا بأغلظ الأيمان إنهم لَمَعَنا؟! بطلت أعمال
المنافقين التي عملوها في الدنيا, فلا ثواب لهم عليها; لأنهم عملوها على
غير إيمان, فخسروا الدنيا والآخرة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه من يرجع منكم عن دينه,
ويستبدل به اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك, فلن يضرُّوا الله شيئًا,
وسوف يأتي الله بقوم خير منهم يُحِبُّهم ويحبونه, رحماء بالمؤمنين أشدَّاء
على الكافرين, يجاهدون أعداء الله, ولا يخافون في ذات الله أحدًا. ذلك
الإنعام مِن فضل الله يؤتيه من أراد, والله واسع الفضل, عليم بمن يستحقه
من عباده.
إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
إنما ناصركم -أيُّها المؤمنون- الله ورسوله, والمؤمنون الذين يحافظون على
الصلاة المفروضة, ويؤدون الزكاة عن رضا نفس, وهم خاضعون لله.
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ (56)
ومن وثق بالله وتولَّى الله ورسوله والمؤمنين, فهو من حزب الله, وحزب الله هم الغالبون المنتصرون.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ
مُؤْمِنِينَ (57)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تتخذوا الذين
يستهزئون ويتلاعبون بدينكم من أهل الكتاب والكفارَ أولياءَ, وخافوا الله
إن كنتم مؤمنين به وبشرعه.
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
وإذا أذَّن مؤذنكم -أيها المؤمنون- بالصلاة سخر اليهود والنصارى والمشركون
واستهزؤوا من دعوتكم إليها؛ وذلك بسبب جهلهم بربهم، وأنهم لا يعقلون حقيقة
العبادة.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ
أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المستهزئين من أهل الكاب: ما تَجِدُونه مطعنًا أو
عيبًا هو محمدة لنا: من إيماننا بالله وكتبه المنزلة علينا, وعلى من كان
قبلنا, وإيماننا بأن أكثركم خارجون عن الطريق المستقيم!
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً
وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
قل -أيها النبي- للمؤمنين: هل أخبركم بمن يُجازَى يوم القيامة جزاءً أشدَّ
مِن جزاء هؤلاء الفاسقين؟ إنهم أسلافهم الذين طردهم الله من رحمته وغَضِب
عليهم, ومَسَخَ خَلْقهم, فجعل منهم القردة والخنازير, بعصيانهم وافترائهم
وتكبرهم, كما كان منهم عُبَّاد الطاغوت (وهو كل ما عُبِد من دون الله وهو
راضٍ), لقد ساء مكانهم في الآخرة, وضلَّ سَعْيُهم في الدنيا عن الطريق
الصحيح.
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ
قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
وإذا جاءكم -أيها المؤمنون- منافقو اليهود, قالوا: آمنَّا, وهم مقيمون على
كفرهم, قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم, ثم خرجوا وهم
مصرُّون عليه, والله أعلم بسرائرهم, وإن أظهروا خلاف ذلك.
وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
وترى -أيها الرسول- كثيرًا من اليهود يبادرون إلى المعاصي من قول الكذب
والزور, والاعتداء على أحكام الله, وأكْل أموال الناس بالباطل, لقد ساء
عملهم واعتداؤهم.
لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ
الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان أئمتُهم وعلماؤهم, عن قول
الكذب والزور, وأكل أموال الناس بالباطل, لقد ساء صنيعهم حين تركوا النهي
عن المنكر.
وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ
وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ
يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً
لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
يُطلع الله نَبِيَّه على شيء من مآثم اليهود -وكان مما يُسرُّونه فيما
بينهم- أنهم قالوا: يد الله محبوسة عن فعل الخيرات, بَخِلَ علينا بالرزق
والتوسعة, وذلك حين لحقهم جَدْب وقحط. غُلَّتْ أيديهم, أي: حبست أيديهم هم
عن فِعْلِ الخيرات, وطردهم الله من رحمته بسبب قولهم. وليس الأمر كما
يفترونه على ربهم, بل يداه مبسوطتان لا حَجْرَ عليه, ولا مانع يمنعه من
الإنفاق, فإنه الجواد الكريم, ينفق على مقتضى الحكمة وما فيه مصلحة
العباد. وفي الآية إثبات لصفة اليدين لله سبحانه وتعالى كما يليق به من
غير تشبيه ولا تكييف. لكنهم سوف يزدادون طغيانًا وكفرًا بسبب حقدهم
وحسدهم; لأن الله قد اصطفاك بالرسالة. ويخبر تعالى أن طوائف اليهود سيظلون
إلى يوم القيامة يعادي بعضهم بعضًا, وينفر بعضهم من بعض, كلما تآمروا على
الكيد للمسلمين بإثارة الفتن وإشعال نار الحرب ردَّ الله كيدهم, وفرَّق
شملهم, ولا يزال اليهود يعملون بمعاصي الله مما ينشأ عنها الفساد
والاضطراب في الأرض. والله تعالى لا يحب المفسدين.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
ولو أن اليهود والنصارى صدَّقوا الله ورسوله, وامتثلوا أوامر الله
واجتنبوا نواهيه, لكفَّرنا عنهم ذنوبهم, ولأدخلناهم جنات النعيم في الدار
الآخرة.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا
يَعْمَلُونَ (66)
ولو أنَّهم عملوا بما في التوراة والإنجيل, وبما أُنْزِل عليك أيها الرسول
- وهو القرآن الكريم - لرُزِقوا من كلِّ سبيلٍ, فأنزلنا عليهم المطر,
وأنبتنا لهم الثمر, وهذا جزاء الدنيا. وإنَّ مِن أهل الكتاب فريقًا معتدلا
ثابتًا على الحق, وكثير منهم ساء عملُه, وضل عن سواء السبيل.
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
يا أيها الرسول بلِّغ وحي الله الذي أنزِل إليك من ربك, وإن قصَّرت في
البلاغ فَكَتَمْتَ منه شيئًا, فإنك لم تُبَلِّغ رسالة ربِّك, وقد بلَّغ
صلى الله عليه وسلم رسالة ربه كاملة, فمن زعم أنه كتم شيئًا مما أنزِل
عليه, فقد أعظم على الله ورسوله الفرية. والله تعالى حافظك وناصرك على
أعدائك, فليس عليك إلا البلاغ. إن الله لا يوفق للرشد مَن حاد عن سبيل
الحق, وجحد ما جئت به من عند الله.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
قل -أيها الرسول- لليهود والنصارى: إنكم لستم على حظٍّ من الدين ما دمتم
لم تعملوا بما في التوراة والإنجيل, وما جاءكم به محمد من القرآن, وإن
كثيرًا من أهل الكتاب لا يزيدهم إنزالُ القرآن إليك إلا تجبُّرًا وجحودًا,
فهم يحسدونك; لأن الله بعثك بهذه الرسالة الخاتمة, التي بَيَّن فيها
معايبهم, فلا تحزن -أيها الرسول- على تكذيبهم لك.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ
وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
إن الذين آمنوا (وهم المسلمون) واليهود, والصابئين (وهم قوم باقون على
فطرتهم, ولا دين مقرر لهم يتبعونه) والنصارى (وهم أتباع المسيح) من آمن
منهم بالله الإيمان الكامل, وهو توحيد الله والتصديق بمحمد صلى الله عليه
وسلم وبما جاء به, وآمن باليوم الآخر, وعمل العمل الصالح, فلا خوف عليهم
من أهوال يوم القيامة, ولا هم يحزنون على ما تركوه وراءهم في الدنيا.
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ
رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ
فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)
لقد أخذنا العهد المؤكَّد على بني إسرائيل في التوراة بالسمع والطاعة,
وأرسلنا إليهم بذلك رسلنا, فَنَقَضوا ما أُخذ عليهم من العهد, واتبعوا
أهواءهم, وكانوا كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تشتهيه أنفسهم
عادَوْه: فكذبوا فريقًا من الرسل, وقتلوا فريقًا آخر.
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
وظنَّ هؤلاء العُصاة أن الله لن يأخذهم بالعذاب جزاء عصيانهم وعُتُوِّهم,
فمضوا في شهواتهم, وعمُوا عن الهدى فلم يبصروه, وصَمُّوا عن سماع الحقِّ
فلم ينتفعوا به, فأنزل الله بهم بأسه, فتابوا فتاب الله عليهم, ثم عَمِي
كثيرٌ منهم, وصمُّوا, بعدما تبين لهم الحقُّ, والله بصير بأعمالهم خيرها
وشرها وسيجازيهم عليها.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ
رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ
مِنْ أَنصَارٍ (72)
يقسم الله تعالى بأن الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم, قد كفروا
بمقالتهم هذه, وأخبر تعالى أن المسيح قال لبني إسرائيل: اعبدوا الله وحده
لا شريك له, فأنا وأنتم في العبودية سواء. إنه من يعبد مع الله غيره فقد
حرَّم الله عليه الجنة, وجعل النار مُستَقَرَّه, وليس له ناصرٌ يُنقذُه
منها.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا
مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا
يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
لقد كفر من النصارى من قال: إنَّ الله مجموع ثلاثة أشياء: هي الأب,
والابن, وروح القدس. أما عَلِمَ هؤلاء النصارى أنه ليس للناس سوى معبود
واحد, لم يلد ولم يولد, وإن لم ينته أصحاب هذه المقالة عن افترائهم وكذبهم
ليُصِيبَنَّهم عذاب مؤلم موجع بسبب كفرهم بالله.
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
أفلا يرجع هؤلاء النصارى إلى الله تعالى, ويتولون عمَّا قالوا, ويسألون
الله تعالى المغفرة؟ والله تعالى متجاوز عن ذنوب التائبين, رحيمٌ بهم
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَانظُرْ
كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
ما المسيح ابن مريم عليه السلام إلا رسولٌ كمن تقدمه من الرسل, وأُمُّه قد
صَدَّقت تصديقًا جازمًا علمًا وعملا وهما كغيرهما من البشر يحتاجان إلى
الطعام, ولا يكون إلهًا مَن يحتاج الى الطعام ليعيش. فتأمَّل -أيها
الرسول- حال هؤلاء الكفار. لقد وضحنا العلاماتِ الدالةَ على وحدانيتنا,
وبُطلان ما يَدَّعونه في أنبياء الله. ثم هم مع ذلك يَضِلُّون عن الحق
الذي نَهديهم إليه, ثم انظر كيف يُصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء الكفرة: كيف تشركون مع الله من لا يَقْدِرُ على
ضَرِّكم, ولا على جَلْبِ نفع لكم؟ والله هو السميع لأقوال عباده, العليم
بأحوالهم.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ
وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا
كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
قل -أيها الرسول- للنصارى: لا تتجاوزوا الحقَّ فيما تعتقدونه من أمر
المسيح, ولا تتبعوا أهواءكم, كما اتَّبع اليهود أهواءهم في أمر الدين,
فوقعوا في الضلال, وحملوا كثيرًا من الناس على الكفر بالله, وخرجوا عن
طريق الاستقامة الى طريق الغَواية والضلال.
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ
دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ (78)
يخبر تعالى أنه طرد من رحمته الكافرين من بني إسرائيل في الكتاب الذي
أنزله على داود -عليه السلام- وهو الزَّبور, وفي الكتاب الذي أنزله على
عيسى - عليه السلام - وهو الإنجيل; بسبب عصيانهم واعتدائهم على حرمات الله.
كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
كان هؤلاء اليهود يُجاهرون بالمعاصي ويرضونها, ولا يَنْهى بعضُهم بعضًا عن
أيِّ منكر فعلوه, وهذا من أفعالهم السيئة, وبه استحقوا أن يُطْرَدُوا من
رحمة الله تعالى.
تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي
الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
تَرَى -أيها الرسول- كثيرًا من هؤلاء اليهود يتخذون المشركين أولياء لهم,
ساء ما عملوه من الموالاة الني كانت سببًا في غضب الله عليهم, وخلودهم في
عذاب الله يوم القيامة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:03 pm

سورة المائدة الآيات (120:81 )
بسم الله الرحمن الرحيم

وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ
إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ
فَاسِقُونَ (81)



ولو أن هؤلاء اليهود الذين يناصرون المشركين كانوا قد آمنوا بالله تعالى
والنبي محمد صلى الله عليه وسلم, وأقرُّوا بما أنزل إليه -وهو القرآن
الكريم- ما اتخذوا الكفار أصحابًا وأنصارًا, ولكن كثيرًا منهم خارجون عن
طاعة الله ورسوله.



لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82)



لتجدنَّ -أيها الرسول- أشدَّ الناس عداوة للذين صدَّقوك وآمنوا بك
واتبعوك, اليهودَ; لعنادهم, وجحودهم, وغمطهم الحق, والذين أشركوا مع الله
غيره, كعبدة الأوثان وغيرهم, ولتجدنَّ أقربهم مودة للمسلمين الذين قالوا:
إنا نصارى, ذلك بأن منهم علماء بدينهم متزهدين وعبَّادًا في الصوامع
متنسكين, وأنهم متواضعون لا يستكبرون عن قَبول الحق, وهؤلاء هم الذين
قبلوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم, وآمنوا بها.



وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ
تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ
رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)



ومما يدل على قرب مودتهم للمسلمين أن فريقًا منهم (وهم وفد الحبشة لما
سمعوا القرآن) فاضت أعينهم من الدمع فأيقنوا أنه حقٌّ منزل من عند الله
تعالى, وصدَّقوا بالله واتبعوا رسوله, وتضرعوا إلى الله أن يكرمهم بشرف
الشهادة مع أمَّة محمد عليه السلام على الأمم يوم القيامة.



وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ
وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)



وقالوا: وأيُّ لوم علينا في إيماننا بالله, وتصديقنا بالحق الذي جاءنا به
محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله, واتباعنا له, ونرجو أن يدخلنا ربنا
مع أهل طاعته في جنته يوم القيامة؟



فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)



فجزاهم الله بما قالوا من الاعتزاز بإيمانهم بالإسلام, وطلبهم أن يكونوا
مع القوم الصالحين, جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار, ماكثين فيها لا
يخرجون منها, ولا يُحوَّلون عنها, وذلك جزاء إحسانهم في القول والعمل.



وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)



والذين جحدوا وحدانية الله وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم,
وكذَّبوا بآياته المنزلة على رسله, أولئك هم أصحاب النار الملازمون لها.



يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
(87)



يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات أحلَّها الله لكم من المطاعم
والمشارب ونكاح النساء, فتضيقوا ما وسَّع الله عليكم, ولا تتجاوزوا حدود
ما حرَّم الله. إن الله لا يحب المعتدين.



وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)



وتمتعوا -أيها المؤمنون- بالحلال الطيب مما أعطاكم الله ومنحكم إياه,
واتقوا الله بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه; فإن إيمانكم بالله يوجب
عليكم تقواه ومراقبته.



لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ
كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)



لا يعاقبكم الله -أيها المسلمون- فيما لا تقصدون عَقْدَه من الأيمان, مثل
قول بعضكم: لا والله, وبلى والله, ولكن يعاقبكم فيما قصدتم عقده بقلوبكم,
فإذا لم تَفُوا باليمين فإثم ذلك يمحوه الله بما تقدِّمونه مما شرعه الله
لكم كفارة من إطعام عشرة مساكين, لكل سكين نصف صاع من أوسط طعام أهل
البلد, أو كسوتهم, لكل مسكين ما يكفي في الكسوة عُرفًا, أو إعتاق مملوك من
الرق, فالحالف الذي لم يف بيمينه مخير بين هنا الأمور الثلاثة, فمن لم يجد
شيئًا من ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام. تلك مكفرات عدم الوفاء بأيمانكم,
واحفظوا -أيها المسلمون- أيمانكم: باجتناب الحلف, أو الوفاء إن حلفتم, أو
الكفارة إذا لم تفوا بها. وكما بيَّن الله لكم حكم الأيمان والتحلل منها
يُبيِّن لكم أحكام دينه; لتشكروا له على هدايته إياكم إلى الطريق المستقيم.



يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)



يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، إنما الخمر: وهي كل مسكر
يغطي العقل, والميسر: وهو القمار, وذلك يشمل المراهنات ونحوها, مما فيه
عوض من الجانبين, وصدٌّ عن ذكر الله, والأنصاب: وهي الحجارة التي كان
المشركون يذبحون عندها تعظيمًا لها, وما ينصب للعبادة تقربًا إليه,
والأزلام: وهي القِداح التي يستقسم بها الكفار قبل الإقدام على الشيء, أو
الإحجام عنه, إن ذلك كله إثمٌ مِن تزيين الشيطان, فابتعدوا عن هذه الآثام,
لعلكم تفوزون بالجنة.



إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91)



إنما يريد الشيطان بتزيين الآثام لكم أن يُلقِي بينكم ما يوجد العداوة
والبغضاء, بسبب شرب الخمر ولعب الميسر, ويصرفكم عن ذكر الله وعن الصلاة
بغياب العقل في شرب الخمر, والاشتغال باللهو في لعب الميسر, فانتهوا عن
ذلك.



وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ (92)



وامتثلوا -أيها المسلمون- طاعة الله وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم
في كل ما تفعلون وتتركون, واتقوا الله وراقبوه في ذلك, فإن أعرضتم عن
الامتثال فعملتم ما نهيتم عنه, فاعلموا أنما على رسولنا محمد صلى الله
عليه وسلم البلاغ المبين.



لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ
اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (93)



ليس على المؤمنين الذين شربوا الخمر قبل تحريمها إثم في ذلك, إذا تركوها
واتقوا سخط الله وآمنوا به, وقدَّموا الأعمال الصالحة التي تدل على
إيمانهم ورغبتهم في رضوان الله تعالى عنهم, ثم ازدادوا بذلك مراقبة لله عز
وجل وإيمانا به, حتى أصبحوا مِن يقينهم يعبدونه, وكأنهم يرونه. وإن الله
تعالى يحب الذين بلغوا درجة الإحسان حتى أصبح إيمانهم بالغيب كالمشاهدة.



يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ
الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ
يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (94)



يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, ليبلونكم الله بشيء من
الصيد يقترب منكم على غير المعتاد حيث تستطيعون أَخْذَ صغاره بغير سلاح
وأخذ كباره بالسلاح; ليعلم الله علمًا ظاهرًا للخلق الذين يخافون ربهم
بالغيب, ليقينهم بكمال علمه بهم, وذلك بإمساكهم عن الصيد, وهم محرمون. فمن
تجاوز حَدَّه بعد هذا البيان فأقدم على الصيد -وهو مُحْرِم- فإنه يستحق
العذاب الشديد.



يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا
قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً
بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ
ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ
وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
(95)



يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تقتلوا صيد البر,
وأنتم محرمون بحج أو عمرة, أو كنتم داخل الحرم ومَن قتل أيَّ نوعٍ من صيد
البرِّ متعمدًا فجزاء ذلك أن يذبح مثل ذلك الصيد من بهيمة الأنعام: الإبل
أو البقر أو الغنم, بعد أن يُقَدِّره اثنان عدلان, وأن يهديه لفقراء
الحرم, أو أن يشتري بقيمة مثله طعامًا يهديه لفقراء الحرم لكل مسكين نصف
صاع, أو يصوم بدلا من ذلك يوما عن كل نصف صاع من ذلك الطعام, فَرَضَ الله
عليه هذا الجزاء; ليلقى بإيجاب الجزاء المذكور عاقبة فِعْله. والذين وقعوا
في شيء من ذلك قبل التحريم فإن الله تعالى قد عفا عنهم, ومَن عاد إلى
المخالفة متعمدًا بعد التحريم, فإنه مُعَرَّض لانتقام الله منه. والله
تعالى عزيز قويٌّ منيع في سلطانه, ومِن عزته أنه ينتقم ممن عصاه إذا أراد,
لا يمنعه من ذلك مانع.



أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ
وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ
حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)



أحل الله لكم -أيها المسلمون- في حال إحرامكم صيد البحر, وهو ما يصاد منه
حيًّا, وطعامه: وهو الميت منه; من أجل انتفاعكم به مقيمين أو مسافرين,
وحرم عليكم صيد البَرِّ ما دمتم محرمين بحج أو عمرة. واخشوا الله ونفذوا
جميع أوامِره, واجتنبوا جميع نواهيه; حتى تظفَروا بعظيم ثوابه, وتَسْلموا
من أليم عقابه عندما تحشرون للحساب والجزاء.



جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ
وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)



امتنَّ الله على عباده بأن جعل الكعبة البيت الحرام صلاحًا لدينهم, وأمنًا
لحياتهم; وذلك حيث آمنوا بالله ورسوله وأقاموا فرائضه, وحرَّم العدوان
والقتال في الأشهر الحرم (وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) فلا
يعتدي فيها أحد على أحد, وحرَّم تعالى الاعتداء على ما يُهدَى إلى الحرم
من بهيمة الأنعام, وحرَّم كذلك الاعتداء على القلائد, وهي ما قُلِّد
إشعارًا بأنه بقصد به النسك; ذلك لتعلموا أن الله يعلم جميع ما في السموات
وما في الأرض, ومن ذلك ما شرعه لحماية خلقه بعضهم من بعض, وأن الله بكل
شيء عليم, فلا تخفى عليه خافية.



اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)



اعلموا -أيها الناس- أن الله جل وعلا شديد العقاب لمن عصاه, وأن الله غفور رحيم لمن تاب وأناب.



مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)



يبيِّن الله تعالى أن مهمة رسوله صلى الله عليه وسلم هداية الدلالة
والتبليغ, وبيد الله -وحده- هداية التوفيق, وأن ما تنطوي عليه نفوس الناس
مما يُسرون أو يعلنون من الهداية أو الضلال يعلمه الله.



قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ
الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (100)



قل -أيها الرسول-: لا يستوي الخبيث والطيب من كل شيء, فالكافر لا يساوي
المؤمن, والعاصي لا يساوي المطيع, والجاهل لا يساوي العالم, والمبتدع لا
يساوي المتبع, والمال الحرام لا يساوي الحلال, ولو أعجبك -أيها الإنسان-
كثرة الخبيث وعدد أهله. فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة باجتناب
الخبائث, وفعل الطيبات; لتفلحوا بنيل المقصود الأعظم, وهو رضا الله تعالى
والفوز بالجنة.



يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ
تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)



يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تسألوا عن أشياء من
أمور الدين لم تؤمروا فيها بشيء, كالسؤال عن الأمور غير الواقعة, أو التي
يترتب عليها تشديدات في الشرع, ولو كُلِّفتموها لشقَّتْ عليكم, وإن تسألوا
عنها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين نزول القرآن عليه تُبيَّن
لكم, وقد تُكلَّفونها فتعجزون عنها, تركها الله معافيًا لعباده منها.
والله غفور لعباده إذا تابوا, حليم عليهم فلا يعاقبهم وقد أنابوا إليه.



قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)



إن مثل تلك الأسئلة قد سألها قومٌ مِن قبلكم رسلَهم, فلما أُمِروا بها جحدوها, ولم ينفذوها, فاحذروا أن تكونوا مثلهم.



مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا
حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)



ما شرع الله للمشركين ما ابتدعوه في بهيمة الأنعام مِن تَرْك الانتفاع
ببعضها وجعلها للأصنام, وهي: البَحيرة التي تُقطع أذنها إذا ولدت عددًا من
البطون, والسائبة وهي التي تُترك للأصنام, والوصيلة وهي التي تتصل ولادتها
بأنثى بعد أنثى, والحامي وهو الذكر من الإبل إذا وُلد من صلبه عدد من
الإبل, ولكن الكفار نسبوا ذلك إلى الله تعالى افتراء عليه, وأكثر الكافرين
لا يميزون الحق من الباطل.



وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)



وإذا قيل لهؤلاء الكفار المحرِّمين ما أحل الله: تعالوا إلى تنزيل الله
وإلى رسوله ليتبين لكم الحلال والحرام, قالوا: يكفينا ما ورثناه عن آبائنا
من قول وعمل, أيقولون ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا أي: لا يفهمون
حقًّا ولا يعرفونه, ولا يهتدون إليه؟ فكيف يتبعونهم, والحالة هذه؟ فإنه لا
يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلا.



يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ
مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)



يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه ألزموا أنفسكم بالعمل
بطاعة الله واجتناب معصيته, وداوموا على ذلك وإن لم يستجب الناس لكم, فإذا
فعلتم ذلك فلا يضركم ضلال مَن ضلَّ إذا لزمتم طريق الاستقامة, وأمرتم
بالمعروف ونهيتم عن المنكر, إلى الله مرجعكم جميعًا في الآخرة, فيخبركم
بأعمالكم, ويجازيكم عليها.



يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ
أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ
فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ
الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ
ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا
إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ (106)



يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إذا قرب الموت من أحدكم,
فلْيُشْهِد على وصيته اثنين أمينين من المسلمين أو آخرين من غير المسلمين
عند الحاجة, وعدم وجود غيرهما من المسلمين, تُشهدونهما إن أنتم سافرتم في
الأرض فحلَّ بكم الموت, وإن ارتبتم في شهادتهما فقفوهما من بعد الصلاة -أي
صلاة المسلمين, وبخاصة صلاة العصر-، فيقسمان بالله قسمًا خالصًا لا يأخذان
به عوضًا من الدنيا, ولا يحابيان به ذا قرابة منهما, ولا يكتمان به شهادة
لله عندهما, وأنهما إن فَعَلا ذلك فهما من المذنبين.



فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ
يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ
الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ
شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ
(107)



فإن اطلع أولياء الميت على أن الشاهدين المذكورين قد أثما بالخيانة في
الشهادة أو الوصية فليقم مقامهما في الشهادة اثنان من أولياء الميت
فيقسمان بالله: لَشهادتنا الصادقة أولى بالقبول من شهادتهما الكاذبة, وما
تجاوزنا الحق في شهادتنا, إنا إن اعتدينا وشهدنا بغير الحق لمن الظالمين
المتجاوزين حدود الله.



ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ
يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)



ذلك الحكم عند الارتياب في الشاهدين من الحلف بعد الصلاة وعدم قبول
شهادتهما, أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها خوفًا من عذاب الآخرة,
أو خشية من أن ترد اليمين الكاذبة من قِبَل أصحاب الحق بعد حلفهم, فيفتضح
الكاذب الذي ردت يمينه في الدنيا وقت ظهور خيانته. وخافوا الله -أيها
الناس- وراقبوه أن تحلفوا كذبًا, وأن تقتطعوا بأيمانكم مالا حرامًا,
واسمعوا ما توعظون به. والله لا يهدي القوم الفاسقين الخارجين عن طاعته.



يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)



واذكروا -أيها الناس- يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل عليهم السلام,
فيسألهم عن جواب أممهم لهم حينما دعوهم إلى التوحيد فيجيبون: لا علم لنا,
فنحن لا نعلم ما في صدور الناس, ولا ما أحدثوا بعدنا. إنك أنت عليم بكل
شيء مما ظهر وخفي.



إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ
وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ
الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ
جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ
هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)



إذ قال الله يرم القيامة: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك إذ خلقتك من
غير أب, وعلى والدتك حيث اصطفيتها على نساء العالمين, وبرأتها مما نُسِب
إليها, ومن هذه النعم على عيسى أنه قوَّاه وأعانه بجبريل عليه السلام,
يكلم الناس وهو رضيع, ويدعوهم إلى الله وهو كبير بما أوحاه الله إليه من
التوحيد, ومنها أن الله تعالى علَّمه الكتابة والخط بدون معلم, ووهبه قوة
الفهم والإدراك, وعَلَّمه التوراة التي أنزلها على موسى عليه السلام,
والإنجيل الذي أنزل عليه هداية للناس, ومن هذه النعم أنه يصوِّر من الطين
كهيئة الطير فينفخ في تلك الهيئة, فتكون طيرًا بإذن الله, ومنها أنه يشفي
الذي وُلِد أعمى فيبصر, ويشفي الأبرص, فيعود جلده سليمًا بإذن الله, ومنها
أنه يدعو الله أن يحييَ الموتى فيقومون من قبورهم أحياء, وذلك كله بإرادة
الله تعالى وإذنه, وهي معجزات باهرة تؤيد نبوة عيسى عليه السلام, ثم
يذكِّره الله جل وعلا نعمته عليه إذ منع بني إسرائيل حين همُّوا بقتله,
وقد جاءهم بالمعجزات الواضحة الدالة على نبوته, فقال الذين كفروا منهم:
إنَّ ما جاء به عيسى من البينات سحر ظاهر.



وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)



واذكر نعمتي عليك, إذ ألهمتُ, وألقيتُ في قلوب جماعة من خلصائك أن يصدقوا
بوحدانية الله تعالى ونبوتك, فقالوا: صدَّقنا يا ربنا, واشهد بأننا خاضعون
لك منقادون لأمرك.



إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ
رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ
اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)



واذكر إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك إن سألته أن ينزل
علينا مائدة طعام من السماء؟ فكان جوابه أن أمرهم بأن يتقوا عذاب الله
تعالى, إن كانوا مؤمنين حقَّ الإيمان.



قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا
وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ
(113)



قال الحواريون: نريد أن نأكل من المائدة وتسكن قلوبنا لرؤيتها, ونعلم
يقينا صدقك في نبوتك, وأن نكون من الشاهدين على هذه الآية أن الله أنزلها
حجة له علينا في توحيده وقدرته على ما يشاء, وحجة لك على صدقك في نبوتك



قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا
مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا
وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114)



أجاب عيسى ابن مريم طلب الحواريين فدعا ربه جل وعلا قائلا ربنا أنزل علينا
مائدة طعام من السماء, نتخذ يوم نزولها عيدًا لنا, نعظمه نحن ومَن بعدنا,
وتكون المائدة علامة وحجة منك يا ألله على وحدانيتك وعلى صدق نبوتي,
وامنحنا من عطائك الجزيل, وأنت خير الرازقين.



قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ
مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ
الْعَالَمِينَ (115)



قال الله تعالى: إني منزل مائدة الطعام عليكم, فمن يجحد منكم وحدانيتي
ونبوة عيسى عليه السلام بعد نزول المائدة فإني أعذبه عذابًا شديدًا, لا
أعذبه أحدًا من العالمين. وقد نزلت المائدة كما وعد الله.



وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ
مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ
فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)



واذكر إذ قال الله تعالى يوم القيامة: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس
اجعلوني وأمي معبودين من دون الله؟ فأجاب عيسى -منزِّهًا الله تعالى-: ما
ينبغي لي أن أقول للناس غير الحق. إن كنتُ قلتُ هذا فقد علمتَه; لأنه لا
يخفى عليك شيء, تعلم ما تضمره نفسي, ولا أعلم أنا ما في نفسك. إنك أنت
عالمٌ بكل شيء مما ظهر أو خفي.



مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ
رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)



قال عيسى عليه السلام: يا ربِّ ما قلتُ لهم إلا ما أوحيته إليَّ, وأمرتني
بتبليغه من إفرادك بالتوحيد والعبادة, وكنتُ على ما يفعلونه -وأنا بين
أظهرهم- شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم, فلما وفيتني أجلي على الأرض,
ورفعتني إلى السماء حيًّا, كنت أنت المطَّلِع على سرائرهم, وأنت على كل
شيء شهيد, لا تخفى عليك خافية في الأرض ولا في السماء.



إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)



إنك يا ألله إن تعذبهم فإنهم عبادك -وأنت أعلم بأحوالهم-، تفعل بهم ما
تشاء بعدلك, وإن تغفر برحمتك لمن أتى منهم بأسباب المغفرة, فإنك أنت
العزيز الذي لا يغالَبُ, الحكيم في تدبيره وأمره. وهذه الآية ثناء على
الله -تعالى- بحكمته وعدله, وكمال علمه.



قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(119)



قال الله تعالى لعيسى عليه السلام يوم القيامة: هذا يوم الجزاء الذي ينفع
الموحدين توحيدهم ربهم, وانقيادهم لشرعه, وصدقهم في نياتهم وأقوالهم
وأعمالهم, لهم جنات تجري من تحت قصورها الأنهار, ماكثين فيها أبدًا, رضي
الله عنهم فقبل حسناتهم, ورضوا عنه بما أعطاهم من جزيل ثوابه. ذلك الجزاء
والرضا منه عليهم هو الفوز العظيم.



لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)



لله وحده لا شريك له ملك السموات والأرض وما فيهن, وهو -سبحانه- على كل شيء قدير لا يعجزه شيء
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:03 pm

سورة الأنعام الآيات (50:1 )
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ (1)
الثناء على الله بصفاته التي كلّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة،
الدينية والدنيوية، الذي أنشأ السموات والأرض وما فيهن, وخلق الظلمات
والنور, وذلك بتعاقب الليل والنهار. وفي هذا دلالة على عظمة الله تعالى,
واستحقاقه وحده العبادة, فلا يجوز لأحد أن يشرك به غيره. ومع هذا الوضوح
فإن الكافرين يسوون بالله غيره, ويشركون به.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
هو الذي خلق أباكم آدم من طين وأنتم سلالة منه, ثم كتب مدة بقائكم في هذه
الحياة الدنيا, وكتب أجلا آخر محدَّدًا لا يعلمه إلا هو جل وعلا وهو يوم
القيامة, ثم أنتم بعد هذا تشكُّون في قدرة الله تعالى على البعث بعد الموت.
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
والله سبحانه هو الإله المعبود في السموات والأرض. ومن دلائل ألوهيته أنه
يعلم جميع ما تخفونه -أيها الناس- وما تعلنونه, ويعلم جميع أعمالكم من خير
أو شر; ولهذا فإنه -جلَّ وعلا- وحده هو الإله المستحق للعبادة.
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
هؤلاء الكفار الذين يشركون مع الله تعالى غيره قد جاءتهم الحجج الواضحة
والدلالات البينة على وحدانية الله -جل وعلا- وصِدْقِ محمد صلى الله عليه
وسلم في نبوته, وما جاء به, ولكن ما إن جاءتهم حتى أعرضوا عن قبولها, ولم
يؤمنوا بها.
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (5)
لقد جحد هؤلاء الكفار الحقَّ الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم روا
من دعائه; جهلا منهم بالله واغترارًا بإمهاله إياهم, فسوف يرون ما
استهزءوا به أنه الحق والصدق, ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم,
ويجازيهم عليه.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا
السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ
قَرْناً آخَرِينَ (6)
ألم يعلم هؤلاء الذين يجحدون وحدانية الله تعالى واستحقاقه وحده العبادة,
ويكذبون رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ما حلَّ بالأمم المكذبة قبلهم من
هلاك وتدمير, وقد مكنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم أيها الكافرون,
وأنعمنا عليهم بإنزال الأمطار وجريان الأنهار من تحت مساكنهم؛ استدراجًا
وإملاءً لهم, فكفروا بنعم الله وكذبوا الرسل, فأهلكناهم بسبب ذنونهم,
وأنشأنا من بعدهم أممًا أخرى خلفوهم في عمارة الأرض؟
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ
مُبِينٌ (7)
ولو نزَّلنا عليك -أيها الرسول- كتابًا من السماء في أوراق فلمسه هؤلاء
المشركون بأيديهم لقالوا: إنَّ ما جئت به -أيها الرسول- سحر واضح بيِّن.
وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ (Cool
وقال هؤلاء المشركون: هلا أنزل الله تعالى على محمد مَلَكًا من السماء;
ليصدقه فيما جاء به من النبوة, ولوأنزلنا مَلَكًّا من السماء إجابة لطلبهم
لقضي الأمر بإهلاكهم, ثم لا يمهلون لتوبة, فقد سبق في علم الله أنهم لا
يؤمنون.
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
ولو جعلنا الرسول المرسل إليهم مَلَكًا إذ لم يقتنعوا بمحمد صلى الله عليه
وسلم, لجعلنا ذلك الملك في صورة البشر, حتى يستطيعوا السماع منه ومخاطبته;
إذ ليس بإمكانهم رؤية الملك على صورته الملائكية, ولو جاءهم الملك بصورة
رجل لاشتبه الأمر عليهم, كما اشتبه عليهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (10)
ولمَّا كان طلبهم إنزال الملك على سبيل الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه
وسلم بيَّن الله تعالى له أن الاستهزاء بالرسل عليهم السلام ليس أمرا
حادثا, بل قد وقع من الكفار السابقين مع أنبيائهم, فأحاط بهم العذاب الذي
كانوا يهزؤون به وينكرون وقوعه.
قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
قل لهم -أيها الرسول- : سيروا في الأرض ثم انظروا كيف أعقب الله المكذبين
الهلاك والخزي؟ فاحذروا مثل مصارعهم, وخافوا أن يحلَّ بكم مثل الذي حل بهم.
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا
رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: لمن مُلكُ السموات والأرض وما فيهن؟
قل: هو لله كما تقرون بذلك وتعلمونه, فاعبدوه وحده. كتب الله على نفسه
الرحمة فلا بعجل على عباده بالعقوبة. ليجمعنكم إلى يوم القيامة الذي لا شك
فيه للحساب والجزاء. الذين أشركوا بالله أهلكوا أنفسهم, فهم لا يوحدون
الله, ولا يصدقون بوعده ووعيده, ولا يقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
ولله ملك كل شيء في السموات والأرض, سكن أو تحرك, خفي أو ظهر, الجميع
عبيده وخلقه, وتحت قهره وتصرفه وتدبيره, وهو السميع لأقوال عباده, الحليم
بحركاتهم وسرائرهم.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (14)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين مع الله تعالى غيره: أغير الله تعالى
أتخذ وليًّا ونصيرًا, وهو خالق السموات والأرض وما فيهن, وهو الذي يرزق
خلقه ولا يرزقه أحد؟ قل -أيها الرسول- : إني أُمِرْتُ أن أكون أول مَن خضع
وانقاد له بالعبودية من هذه الأمة, ونهيت أن أكون من المشركين معه غيره.
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين مع الله غيره: إني أخاف إن عصيت ربي,
فخالفت أمره, وأشركت معه غيره في عبادته, أن ينزل بي عذاب عظيم يوم
القيامة.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
من يصرف الله عنه ذلك العذاب الشديد فقد رحمه, وذلك الصرف هو الظفر البين بالنجاة من العذاب العظيم.
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ
يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وإن يصبك الله تعالى -أيها الإنسان- بشيء يضرك كالفقر والمرض فلا كاشف له
إلا هو, وإن يصبك بخير كالغنى والصحة فلا راد لفضله ولا مانع لقضائه, فهو
-جل وعلا- القادر على كل شيء.
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
والله سبحانه هو الغالب القاهر فوق عباده; خضعت له الرقاب وذَلَّتْ له
الجبابرة, وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها وَفْق حكمت, الخبير الذي
لا يخفى عليه شيء. ومن اتصف بهذه الصفات يجب ألا يشرك به. وفي هذه الآية
إثبات الفوقية لله -تعالى- على جميع خلقه, فوقية مطلقة تليق بجلاله سبحانه.
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً
أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
قل -أيها الرسول لهؤلاء المشركين-: أيُّ شيء أعظم شهادة في إثبات صدقي
فيما أخبرتكم به أني رسول الله؟ قل: الله شهيد بيني وبينكم أي: هو العالم
بما جئتكم به وما أنتم قائلونه لي, وأوحى الله إليَّ هذا القرآن مِن أجل
أن أنذركم به عذابه أن يحلَّ بكم, وأنذر به مَن وصل إليه من الأمم. إنكم
لتقرون أن مع الله معبودات أخرى تشركونها به. قل لهم -أيها الرسول-: إني
لا أشهد على ما أقررتم به, إنما الله إله واحد لا شريك له, وإنني بريء من
كل شريك تعبدونه معه.
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
الذين آتيناهم التوراة والإنجيل, يعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم بصفاته
المكتوبة عندهم كمعرفتهم أبناءهم, فكما أن أبناءهم لا يشتبهون أمامهم
بغيرهم, فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم لا يشتبه بغيره لدقة وصفه في
كتبهم, ولكنهم اتبعوا أهواءهم, فخسروا أنفسهم حبن كفروا بمحمد صلى الله
عليه وسلم وبما جاء به.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
لا أحد أشد ظلمًا ممَّن تَقَوَّلَ الكذب على الله تعالى, فزعم أن له شركاء
في العبادة, أو ادَّعى أن له ولدًا أو صاحبة, أو كذب ببراهينه وأدلته التي
أيَّد بها رسله عليهم السلام. إنه لا يفلح الظالمون الذين افتروا الكذب
على الله, ولا يظفرون بمطالبهم في الدنيا ولا في الآخرة.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
وليحذر هؤلاء المشركون المكذبون بآيات الله تعالى يوم نحشرهم ثم نقول لهم:
أين آلهتكم التي كنتم تدَّعون أنهم شركاء مع الله تعالى ليشفعوا لكم؟
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
ثم لم تكن إجابتهم حين فتنوا واختبروا بالسؤال عن شركائهم إلا أن تبرؤوا
منهم, وأقسموا بالله ربهم أنهم لم يكونوا مشركين مع الله غيره.
انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
تأمل -أيها الرسول- كيف كذب هؤلاء المشركون على أنفسهم وهم في الآخرة قد
تبرؤوا من الشرك؟ وذهب وغاب عنهم ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا
كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ
يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ
(25)
ومن هؤلاء المشركين من يستمع إليك القرآن -أيها الرسول-، فلا يصل إلى
قلوبهم; لأنهم بسبب اتباعهم أهواءهم جعلنا على قلوبهم أغطية; لئلا يفقهوا
القرآن, وجعلنا في آذانهم ثقلا وصممًا فلا تسمع ولا تعي شيئًا, وإن يروا
الآيات الكثيرة الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم لا يصدقوا بها,
حتى إذا جاؤوك -أيها الرسول- بعد معاينة الآيات الدالة على صدقك يخاصمونك:
يقول الذين جحدوا آيات الله: ما هذا الذي نسمع إلا ما تناقله الأولون من
حكايات لا حقيقة لها.
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
وهؤلاء المشركون ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والاستماع
إليه, ويبتعدون بأنفسهم عنه, وما يهلكون -بصدهم عن سبيل الله- إلا أنفسهم,
وما يحسون أنهم يعملون لهلاكها.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا
نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
(27)
ولو ترى -أيها الرسول- هؤلاء المشركين يوم القيامة لرأيت أمرًا عظيمًا,
وذلك حين يُحْبَسون على النار, ويشاهدون ما فيها من السلاسل والأغلال,
ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال, فعند ذلك قالوا: ياليتنا نُعاد
إلى الحياة الدنيا, فنصدق بآيات الله ونعمل بها, ونكون من المؤمنين.
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
ليس الأمر كذلك, بل ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من
صدق ما جاءت به الرسل في الدنيا, وإن كانوا يظهرون لأتباعه خلافه. ولو فرض
أن أعيدوا إلى الدنيا فأمهلوا لرجعوا إلى العناد بالكفر والتكذيب. وإنهم
لكاذبون في قولهم: لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا, وكنا من
المؤمنين.
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
وقال هؤلاء المشركون المنكرون للبعث: ما الحياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها, وما نحن بمبعوثين بعد موتنا.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا
بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا
كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
ولو ترى -أيها الرسول- منكري البعث إذ حُبسوا بين يدي الله تعالى لقضائه
فيهم يوم القيامة, لرأيت أسوأ حال, إذ يقول الله جل وعلا أليس هذا بالحق,
أي: أليس هذا البعث الذي كنتم تنكرونه في الدنيا حقًّا؟ قالوا: بلى وربنا
إنه لحق, قال الله تعالى: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون أي: العذاب الذي
كنتم تكذبون به في الدنيا بسبب جحودكم بالله تعالى ورسوله محمد صلى الله
عليه وسلم.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا
جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا
فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ
أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
قد خسر الكفار الذين أنكروا البعث بعد الموت, حتى إذا قامت القيامة,
وفوجئوا بسوء المصير, نادَوا على أنفسهم بالحسرة على ما ضيَّعوه في حياتهم
الدنيا, وهم يحملون آثامهم على ظهورهم, فما أسوأ الأحمال الثقيلة السيئة
التي يحملونها!!
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
وما الحياة الدنيا في غالب أحوالها إلا غرور وباطل, والعمل الصالح للدار
الآخرة خير للذين يخشون الله, فيتقون عذابه بطاعته واجتناب معاصيه. أفلا
تعقلون -أيها المشركون المغترون بزينة الحياة الدنيا- فتقدِّموا ما يبقى
على ما يفنى؟
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
إنا نعلم إنه ليُدْخل الحزنَ إلى قلبك تكذيبُ قومك لك في الظاهر, فاصبر
واطمئن; فإنهم لا يكذبونك في قرارة أنفسهم, بل يعتقدون صدقك, ولكنهم
لظلمهم وعدوانهم يجحدون البراهين الواضحة على صدقك, فيكذبونك فيما جئت به.
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا
وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ
وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
ولقد كذَّب الكفارُ رسلا من قبلك أرسلهم الله تعالى إلى أممهم وأوذوا في
سبيله, فصبروا على ذلك ومضوا في دعوتهم وجهادهم حتى أتاهم نصر الله. ولا
مبدل لكلمات الله, وهي ما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مِن وعده
إياه بالنصر على مَن عاداه. ولقد جاءك -أيها الرسول- مِن خبر مَن كان قبلك
من الرسل, وما تحقق لهم من نصر الله, وما جرى على مكذبيهم من نقمة الله
منهم وغضبه عليهم, فلك فيمن تقدم من الرسل أسوة وقدوة. وفي هذا تسلية
للرسول صلى الله عليه وسلم.
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ
تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ
فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى
فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ (35)
وإن كان عَظُمَ عليك -أيها الرسول- صدود هؤلاء المشركين وانصرافهم عن
الاستجابة لدعوتك, فإن استطعت أن تتخذ نفقًا في الأرض, أو مصعدًا تصعد فيه
إلى السماء, فتأتيهم بعلامة وبرهان على صحة قولك غير الذي جئناهم به
فافعل. ولو شاء الله لَجَمعهم على الهدى الذي أنتم عليه ووفَّقهم للإيمان,
ولكن لم يشأ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه, فلا تكونن -أيها الرسول- من
الجاهلين الذين اشتد حزنهم, وتحسَّروا حتى أوصلهم ذلك إلى الجزع الشديد
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
إنما يجيبك -أيها الرسول- إلى ما دعوت إليه من الهدى الذين يسمعون الكلام
سماع قبول. أما الكفار فهم في عداد الموتى; لأن الحياة الحقيقية إنما تكون
بالإسلام. والموتى يخرجهم الله من قبورهم أحياء, ثم يعودون إليه يوم
القيامة ليوفوا حسابهم وجزاءهم.
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ
قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ (37)
وقال المشركون -تعنتًا واستكبارًا-: هلا أنزل الله علامة تدل على صدق محمد
صلى الله عليه وسلم من نوع العلامات الخارقة, قل لهم -أيها الرسول-: إن
الله قادر على أن ينزل عليهم آية, ولكن أكثرهم لا يعلمون أن إنزال الآيات
إنما يكون وَفْق حكمته تعالى.
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ
إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ
ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
ليس في الأرض حيوان يَدِبُّ على الأرض أو طائر يطير في السماء بجناحيه إلا
جماعات متجانسة الخلق مثلكم. ما تركنا في اللوح المحفوظ شيئًا إلا
أثبتناه, ثم إنهم إلى ربهم يحشرون يوم القيامة, فيحاسب الله كلا بما عمل.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ
يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (39)
والذين كذبوا بحجج الله تعالى صمٌّ لا يسمعون ما ينفعهم, بُكْمٌ لا
يتكلمون بالحق, فهم حائرون في الظلمات, لم يختاروا طريقة الاستقامة. من
يشأ الله إضلاله يضلله, ومن يشأ هدايته يجعله على صراط مستقيم.
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ
السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (40)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أخبروني إن جاءكم عذاب الله في الدنيا
أو جاءتكم الساعة التي تبعثون فيها: أغير الله تدعون هناك لكشف ما نزل بكم
من البلاء, إن كتم محقين في زعمكم أن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله
تنفع أو تضر؟
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
بل تدعون -هناك- ربكم الذي خلقكم لا غيره, وتستغيثون به, فيفرج عنكم
البلاء العظيم النازل بكم إن شاء; لأنه القادر على كل شيء, وتتركون حينئذ
أصنامكم وأوثانكم وأولياءكم.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
ولقد بعثنا -أيها الرسول- إلى جماعات من الناس من قبلك رسلا يدعونهم إلى
الله تعالى, فكذَّبوهم, فابتليناهم في أموالهم بشدة الفقر وضيق المعيشة,
وابتليناهم في أجسامهم بالأمراض والآلام; رجاء أن يتذللوا لربهم, ويخضعوا
له وحده بالعبادة.
فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
فهلا إذ جاء هذه الأمم المكذبة بلاؤنا تذللوا لنا, ولكن قست قلوبهم,
وزيَّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون من المعاصي, ويأتون من الشرك.
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ
شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً
فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فلما تركوا العمل بأوامر الله تعالى معرضين عنها, فتحنا عليهم أبواب كل
شيء من الرزق فأبدلناهم بالبأساء رخاءً في العيش, وبالضراء صحة في
الأجسام; استدراجا منا لهم, حتى إذا بطروا, وأعجبوا بما أعطيناهم من الخير
والنعمة أخذناهم بالعذاب فجأة, فإذا هم آيسون منقطعون من كل خير.
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
فاستؤصل هؤلاء القوم وأُهلكوا إذ كفروا بالله وكذَّبوا رسله, فلم يبق منهم
أحد. والشكر والثناء لله تعالى -خالق كل شيء ومالكه- على نصرة أوليائه
وهلاك أعدائه.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ
وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ
انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أخبروني إن أذهب الله سمعكم فأصمَّكم,
وذهب بأبصاركم فأعماكم, وطبع على قلوبكم فأصبحتم لا تفقهون قولا أيُّ إله
غير الله جل وعلا يقدر على ردِّ ذلك لكم؟! انظر -أيها الرسول- كيف ننوِّع
لهم الحجج, ثم هم بعد ذلك يعرضون عن التذكر والاعتبار؟
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أخبروني إن نزل بكم عقاب اللة فجأة
وأنتم لا تشعرون به, أو ظاهرًا عِيانًا وأنتم تنظرون إليه: هل يُهلك إلا
القوم الظالمون الذين تجاوزوا الحد, بصرفهم العبادة لغير الله تعالى
وبتكذيبهم رسله؟
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ
آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
وما نرسل رسلنا إلا مبشرين أهل طاعتنا بالنعيم المقيم, ومنذرين أهل
المعصية بالعذاب الأليم, فمن آمن وصدَّق الرسل وعمل صالحًا فأولئك لا
يخافون عند لقاء ربهم, ولا يحزنون على شيء فاتهم من حظوظ الدنيا.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
والذين كذَّبوا بآياتنا من القرآن والمعجزات فأولئك يصيبهم العذاب يوم القيامة, بسبب كفرهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى.
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى
إِلَيَّقُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ
(50)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إني لا أدَّعي أني أملك خزائن السموات
والأرض, فأتصرف فيها, ولا أدَّعي أني أعلم الغيب, ولا أدَّعي أني ملك,
وإنما أنا رسول من عند الله, أتبع ما يوحى إليَّ, وأبلِّغ وحيه إلى الناس,
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: هل يستوي الكافر الذي عَمِي عن آيات
الله تعالى فلم يؤمن بها والمؤمن الذي أبصر آيات الله فآمن بها؟ أفلا
تتفكرون في آيات الله; لتبصروا الحق فتؤمنوا به؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:04 pm

سورة الأنعام الآيات (100:51 )
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ
لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
(51)
وخوِّف -أيها النبي- بالقرآن الذين يعلمون أنهم يُحشرون إلى ربهم, فهم
مصدِّقون بوعد الله ووعيده, ليس لهم غير الله وليّ ينصرهم, ولا شفيع يشفع
لهم عنده تعالى, فيخلصهم من عذابه; لعلهم يتقون الله تعالى بفعل الأوامر
واجتناب النواهي.
وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا
مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ
الظَّالِمِينَ (52)
ولا تُبْعد -أيها النبي- عن مجالستك ضعفاء المسلمين الذين يعبدون ربهم أول
النهار وآخره, يريدون بأعمالهم الصالحة وجه الله, ما عليك من حساب هؤلاء
الفقراء من شيء, إنما حسابهم على الله, وليس عليهم شيء من حسابك, فإن
أبعدتهم فإنك تكون من المتجاوزين حدود الله, الذين يضعون الشيء في غير
موضعه.
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ (53)
وكذالك ابتلى الله تعالى بعض عباده ببعض بتباين حظوظهم من الأرزاق
والأخلاق, فجعل بعضهم غنيًّا وبعضهم فقيرًا, وبعضهم قويًّا وبعضهم ضعيفًا,
فأحوج بعضهم إلى بعض اختبارًا منه لهم بذلك; ليقول الكافرون الأغنياء:
أهؤلاء الضعفاء مَنَّ الله عليهم بالهداية إلى الإسلام مِن بيننا؟ أليس
الله تعالى بأعلم بمن يشكرون نعمته, فيوفقهم إلى الهداية لدينه؟
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ
عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ
فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
وإذا جاءك -أيها النبي- الذين صَدَّقوا بآيات الله الشاهدة على صدقك من
القرآن وغيره مستفتين عن التوبة من ذنوبهم السابقة, فأكرِمْهم بردِّ
السلام عليهم, وبَشِّرهم برحمة الله الواسعة; فإنه جلَّ وعلا قد كتب على
نفسه الرحمة بعباده تفضلا أنه من اقترف ذنبًا بجهالة منه لعاقبتها
وإيجابها لسخط الله -فكل عاص لله مخطئًا أو متعمدًا فهو جاهل بهذا
الاعتبار وإن كان عالمًا بالتحريم- ثم تاب من بعده وداوم على العمل
الصالح, فإنه تعالى يغفر ذنبه, فهو غفور لعباده التائبين, رحيم بهم.
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
ومثل هذا البيان الذي بيَّنَّاه لك -أيها الرسول- نبيِّن الحجج الواضحة
على كل حق ينكره أهل الباطل; ليتبين الحق, وليظهر طريق أهل الباطل
المخالفين للرسل.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا
مِنْ الْمُهْتَدِينَ (56)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إن الله عز وجل نهاني أن أعبد الأوثان
التي تعبدونها من دونه, وقل لهم: لا أتبع أهواءكم قد ضللت عن الصراط
المستقيم إن اتبعت أهواءَكم, وما أنا من المهتدين.
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي
مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ
وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
قل -أيها الرسول لهؤلاء المشركين-: إني على بصيرة واضحة من شريعة الله
التي أوحاها إليَّ, وذلك بإفراده وحده بالعبادة, وقد كذَّبتم بهذا, وليس
في قدرتي إنزال العذاب الذي تستعجلون به, وما الحكم في تأخر ذلك إلا إلى
الله تعالى, يقصُّ الحقَّ, وهو خير مَن يفصل بين الحق والباطل بقضائه
وحكمه.
قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
قل -أيها الرسول- : لو أنني أملك إنزال العذاب الذي تستحجلونه لأنزلته
بكم, وقضي الأمر بيني وبينكم, ولكن ذلك إلى الله تعالى, وهو أعلم
بالظالمين الذين تجاوزوا حدَّهم فأشركوا معه غيره.
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ
مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ
يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا
يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
وعند الله -جل وعلا- مفاتح الغيب أي: خزائن الغيب, لا يعلمها إلا هو,
ومنها: علم الساعة, ونزول الغيث, وما في الأرحام, والكسب في المستقبل,
ومكان موت الإنسان, ويعلم كل ما في البر والبحر, وما تسقط من ورقة من نبتة
إلا يعلمها, فكل حبة في خفايا الأرض, وكل رطب ويابس, مثبت في كتاب واضح لا
لَبْس فيه, وهو اللوح المحفوظ.
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ
بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
وهو سبحانه الذي يقبض أرواحكم بالليل بما يشبه قبضها عند الموت, ويعلم ما
اكتسبتم في النهار من الأعمال, ثم يعيد أرواحكم إلى أجسامكم باليقظة من
النوم نهارًا بما يشبه الأحياء بعد الموت; لتُقضى آجالكم المحددة في
الدنيا, ثم إلى الله تعالى معادكم بعد بعثكم من قبوركم أحياءً, ثم يخبركم
بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا, ثم يجازيكم بذلك.
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا
يُفَرِّطُونَ (61)
والله تعالى هو القاهر فوق عباده, فوقية مطلقة من كل وجه, تليق بجلاله
سبحانه وتعالى. كل شيء خاضع لجلاله وعظمته, ويرسل على عباده ملائكة,
يحفظون أعمالهم ويُحْصونها, حتى إذا نزل الموت بأحدهم قبض روحَه مَلكُ
الموت وأعوانه, وهم لا يضيعون ما أُمروا به.
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
ثم أعيد هؤلاء المتوفون إلى الله تعالى مولاهم الحق. ألا له القضاء والفصل يوم القيامة بين عباده وهو أسرع الحاسبين.
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ
الشَّاكِرِينَ (63)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: من ينقذكم من مخاوف ظلمات البر والبحر؟
أليس هو اللع تعالى الذي تدعونه في الشدائد متذللين جهرًا وسرًّا؟ تقولون:
لئن أنجانا ربنا من هذه المخاوف لنكونن من الشاكرين بعبادته عز وجل وحده
لا شريك له.
قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
قل لهم -أيها الرسول- : الله وحده هو الذي ينقذكم من هذه المخاوف ومن كل شدة, ثم أنتم بعد ذلك تشركون معه في العبادة غيره.
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ
فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
قل -أيها الرسول- : الله عز وجل هو القادر وحده على أن يرسل عليكم عذابًا
مِن فوقكم كالرَّجْم أو الطوفان, وما أشبه ذلك, أو من تحت أرجلكم كالزلازل
والخسف, أو يخلط أمركم عليكم فتكونوا فرقًا متناحرة يقتل بعضكم بعضًا.
انظر -أيها الرسول- كيف نُنوِّع حججنا الواضحات لهؤلاء المشركين لعلهم
يفهمون فيعتبروا؟
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
وكذَّب بهذا القرآن الكفارُ مِن قومك أيها الرسول, وهو الكتاب الصادق في
كل ما جاء به. قل لهم: لست عليكم بحفيظ ولا رقيب, وإنما أنا رسول الله
أبلغكم ما أرسلت إليكم.
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
لكل خبر قرار يستقر عنده, ونهاية ينتهي إليها, فيتبيَّن الحق من الباطل,
وسوف تعلمون -أيها الكفار- عاقبة أمركم عند حلول عذاب الله بكم.
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ
الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (68)
وإذا رأيت -أيها الرسول- المشركين الذين يتكلمون في آيات القرآن بالباطل
والاستهزاء, فابتعد عنهم حتى يأخذوا في حديث آخر, وإن أنساك الشيطان هذا
الأمر فلا تقعد بعد تذكرك مع القوم المعتدين, الذين تكلموا في آيات الله
بالباطل
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
وما على المؤمنين الذين يخافون الله تعالى, فيطيعون أوامره, ويجتنبون
نواهيه من حساب الله للخائضين المستهزئين بآيات الله من شيء, ولكن عليهم
أن يعظوهم ليمسكوا عن ذلك الكلام الباطل, لعلهم يتقون الله تعالى.
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا
كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ
تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
واترك -أيها الرسول- هؤلاء المشركين الذين جعلوا دين الإسلام لعبًا
ولهوًا; مستهزئين بآيات الله تعالى, وغرَّتهم الحياة الدنيا بزينتها,
وذكّر بالقرآن هؤلاء المشركين وغيرهم; كي لا ترتهن نفس بذنوبها وكفرها
بربها, ليس لها غير الله ناصر ينصرها, فينقذها من عذاب, ولا شافع يشفع لها
عنده, وإن تَفْتَدِ بأي فداء لا يُقْبَل منها. أولئك الذين ارتُهِنوا
بذنوبهم, لهم في النار شراب شديد الحرارة وعذاب موجع; بسبب كفرهم بالله
تعالى ورسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم وبدين الإسلام.
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا
وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ
الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أنعبد من دون الله تعالى أوثانًا لا
تنفع ولا تضر؟ ونرجع إلى الكفر بعد هداية الله تعالى لنا إلى الإسلام,
فنشبه -في رجوعنا إلى الكفر- مَن فسد عقله باستهواء الشياطين له, فَضَلَّ
في الأرض, وله رفقة عقلاء مؤمنون يدعونه إلى الطريق الصحيح الذي هم عليه
فيأبى. قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إنَّ هدى الله الذي بعثني به هو
الهدى الحق, وأُمِرنا جميعًا لنسلم لله تعالى رب العالمين بعبادته وحده لا
شريك له, فهو رب كل شيء ومالكه.
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
وكذلك أُمرنا بأن نقيم الصلاة كاملة, وأن نخشاه بفعل أوامره واجتناب
نواهيه. وهو -جل وعلا- الذي إليه تُحْشَرُ جميع الخلائق يوم القيامة.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ
يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ
يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ (73)
والله سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض بالحق, واذكر -أيها الرسول- يوم
القيامة إذ يقول الله: "كن", فيكون عن أمره كلمح البصر أو هو أقرب, قوله
هو الحق الكامل, وله الملك سبحانه وحده, يوم ينفخ المَلَك في "القرن"
النفخة الثانية التي تكون بها عودة الأرواح إلى الأجسام. وهو سبحانه الذي
يعلم ما غاب عن حواسكم -أيها الناس - وما تشاهدونه, وهو الحكيم الذي يضع
الأمور في مواضعها, الخبير بأمور خلقه. والله تعالى هو الذي يختص بهذه
الأمور وغيرها بدءًا ونهاية, نشأة ومصيرًا, وهو وحده الذي يجب على العباد
الانقياد لشرعه, والتسليم لحكمه, والتطلع لرضوانه ومغفرته
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74)
واذكر -أيها الرسول- مُحاجَّة إبراهيم عليه السلام لأبيه آزر, إذ قال له:
أتجعل من الأصنام آلهة تعبدها من دون الله تعالى؟ إني أراك وقومك في ضلال
بيِّن عن طريق الحق.
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ (75)
وكما هدينا إبراهيم عليه السلام إلى الحق في أمر العبادة نُريه ما تحتوي
عليه السموات والأرض من ملك عظيم, وقدرة باهرة, ليكون من الراسخين في
الإيمان.
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76)
فلما أظلم على إبراهيم عليه السلام الليل وغطَّاه ناظر قومه; ليثبت لهم أن
دينهم باطل, وكانوا يعبدون النجوم. رأى إبراهيم عليه السلام كوكبًا, فقال
-مستدرجا قومه لإلزامهم بالتوحيد-: هذا ربي, فلما غاب الكوكب, قال: لا أحب
الآلهة التي تغيب.
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ
قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ
الضَّالِّينَ (77)
فلما رأى إبراهيم القمر طالعًا قال لقومه -على سبيل استدراج الخصم-: هذا
ربي, فلما غاب, قال -مفتقرا إلى هداية ربه-: لئن لم يوفقني ربي إلى الصواب
في توحيده, لأكونن من القوم الضالين عن سواء السبيل بعبادة غير الله تعالى.
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
(78)
فلما رأى الشمس طالعة قال لقومه: هذا ربي, هذا أكبر من الكوكب والقمر,
فلما غابت, قال لقومه: إني بريء مما تشركون من عبادة الأوثان والنجوم
والأصنام التي تعبدونها من دون الله تعالى.
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (79)
إني توجَّهت بوجهي في العبادة لله عز وجل وحده, فهو الذي خلق السموات
والأرض, مائلا عن الشرك إلى التوحيد, وما أنا من المشركين مع الله غيره.
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي
وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً
وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)
وجادله قومه في توحيد الله تعالى قال: أتجادلونني في توحيدي لله بالعبادة,
وقد وفقني إلى معرفة وحدانيته, فإن كنتم تخوفونني بآلهتكم أن توقع بي
ضررًا فإنني لا أرهبها فلن تضرني, إلا أن يشاء ربي شيئًا. وسع ربي كل شيء
علمًا. أفلا تتذكرون فتعلموا أنه وحده المعبود المستحق للعبودية؟
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ
أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ
مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ
أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
وكيف أخاف أوثانكم وأنتم لا تخافون ربي الذي خلقكم, وخلق أوثانكم التي
أشركتموها معه في العبادة, من غير حجة لكم على ذلك؟ فأي الفريقين: فريق
المشركين وفريق الموحدين أحق بالطمأنينة والسلامة والأمن من عذاب الله؟ إن
كنتم تعلمون صدق ما أقول فأخبروني
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه ولم يخلطوا إيمانهم بشرك, أولئك لهم الطمأنينة والسلامة, وهم الموفقون إلى طريق الحق.
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
وتلك الحجة التي حاجَّ بها إبراهيم عليه السلام قومه هي حجتنا التي وفقناه
إليها حتى انقطعت حجتهم. نرفع مَن نشاء من عبادنا مراتب في الدنيا
والآخرة. إن ربك حكيم في تدبير خلقه, عليم بهم.
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً
هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ
وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (84)
ومننَّا على إبراهيم عليه السلام بأن رزقناه إسحاق ابنًا ويعقوب حفيدًا,
ووفَّقنا كلا منهما لسبيل الرشاد, وكذلك وفَّقنا للحق نوحًا -من قبل
إبراهيم وإسحاق ويعقوب- وكذلك وفَّقنا للحق من ذرية نوح داود وسليمان
وأيوب ويوسف وموسى وهارون عليهم السلام, وكما جزينا هؤلاء الأنبياء
لإحسانهم نجزي كل محسن.
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ (85)
وكذلك هدينا زكريا ويحيى وعيسى وإلياس, وكل هؤلاء الأنبياء عليهم السلام من الصالحين.
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِه وهدينا كذلك إسماعيل واليسع ويونس ولوطا, وكل هؤلاء الرسل فضَّلناهم على أهل زمانهم.
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87)
وكذلك وفَّقنا للحق من شئنا هدايته من آباء هؤلاء وذرياتهم وإخوانهم,
واخترناهم لديننا وإبلاغ رسالتنا إلى مَن أرسلناهم إليهم, وأرشدناهم إلى
طريق صحيح, لا عوج فيه, وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك.
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
ذلك الهدى هو توفيق الله, الذي يوفق به من يشاء من عباده. ولو أن هؤلاء
الأنبياء أشركوا بالله -على سبيل الفرض والتقدير- لبطل عملهم; لأن الله
تعالى لا يقبل مع الشرك عملا.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا
بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
أولئك الأنبياء الذين أنعمنا عليهم بالهداية والنبوة هم الذين آتيناهم
الكتاب كصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى, وآتيناهم فَهْمَ
هذه الكتب, واخترناهم لإبلاغ وحينا, فإن يجحد -أيها الرسول- بآيات هذا
القرآن الكفارُ من قومك, فقد وكلنا بها قومًا آخرين -أي: المهاجرين
والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة- ليسوا بها بكافرين, بل مؤمنون بها,
عاملون بما تدل عليه.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ
(90)
أولئك الأنبياء المذكورون هم الذين وفقهم الله تعالى لدينه الحق, فاتبع
هداهم -أيها الرسول- واسلك سبيلهم. قل للمشركين: لا أطلب منكم على تبليغ
الإسلام عوضًا من الدنيا, إنْ أجري إلا على الله, وما الإسلام إلا دعوة
جميع الناس إلى الطريق المستقيم وتذكير لكم ولكل مَن كان مثلكم, ممن هو
مقيم على باطل, لعلكم تتذكرون به ما ينفعكم
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ
عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ
بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ
تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا
أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ
يَلْعَبُونَ (91)
وما عَظَّم هؤلاء المشركون الله حق تعظيمه; إذ أنكروا أن يكون الله تعالى
قد أنزل على أحد من البشر شيئًا من وحيه. قل لهم -أيها الرسول- : إذا كان
الأمر كما تزعمون, فمن الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى إلى قومه نورًا
للناس وهداية لهم؟ ثم توجه الخطاب إلى اليهود زَجْرًا لهم بقوله: تجعلون
هذا الكتاب في قراطيس متفرقة, تظهرون بعضها, وتكتمون كثيرًا منها, ومما
كتموه الإخبار عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته, وعلَّمكم الله معشر
العرب بالقرآنِ -الذي أنزله عليكم, فيه خبر مَن قبلكم ومَن بعدكم, وما
يكون بعد موتكم- ما لم تعلموه أنتم ولا آباؤكم, قل: الله هو الذي أنزله,
ثم دع هؤلاء في حديثهم الباطل يخوضون ويلعبون.
وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ
يُحَافِظُونَ (92)
وهذا القرآن كتاب أنزلناه إليك -أيها الرسول- عظيم النفع, مصدق لما تقدمه
من الكتب السماوية, أنزلناه لنخوِّف به من عذاب الله وبأسه أهل "مكة" ومن
حولها من أهل أقطار الأرض كلها. والذين يصدقون بالحياة الآخرة, يصدقون بأن
القرآن كلام الله, ويحافظون على إقام الصلاة في أوقاتها.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ
أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ
مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي
غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا
أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ
تَسْتَكْبِرُونَ (93)
ومَن أشدُّ ظلمَّا ممَّن اختلق على الله تعالى قولا كذبًا, فادعى أنه لم
يبعث رسولا من البشر, أو ادعى كذبًا أن الله أوحى إليه ولم يُوحِ إليه
شيئًا, أو ادَّعى أنه قادر على أن يُنْزل مثل ما أنزل الله من القرآن؟ ولو
أنك أبصرت -أيها الرسول- هؤلاء المتجاوزين الحدَّ وهم في أهوال الموت
لرأيت أمرًا هائلا والملائكة الذين يقبضون أرواحهم باسطو أيديهم بالعذاب
قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم, اليوم تهانون غاية الإهانة, كما كنتم تكذبون
على الله, وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله.
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى
مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
ولقد جئتمونا للحساب والجزاء فرادى كما أوجدناكم في الدنيا أول مرة حفاة
عراة, وتركتم وراء ظهوركم ما مكنَّاكم فيه مما تتباهون به من أموال في
الدنيا, وما نرى معكم في الآخرة أوثانكم التي كنتم تعتقدون أنها تشفع لكم,
وتَدَّعون أنها شركاء مع الله في العبادة, لقد زال تَواصُلُكم الذي كان
بينكم في الدنيا, وذهب عنكم ما كنتم تَدَّعون من أن آلهتكم شركاء لله في
العبادة, وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم.
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ
الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ
فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ (95)
إن الله تعالى يشق الحب, فيخرج منه الزرع, ويشق النوى, فيخرج منه الشجر,
يخرج الحي من الميت كالإنسان والحيوان مثلا من النطفة, ويخرج الميت من
الحي كالنطفة من الإنسان والحيوان, ذلكم الله أي: فاعل هذا هو الله وحده
لا شريك له المستحق للعبادة, فكيف تُصْرَفون عن الحق إلى الباطل فتعبدون
معه غيره؟
فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
والله سبحانه وتعالى هو الذي شق ضياء الصباح من ظلام الليل, وجعل الليل
مستقرًا, يسكن فيه كل متحرك ويهدأ, وجعل الشمس والقمر يجريان في فلكيهما
بحساب متقن مقدَّر, لا يتغير ولا يضطرب, ذلك تقدير العزيز الذي عزَّ
سلطانه, العليم بمصالح خلقه وتدبير شئونهم. والعزيز والعليم من أسماء الله
الحسنى يدلان على كمال العز والعلم.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي
ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (97)
والله سبحانه هو الذي جعل لكم أيها الناس النجوم علامات, تعرفون بها الطرق
ليلا إذا ضللتم بسبب الظلمة الشديدة في البر والبحر, قد بيَّنَّا البراهين
الواضحة; ليتدبرها منكم أولو العلم بالله وشرعه.
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
والله سبحانه هو الذي ابتدأ خلقكم أيها الناس من آدم عليه السلام; إذ خلقه
من طين, ثم كنتم سلالة ونسلا منه, فجعل لكم مستقَرًا تستقرون فيه, وهو
أرحام النساء, ومُستودعًا تُحفَظُون فيه, وهو أصلاب الرجال, قد بينا الحجج
وميزنا الأدلة, وأحكمناها لقوم يفهمون مواقع الحجج ومواضع العبر.
وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً
نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا
قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ
إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (99)
والله سبحانه هو الذي أنزل من السحاب مطرًا فأخرج به نبات كل شيء, فأخرج
من النبات زرعًا وشجرًا أخضر, ثم أخرح من الزرع حَبًّا يركب بعضه بعضًا,
كسنابل القمح والشعير والأرز, وأخرج من طلع النخل -وهو ما تنشأ فيه عذوق
الرطب- عذوقًا قريبة التناول, وأخرج سبحانه بساتين من أعناب, وأخرج شجر
الزيتون والرمان الذي يتشابه في ورقه ويختلف في ثمره شكلا وطعمًا وطبعًا.
انظروا أيها الناس إلى ثمر هذا النبات إذا أثمر, وإلى نضجه وبلوغه حين
يبلغ. إن في ذلكم - أيها الناس - لدلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء
وحكمته ورحمته لقوم يصدقون به تعالى ويعملون بشرعه.
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ
بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يَصِفُونَ (100)
وجعل هؤلاء المشركون الجن شركاء لله تعالى في العبادة; اعتقادًا منهم أنهم
ينفعون أو يضرون, وقد خلقهم الله تعالى وما يعبدون من العدم, فهو المستقل
بالخلق وحده, فيجب أن يستقل بالعبادة وحده لا شريك له. ولقد كذب هؤلاء
المشركون على الله تعالى حين نسبوا إليه البنين والبنات; جهلا منهم بما
يجب له من صفات الكمال, تنزَّه وعلا عما نسبه إليه المشركون من ذلك الكذب
والافتراء.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:05 pm

سورة الأنعام الآيات (163:101)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ
تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (101)
والله تعالى هو الذي أوجد السموات والأرض وما فيهن على غير مثال سابق. كيف
يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟ تعالى الله عما يقول المشركون علوًّا
كبيرًا, وهو الذي خلق كل شيء من العدم, ولا يخفى عليه شيء من أمور الخلق.
ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
ذلكم -أيها المشركون- هو ربكم جل وعلا لا معبود بحق سواه, خالق كل شيء
فانقادوا واخضعوا له بالطاعة والعبادة. وهو سبحانه على كل شيء وكيل وحفيظ,
يدبر أمور خلقه.
لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
لا ترى اللهَ الأبصارُ في الدنيا, أما في الدار الآخرة فإن المؤمنين يرون
ربهم بغير إحاطة, وهو سبحانه يدرك الأبصار ويحيط بها, ويعلمها على ما هي
عليه, وهو اللطيف بأوليائه الذي يعلم دقائق الأشياء، الخبير الذي يعلم
بواطنها.
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: قد جاءتكم براهين ظاهرة تبصرون بها
الهدى من الضلال, مما اشتمل عليها القرآن, وجاء بها الرسول عليه الصلاة
والسلام, فمَن تبيَّن هذه البراهين وآمن بمدلولها فنَفْغُ ذلك لنفسه, ومَن
لم يبصر الهدى بعد ظهور الحجة عليه فعلى نفسه جنى, وما أنا عليكم بحافظ
أحصي أعمالكم, وإنما أنا مبلغ, والله يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء وَفْق
علمه وحكمته.
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
وكما بيَّنَّا في هذا القرآن للمشركين البراهين الظاهرة في أمر التوحيد
والنبوة والمعاد نبيِّن لهم البراهين في كل ما جهلوه فيقولون عند ذلك
كذبًا: تعلمت من أهل الكتاب, ولنبين -بتصريفنا الآيات- الحقَّ لقوم
يعلمونه, فيقبلونه ويتبعونه, وهم المؤمنون برسول الله محمد صلى الله عليه
وسلم وما أنزل عليه.
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (106)
اتبع -أيها الرسول- ما أوحيناه إليك من الأوامر والنواهي التي أعظمُها
توحيد الله سبحانه والدعوة إليه, ولا تُبال بعناد المشركين, وادعائهم
الباطل.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
ولو شماء الله تعالى أن لا يشرك هؤلاء المشركون لما أشركوا, لكنه تعالى
عليم بما سيكون من سوء اختيارهم واتباعهم أهواءهم المنحرفة. وما جعلناك
-أيها الرسول- عليهم رقيبًا تحفظ عليهم أعمالهم, وما أنت بقَيِّمٍ عليهم
تدبر مصالحهم.
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا
اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
ولا تسبوا -أيها المسلمون- الأوثان التي يعبدها المشركون -سدًّا للذريعة-
حتى لا يتسبب ذلك في سبهم الله جهلا واعتداءً: بغير علم. وكما حسَّنَّا
لهؤلاء عملهم السيئ عقوبة لهم على سوء اختيارهم, حسَّنَّا لكل أمة
أعمالها, ثم إلى ربهم معادهم جميعًا فيخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها
في الدنيا, ثم يجازيهم بها.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ
لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا
يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)
وأقسم هؤلاء المشركون بأيمان مؤكَّدة: لئن جاءنا محمد بعلامة خارقة
لنصدقنَّ بما جاء به, قل -أيها الرسول- : إنما مجيء المعجزات الخارقة من
عند الله تعالى, هو القادر على المجيء بها إذا شاء, وما يدريكم أيها
المؤمنون: لعل هذه المعجزات إذا جاءت لا يصدِّق بها هؤلاء المشركون.
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم, فنحول بينها وبين الانتفاع بآيات الله, فلا
يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بآيات القرآن عند نزولها أول مرة, ونتركهم في
تمرُّدهم على الله متحيِّرين, لا يهتدون إلى الحق والصواب.
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ
الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَجْهَلُونَ (111)
ولو أننا أجبنا طلب هؤلاء, فنزَّلنا إليهم الملائكة من السماء, وأحيينا
لهم الموتى, فكلموهم, وجمعنا لهم كل شيء طلبوه فعاينوه مواجهة, لم
يصدِّقوا بما دعوتهم إليه -أيها الرسول- ولم يعملوا به, إلا من شاء الله
له الهداية, ولكن أكثر هؤلاء الكفار يجهلون الحق الذي جئت به من عند الله
تعالى.
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
وكما ابتليناك -أيها الرسول- بأعدائك من المشركين ابتلينا جميع الأنبياء
-عليهم السلام- بأعداء مِن مردة قومهم وأعداء من مردة الجن, يُلقي بعضهم
إلى بعض القول الذي زيَّنوه بالباطل; ليغتر به سامعه, فيضل عن سبيل الله.
ولو أراد ربك -جلَّ وعلا- لحال بينهم وبين تلك العداوة, ولكنه الابتلاء من
الله, فدعهم وما يختلقون مِن كذب وزور.
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
ولِتميل إليه قلوب الكفار الذين لا يصدقون بالحياة الآخرة ولا يعملون لها,
ولتحبَّه أنفسهم, وليكتسبوا من الأعمال السيئة ما هم مكتسبون. وفي هذا
تهديد عظيم لهم.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ
الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ
أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ
الْمُمْتَرِينَ (114)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أغير الله إلهي وإلهكم أطلب حَكَمًا
بيني وبينكم, وهو سبحانه الذي أنزل إليكم القرآن مبينًا فيه الحكم فيما
تختصمون فيه من أمري وأمركم؟ وبنو إسرائيل الذين آتاهم الله التوراة
والإنجيل يعلمون علمًا يقينًا أن هذا القرآن منزل عليك -أيها الرسول- من
ربك بالحق, فلا تكونن من الشاكِّين في شيء مما أوحينا إليك.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
وتمت كلمة ربك -وهي القرآن- صدقًا في الأخبار والأقوال, وعدلا في الأحكام,
فلا يستطيع أحد أن يبدِّل كلماته الكاملة. والله تعالى هو السميع لما يقول
عباده, الحليم بظواهر أمورهم وبواطنها.
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ (116)
ولو فُرض -أيها الرسول- أنك أطعت أكثر أهل الأرض لأضلُّوك عن دين الله, ما
يسيرون إلا على ما ظنوه حقًّا بتقليدهم أسلافهم, وما هم إلا يظنون ويكذبون.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
إن ربك هو أعلم بالضالين عن سبيل الرشاد, وهو أعلم منكم ومنهم بمن كان على استقامة وسداد, لا يخفى عليه منهم أحد.
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
فكلوا من الذبائح التي ذُكِرَ اسم الله عليها, إن كنتم ببراهين الله تعالى الواضحة مصدقين.
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
وأيُّ شيء يمنعكم أيها المسلمون من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه, وقد
بيَّن الله سبحانه لكم جميع ما حرَّم عليكم؟ لكن ما دعت إليه الضرورة بسبب
المجاعة, مما هو محرم عليكم كالميتة, فإنه مباح لكم. وإنَّ كثيرًا من
الضالين ليضلون عن سبيل الله أشياعهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال
بأهوائهم؛ جهلا منهم. إن ربك -أيها الرسول- هو أعلم بمن تجاوز حده في ذلك,
وهو الذي يتولى حسابه وجزاءه.
وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
واتركوا -أيها الناس- جميع المعاصي, ما كان منها علانية وما كان سرًّا. إن
الذين يفعلون المعاصي سيعاقبهم ربهم; بسبب ما كانوا يعملونه من السيئات.
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ
لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
ولا تأكلوا -أيها المسلمون- من الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها عند
الذبح, كالميتة وما ذبح للأوثان والجن, وغير ذلك, وإن الأكل من تلك
الذبائح لخروج عن طاعة الله تعالى. وإن مردة الجن لَيُلْقون إلى أوليائهم
من شياطين الإنس بالشبهات حول تحريم أكل الميتة, فيأمرونهم أن يقولوا
للمسلمين في جدالهم معهم: إنكم بعدم أكلكم الميتة لا تأكلون ما قتله الله,
بينما تأكلون مما تذبحونه, وإن أطعتموهم -أيها المسلمون في تحليل الميتة-
فأنتم وهم في الشرك سواء.
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي
بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ
مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
أوَمن كان ميتًا في الضلالة هالكا حائرا, فأحيينا قلبه بالإيمان, وهديناه
له, ووفقناه لاتباع رسله, فأصبح يعيش في أنوار الهداية, كمن مثله في
الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة, لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص له مما
هو فيه؟ لا يستويان, وكما خذلتُ هذا الكافر الذي يجادلكم -أيها المؤمنون-
فزيَّنْتُ له سوء عمله, فرآه حسنًا, زيَّنْتُ للجاحدين أعمالهم السيئة;
ليستوجبوا بذلك العذاب.
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا
لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ (123)
ومثل هذا الذي حصل مِن زعماء الكفار في "مكة" من الصدِّ عن دين الله
تعالى, جعلنا في كل قرية مجرمين يتزعمهم أكابرهم; ليمكروا فيها بالصد عن
دين الله, وما يكيدون إلا أنفسهم, وما يُحِسُّون بذلك.
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ
مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ
بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
وإذا جاءت هؤلاء المشركين من أهل "مكة" حجة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم, قال بعض كبرائهم: لن نصدِّق بنبوته حتى يعطينا الله من النبوة
والمعجزات مثل ما أعطى رسله السابقين. فردَّ الله تعالى عليهم بقوله: الله
أعلم حيث يجعل رسالته أي: بالذين هم أهل لحمل رسالته وتبليغها إلى الناس.
سينال هؤلاء الطغاة الذل, ولهم عذاب موجع في نار جهنم; بسبب كيدهم للإسلام
وأهله.
فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ
وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ
الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)
فمن يشأ الله أن يوفقه لقَبول الحق يشرح صدره للتوحيد والإيمان, ومن يشأ
أن يضله يجعل صدره في حال شديدة من الانقباض عن قَبول الهدى, كحال مَن
يصعد في طبقات الجو العليا, فيصاب بضيق شديد في التنفس. وكما يجعل الله
صدور الكافرين شديدة الضيق والانقباض, كذلك يجحل العذاب على الذين لا
يؤمنون به.
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
وهذا الذي بيَّنَّاه لك -أيها الرسول- هو الطريق الموصل إلى رضا ربك وجنته. قد بينَّا البراهين لمن يتذكر من أهل العقول الراجحة.
لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
للمتذكرين عند ربهم جل وعلا يوم القيامة دار السلامة والأمان من كل مكروه
وهي الجنة, وهو سبحانه ناصرهم وحافظهم جزاءً لهم; بسبب أعمالهم الصالحة.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ
اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ
رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي
أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا
شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
واذكر -أيها الرسول- يوم يحشر الله تعالى الكفار وأولياءهم من شياطين الجن
فيقول: يا معشر الجن قد أضللتم كثيرًا من الإنس, وقال أولياؤهم من كفار
الإنس: ربنا قد انتفع بعضنا من بعض, وبلغنا الأجل الذي أجَّلْتَه لنا
بانقضاء حياتنا الدنيا, قال الله تعالى لهم: النار مثواكم, أي: مكان
إقامتكم خالدين فيها, إلا مَن شاء الله عدم خلوده فيها من عصاة الموحدين.
إن ربك حكيم في تدبيره وصنعه, عليم بجميع أمور عباده.
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
وكما سلَّطْنا شياطين الجن على كفار الإنس, فكانوا أولياء لهم, نسلِّط
الظالمين من الإنس بعضهم على بعض في الدنيا; بسبب ما يعملونه من المعاصي.
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
أيها المشركون من الجن والإنس, ألم يأتكم رسل من جملتكم -وظاهر النصوص
يدلُّ على أنَّ الرسل من الإنس فقط-, يخبرونكم بآياتي الواضحة المشتملة
على الأمر والنهي وبيان الخير والشر, ويحذرونكم لقاء عذابي في يوم
القيامة؟ قال هؤلاء المشركون من الإنس والجن: شَهِدْنا على أنفسنا بأن
رسلك قد بلغونا آياتك, وأنذرونا لقاء يومنا هذا, فكذبناهم, وخدعت هؤلاء
المشركين زينةُ الحياة الدنيا, وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا جاحدين
وحدانية الله تعالى ومكذبين لرسله عليهم السلام.
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب, لئلا يؤاخَذَ أحد
بظلمه, وهو لم تبلغه دعوة, ولكن أعذرنا إلى الأمم, وما عذَّبنا أحدًا إلا
بعد إرسال الرسل إليهم
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
ولكل عامل في طاعة الله تعالى أو معصيته مراتب من عمله, يبلِّغه الله
إياها, ويجازيه عليها. وما ربك -أيها الرسول- بغافل عما يعمل عباده.
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ
ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
وربك -أيها الرسول- الذي أمر الناس بعبادته, هو الغني وحده, وكل خلقه
محتاجون إليه, وهو سبحانه ذو الرحمة الواسعة, لو أراد لأهلككم, وأوجد
قومًا غيركم يخلفونكم من بعد فنائكم, ويعملون بطاعته تعالى, كما أوجدكم من
نسل قوم آخرين كانوا قبلكم.
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
إن الذي يوعدكم به ربكم - أيها المشركون - من العقاب على كفركم واقع بكم,
ولن تُعجِزوا ربكم هربًا, فهو قادر على إعادتكم, وإن صرتم ترابًا وعظامًا.
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (135)
قل -أيها الرسول- : يا قوم اعملوا على طريقتكم فإني عامل على طريقتي التي
شرعها لي ربي جل وعلا فسوف تعلمون -عند حلول النقمة بكم- مَنِ الذي تكون
له العاقبة الحسنة؟ إنه لا يفوز برضوان الله تعالى والجنة مَن تجاوز حده
وظلم, فأشرك مع الله غيره.
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً
فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ
لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ
يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
وجعل المشركون لله -جلَّ وعلا- جزءًا مما خلق من الزروع والثمار والأنعام
يقدمونه للضيوف والمساكين, وجعلوا قسمًا آخر من هذه الأشياء لشركائهم من
الأوثان والأنصاب, فما كان مخصصًا لشركائهم فإنه يصل إليها وحدها, ولا يصل
إلى الله, وما كان مخصصا لله تعالى فإنه يصل إلى شركائهم. بئس حكم القوم
وقسمتهم.
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ
شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
وكما زيَّن الشيطان للمشركين أن يجعلوا لله تعالى من الحرث والأنعام
نصيبًا, ولشركائهم نصيبًا, زيَّنت الشياطين لكثير من المشركين قَتْلَ
أولادهم خشية الفقر; ليوقعوا هؤلاء الآباء في الهلاك بقتل النفس التي حرم
الله قتلها إلا بالحق, وليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس, فيضلوا ويهلكوا, ولو
شاء الله ألا يفعلوا ذلك ما فعلوه, ولكنه قدَّر ذلك لعلمه بسوء حالهم
ومآلهم, فاتركهم -أيها الرسول- وشأنهم فيما يفترون من كذب, فسيحكم الله
بينك وبينهم
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ
نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا
يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ
بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
وقال المشركون: هذه إبل وزرع حرام, لا يأكلها إلا مَن يأذنون له -حسب
ادعائهم- مِن سدنة الأوثان وغيرهم. وهذه إبل حُرِّمت ظهورها, فلا يحل
ركوبها والحملُ عليها بحال من الأحوال. وهذه إبل لا يَذكرون اسم الله
تعالى عليها في أي شأن من شئونها. فعلوا ذلك كذبًا منهم على الله, سيجزيهم
الله بسبب ما كانوا يفترون من كذبٍ عليه سبحانه.
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا
وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ
شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
وقال المشركون: ما في بطون الأنعام من أجنَّة مباح لرجالنا, ومحرم على
نسائنا, إذا ولد حيًّا, ويشركون فيه إذا ولد ميتًا. سيعاقبهم الله إذ
شرَّعوا لأنفسهم من التحليل والتحريم ما لم يأذن به الله. إنه تعالى حكيم
في تدبير أمور خلقه, عليم بهم.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ
ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
قد خسر وهلك الذين قتلوا أولادهم لضعف عقولهم وجهلهم, وحرموا ما رزقهم
الله كذبًا على الله. قد بَعُدوا عن الحق, وما كانوا من أهل الهدى
والرشاد. فالتحليل والتحريم من خصائص الألوهية في التشريع, والحلال ما
أحله الله, والحرام ما حرَّمه الله, وليس لأحد من خَلْقه فردًا كان أو
جماعة أن يشرع لعباده ما لم يأذن به الله.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ
وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ
لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد لكم بساتين: منها ما هو مرفوع عن الأرض
كالأعناب, ومنها ما هو غير مرفوع, ولكنه قائم على سوقه كالنخل والزرع,
متنوعًا طعمه, والزيتون والرمان متشابهًا منظره, ومختلفًا ثمره وطعمه.
كلوا -أيها الناس- مِن ثمره إذا أثمر, وأعطوا زكاته المفروضة عليكم يوم
حصاده وقطافه, ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال في إخراج المال وأكل الطعام
وغير ذلك. إنه تعالى لا يحب المتجاوزين حدوده بإنفاق المال في غير وجهه.
وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ
وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
(142)
وأوجد من الأنعام ما هو مهيَّأ للحمل عليه لكبره وارتفاعه كالإبل, ومنها
ما هو مهيَّأ لغير الحمل لصغره وقربه من الأرض كالبقر والغنم, كلوا مما
أباحه الله لكم وأعطاكموه من هذه الأنعام, ولا تحرموا ما أحلَّ الله منها
اتباعًا لطرق الشيطان, كما فعل المشركون. إن الشيطان لكم عدو ظاهر العداوة.
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ
اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ
كُنتُمْ صَادِقِينَ (143)
هذه الأنعام التي رزقها الله عباده من الإبل والبقر والغنم ثمانية أصناف:
أربعة منها من الغنم, وهي الضأن ذكورًا وإناثًا, والمعز ذكورًا وإناثًا.
قل -أيها الرسول- لأولئك المشركين: هل حَرَّم الله الذكرين من الغنم؟ فإن
قالوا: نعم, فقد كذبوا في ذلك; لأنهم لا يحرمون كل ذكر من الضأن والمعز,
وقل لهم: هل حَرَّم الله الأنثيين من الغنم؟ فإن قالوا: نعم, فقد كذبوا
أيضًا; لأنهم لا يحرمون كل أنثى من ولد الضأن والمعز, وقل لهم: هل حَرَّم
الله ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز من الحمل؟ فإن قالوا:
نعم, فقد كذبوا أيضًا; لأنهم لا يحرمون كل حَمْل مِن ذلك, خبِّروني بعلم
يدل على صحة ما ذهبتم إليه, إن كنتم صادقين فيما تنسبونه إلى ربكم.
وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ
أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ
بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً
لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (144)
والأصناف الأربعة الأخرى: هي اثنان من الإبل ذكورًا وإناثًا, واثنان من
البقر ذكورًا وإناثًا. قل -أيها الرسول- لأولئك المشركين: أحَرَّم الله
الذكرين أم الأنثيين؟ أم حرَّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ذكورًا
وإناثًا؟ أم كنتم أيها المشركون حاضرين, إذ وصاكم الد بهذا التحريم
للأنعام, فلا أحد أشد ظلمًا ممن اختلق على الله الكذب; ليصرف الناس بجهله
عن طريق الهدى. إن الله تعالى لا يوفق للرشد مَن تجاوز حدَّه, فكذب على
ربه, وأضلَّ الناس.
قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ
لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ
بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (145)
قل -أيها الرسول- : إني لا أجد فيما أوحى الله إليَّ شيئًا محرمًا على من
يأكله مما تذكرون أنه حُرِّم من الأنعام, إلا أن يكون قد مات بغير تذكية,
أو يكون دمًا مراقًا, أو يكون لحم خنزير فإنه نجس, أو الذي كانت ذكاته
خروجًا عن طاعة الله تعالى; كما إذا كان المذبوح قد ذكر عليه اسم غير الله
عند الذبح. فمن اضطر إلى الأكل من هذه المحرمات بسبب الجوع الشديد غير
طالب بأكله منها تلذذًا, ولا متجاوز حد الضرورة, فإن الله تعالى غفور له,
رحيم به. وقد ثبت - فيما بعد - بالسنة تحريم كل ذي ناب من السباع, ومخلب
من الطير, والحمر الأهلية, والكلاب.
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ
ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ
جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
واذكر -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين ما حرمَّنا على اليهود من البهائم
والطير: وهو كل ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنَّعام, وشحوم البقر
والغنم, إلا ما عَلِق من الشحم بظهورها أو أمعائها, أو اختلط بعظم الألْية
والجنب ونحو ذلك. ذلك التحرم المذكور على اليهود عقوبة مِنَّا لهم بسبب
أعمالهم السيئة, وإنَّا لصادقون فيما أخبرنا به عنهم
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
فإن كذبك -أيها الرسول- مخالفوك من المشركين واليهود, وغيرهم, فقل لهم:
ربكم جل وعلا ذو رحمة واسعة, ولا يُدْفع عقابه عن القوم الذين أجرموا,
فاكتسبوا الذنوب, واجترحوا السيئات. وفي هذا تهديد لهم لمخالفتهم الرسول
صلى الله عليه وسلم.
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا
آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ
إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148)
سيقول الذين أشركوا: لو أراد الله أن لا نشرك -نحن وآباؤنا- وأن لا نحرم
شيئًا مِن دونه ما فعلنا ذلك, وردَّ الله عليهم ببيان أن هذه الشبهة قد
أثارها الكفار مِن قبلهم, وكذَّبوا بها دعوة رسلهم, واستمَرُّوا على ذلك,
حتى نزل بهم عذاب الله. قل لهم -أيها الرسول-: هل عندكم -فيما حرَّمتم من
الأنعام والحرث, وفيما زعمتم من أن الله قد شاء لكم الكفر, ورضيه منكم
وأحبه لكم- من علم صحيح فتظهرره لنا؟ إن تتبعون في أمور هذا الدين إلا
مجرد الظن, وإن أنتم إلا تكذبون.
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
قل -أيها الرسول- لهم: فلله جل وعلا الحجة القاطعة التي يقطع بها ظنونكم, فلو شاء لوفَّقكم جميعًا إلى طريق الاستقامة.
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ
هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن الله
تعالى هو الذي حرَّم ما حرَّمتم من الحرث والأنعام, فإن شهدوا -كذبًا
وزورًا- فلا تصدقهم, ولا توافق الذين حكَّموا أهواءهم, فكذبوا بآيات الله
فيما ذهبوا إليه من تحريم ما أحل الله, وتحليل ما حرم الله, ولا تتبع
الذين لا يصدقون بالحياة الآخرة ولا يعملون لها, والذين هم بربهم يشركون
فيعبدون معه غيره.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:06 pm

سورة الأعراف ا لآيات (51:1 )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


المص (1)


(المص) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.


كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)


هذا القرآن كتاب عظيم أنزله الله عليك -أيها الرسول- فلا يكن في صدرك شك
منه في أنه أنزل من عند الله، ولا تتحرج في إبلاغه والإنذار به، أنزلناه
إليك; لتخوف به الكافرين وتذكر المؤمنين.


اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3)


اتبعوا -أيها الناس- ما أُنزل إليكم من ربكم من الكتاب والسنة بامتثال
الأوامر واجتناب النواهي، ولا تتبعوا من دون الله أولياء كالشياطين
والأحبار والرهبان. إنكم قليلا ما تتعظون، وتعتبرون، فترجعون إلى الحق.


وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)


وكثير من القرى أهلكنا أهلها بسبب مخالفة رسلنا وتكذيبهم، فأعقبهم ذلك خزي
الدنيا موصولا بذلِّ الآخرة، فجاءهم عذابنا مرة وهم نائمون ليلا ومرة وهم
نائمون نهارًا. وخَصَّ الله هذين الوقتين; لأنهما وقتان للسكون
والاستراحة، فمجيء العذاب فيهما أفظع وأشد.


فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)


فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا الإقرار بالذنوب والإساءة، وأنهم حقيقون بالعذاب الذي نزل بهم.


فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)


المرسلون: ماذا أجبتم رسلنا إليكم؟ ولنسْألَنَّ المرسلين عن تبليغهم لرسالات ربهم، وعمَّا أجابتهم به أممهم.


فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)


فلَنقُصَّنَّ على الخلق كلهم ما عملوا بعلم منا لأعمالهم في الدنيا فيما
أمرناهم به، وما نهيناهم عنه، وما كنا غائبين عنهم في حال من الأحوال.


وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (Cool


ووزن أعمال الناس يوم القيامة يكون بميزان حقيقي بالعدل والقسط الذي لا
ظلم فيه، فمن ثقلت موازين أعماله -لكثرة حسناته- فأولئك هم الفائزون.


وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)


ومن خَفَّتْ موازين أعماله -لكثرة سيئاته- فأولئك هم الذين أضاعوا حظَّهم
من رضوان الله تعالى، بسبب تجاوزهم الحد بجحد آيات الله تعالى وعدم
الانقياد لها.


وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (10)


ولقد مكَّنَّا لكم -أيها الناس- في الأرض، وجعلناها قرارًا لكم، وجعلنا
لكم فيها ما تعيشون به من مطاعم ومشارب، ومع ذلك فشكركم لنعم الله قليل.


وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ
مِنْ السَّاجِدِينَ (11)


ولقد أنعمنا عليكم بخلق أصلكم -وهو أبوكم آدم من العدم- ثم صوَّرناه على
هيئته المفضلة على كثير من الخلق، ثم أمرنا ملائكتنا عليهم السلام بالسجود
له -إكرامًا واحترامًا وإظهارًا لفضل آدم- فسجدوا جميعًا، لكنَّ إبليس
الذي كان معهم لم يكن من الساجدين لآدم; حسدًا له على هذا التكريم العظيم.




قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)


قال تعالى منكرًا على إبليس تَرْكَ السجود: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟
فقال إبليس: أنا أفضل منه خلقًا; لأني مخلوق من نار, وهو مخلوق من طين.
فرأى أن النار أشرف من الطين.


قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ (13)


قال الله لإبليس: فاهبط من الجنة, فما يصح لك أن تتكبر فيها, فاخرج من الجنة, إنك من الذليلين الحقيرين.


قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)


قال إبليس لله -جل وعلا- حينما يئس من رحمته: أمهلني إلى يوم البعث; وذلك لأتمكن من إغواء مَن أقدر عليه من بني آدم.


قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ (15)


قال الله تعالى: إنك ممن كتبتُ عليهم تأخير الأجل إلى النفخة الأولى في القرن, إذ يموت الخلق كلهم.


قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)


قال إبليس لعنه الله: فبسبب ما أضللتني لأجتهدنَّ في إغواء بني آدم عن طريقك القويم, ولأصدَّنَّهم عن الإسلام الذي فطرتهم عليه.


ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
(17)


ثم لآتينَّهم من جميع الجهات والجوانب, فأصدهم عن الحق, وأُحسِّن لهم
الباطل, وأرغبهم في الدنيا, وأشككهم في الآخرة, ولا تجد أكثر بني آدم
شاكرين لك نعمتك.


قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)


قال الله تعالى لإبليس: اخرج من الجنة ممقوتًا مطرودًا, لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك من بني آدم أجمعين.


ويا آدم اسكن أنت وزوجك حواء الجنة, فكُلا من ثمارها حيث شئتما, ولا تأكلا
من ثمرة شجرة (عَيَّنها لهما), فإن فعلتما ذلك كنتما من الظالمين
المتجاوزين حدود الله.


وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ
شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ
الظَّالِمِينَ (19)


فألقى الشيطان لآدم وحواء وسوسة لإيقاعهما في معصية الله تعالى بالأكل من
تلك الشجرة التي نهاهما الله عنها; لتكون عاقبتهما انكشاف ما سُتر من
عوراتهما, وقال لهما في محاولة المكر بهما: إنما نهاكما ربكما عن الأكل
مِن ثمر هذه الشجرة مِن أجل أن لا تكونا ملَكين, ومِن أجل أن لا تكونا من
الخالدين في الحياة.


فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ
عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ
هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ
الْخَالِدِينَ (20)


وأقسم الشيطان لآدم وحواء بالله إنه ممن ينصح لهما في مشورته عليهما بالأكل من الشجرة, وهو كاذب في ذلك.


وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ (21)


وأقسم الشيطان لآدم وحواء بالله إنه ممن ينصح لهما في مشورته عليهما بالأكل من الشجرة, وهو كاذب في ذلك.


فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا
سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ
وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)


فجرَّأهما وغرَّهما, فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الاقتراب منها,
فلما أكلا منها انكشفت لهما عوراتهما, وزال ما سترهما الله به قبل
المخالفة, فأخذا يلزقان بعض ورق الجنة على عوراتهما, وناداهما ربهما جل
وعلا ألم أنهكما عن الأكل من تلك الشجرة, وأقل لكما: إن الشيطان لكما عدو
ظاهر العداوة؟ وفي هذه الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور,
وأنه كان ولم يزل مستهجَنًا في الطباع, مستقبَحًا في العقول


قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (23)


قال آدم وحواء: ربنا ظلمنا أنفسنا بالأكل من الشجرة, وإن لم تغفر لنا
وترحمنا لنكونن ممن أضاعوا حظَّهم في دنياهم وأخراهم. (وهذه الكلمات هي
التي تلقاها آدم من ربه, فدعا بها فتاب الله عليه).


قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)


قال تعالى مخاطبًا آدم وحواء لإبليس: اهبطوا من السماء إلى الأرض, وسيكون
بعضكم لبعض عدوًا, ولكم في الأرض مكان تستقرون فيه, وتتمتعون إلى انقضاء
آجالكم.


قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)


قال الله تعالى لآدم وحوَّاء وذريتهما: فيها تحيون, أي: في الأرض تقضون
أيام حياتكم الدنيا, وفيها تكون وفاتكم, ومنها يخرجكم ربكم, ويحشركم أحياء
يوم البعث.


يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي
سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ
آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)


يا بني آدم قد جعلنا لكم لباسًا يستر عوراتكم, وهو لباس الضرورة, ولباسًا
للزينة والتجمل, وهو من الكمال والتنعم. ولباسُ تقوى الله تعالى بفعل
الأوامر واجتناب النواهي هو خير لباس للمؤمن. ذلك الذي مَنَّ الله به
عليكم من الدلائل على ربوبية الله تعالى ووحدانيته وفضله ورحمته بعباده;
لكي تتذكروا هذه النعم, فتشكروا لله عليها. وفي ذلك امتنان من الله تعالى
على خَلْقه بهذه النعم.


يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ
أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا
لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ
حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)


يا بني آدم لا يخدعنَّكم الشيطان, فيزين لكم المعصية, كما زيَّنها لأبويكم
آدم وحواء, فأخرجهما بسببها من الجنة, ينزع عنهما لباسهما الذي سترهما
الله به; لتنكشف لهما عوراتهما. إن الشيطان يراكم هو وذريته وجنسه وأنتم
لا ترونهم فاحذروهم. إنَّا جعلنا الشياطين أولياء للكفار الذين لا يوحدون
الله, ولا يصدقون رسله, ولا يعملون بهديه.


وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا
وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28)


وإذا أتى الكفار قبيحًا من الفعل اعتذروا عن فعله بأنه مما ورثوه عن
آبائهم, وأنه مما أمر الله به. قل لهم -أيها الرسول- : إن الله تعالى لا
يأمر عباده بقبائح الأفعال ومساوئها, أتقولون على الله -أيها المشركون- ما
لا تعلمون كذبًا وافتراءً؟


قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ (29)


قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أمر ربي بالعدل, وأمركم بأن تخلصوا له
العبادة في كل موضع من مواضعها, وبخاصة في المساجد, وأن تدعوه مخلصين له
الطاعة والعبادة, وأن تؤمنوا بالبعث بعد الموت. وكما أن الله أوجدكم من
العدم فإنه قادر على إعادة الحياة إليكم مرة أخرى.


فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ إِنَّهُمْ
اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)


جعل الله عباده فريقين: فريقًا وفَّقهم للهداية إلى الصراط المستقيم,
وفريقًا وجبت عليهم الضلالة عن الطريق المستقيم, إنهم اتخذوا الشياطين
أولياء من دون الله, فأطاعوهم جهلا منهم وظنًا بأنهم قد سلكوا سبيل
الهداية.


يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)


يا بني آدم كونوا عند أداء كل صلاة على حالة من الزينة المشروعة من ثياب
ساترة لعوراتكم ونظافة وطهارة ونحو ذلك, وكلوا واشربوا من طيبات ما رزقكم
الله, ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال في ذلك. إن الله لا يحب المتجاوزين
المسرفين في الطعام والشراب وغير ذلك.


قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)


قل -أيها الرسول- لهؤلاء الجهلة من المشركين: مَن الذي حرم عليكم اللباس
الحسن الذي جعله الله تعالى زينة لكم؟ ومَن الذي حرَّم عليكم التمتع
بالحلال الطيب من رزق الله تعالى؟ قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إنَّ
ما أحله الله من الملابس والطيبات من المطاعم والمشارب حق للذين آمنوا في
الحياة الدنيا يشاركهم فيها غيرهم, خالصة لهم يوم القيامة. مثل ذلك
التفصيل يفصِّل الله الآيات لقوم يعلمون ما يبيِّن لهم, ويفقهون ما يميز
لهم.


قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)


قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إنما حَرَّم الله القبائح من الأعمال,
ما كان منها ظاهرًا, وما كان خفيًّا, وحَرَّم المعاصي كلها, ومِن أعظمها
الاعتداء على الناس, فإن ذلك مجانب للحق, وحرَّم أن تعبدوا مع الله تعالى
غيره مما لم يُنَزِّل به دليلا وبرهانًا, فإنه لا حجة لفاعل ذلك, وحرَّم
أن تنسبوا إلى الله تعالى ما لم يشرعه افتراءً وكذبًا, كدعوى أن لله
ولدًا, وتحريم بعض الحلال من الملابس والمآكل.


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)


ولكل جماعة اجتمعت على الكفر بالله تعالى وتكذيب رسله -عليهم الصلاة
والسلام- وقت لحلول العقوبة بهم, فإذا جاء الوقت الذي وقَّته الله
لإهلاكهم لا يتأخرون عنه لحظة, ولا يتقدمون عليه.




يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ
عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)


يا بني آدم إذا جاءكم رسلي من أقوامكم, يتلون عليكم آيات كتابي, ويبينون
لكم البراهين على صدق ما جاؤوكم به فأطيعوهم, فإنه من اتقى سخطي وأصلح
عمله فلا خوف عليهم يوم القيامة من عقاب الله تعالى, ولا ههم يحزنون على
ما فاتهم من حظوظ الدنيا.


وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)


والكفار الذين كذَّبوا بالدلائل على توحيد الله, واستعلَوا عن اتباعها, أولئك أصحاب النار ماكثين فيها, لا يخرجون منها أبدًا.


فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ
بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى
إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا
كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)


لا أحد أشد ظلمًا ممن اختلق على الله تعالى الكذب, أو كذَّب بآياته
المنزلة, أولئك يصل إليهم حظُّهم من العذاب مما كتب لهم في اللوح المحفوظ,
حتى إذا جاءهم ملك الموت وأعوانه يقبضون أرواحهم قالوا لهم: أين الذين
كنتم تعبدونهم من دون الله من الشركاء والأولياء والأوثان ليخلِّصوكم مما
أنتم فيه؟ قالوا: ذهبوا عنا, واعترفوا على أنفسهم حينئذ أنهم كانوا في
الدنيا جاحدين مكذبين وحدانية الله تعالى.


قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ
وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ
رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنْ النَّارِ
قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38)


قال الله تعالى -لهؤلاء المشركين المفترين- : ادخلوا النار في جملة جماعات
من أمثالكم في الكفر, قد سلفت من قبلكم من الجن والإنس, كلما دخلت النارَ
جماعةٌ من أهل ملة لعنت نظيرتها التي ضلَّتْ بالاقتداء بها, حتى إذا تلاحق
في النار الأولون من أهل الملل الكافرة والآخرون منهم جميعًا, قال الآخرون
المتبعون في الدنيا لقادتهم: ربنا هؤلاء هم الذين أضلونا عن الحق, فآتهم
عذابًا مضاعفا من النار, قال الله تعالى: لكل ضعف, أي: لكل منكم ومنهم
عذاب مضاعف من النار, ولكن لا تدركون أيها الأتباع ما لكل فريق منكم من
العذاب والآلام.


وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39)


وقال المتبوعون من الرؤساء وغيرهم لأتباعهم: نحن وأنتم متساوون في الغيِّ
والضلال، وفي فِعْلِ أسباب العذاب فلا فَضْلَ لكم علينا, قال الله تعالى
لهم جميعًا: فذوقوا العذاب أي عذاب جهنم; بسبب ما كسبتم من المعاصي.


إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا
تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُجْرِمِينَ (40)


إن الكفار الذين لم يصدِّقوا بحججنا وآياتنا الدالة على وحدانيتنا, ولم
يعملوا بشرعنا تكبرًا واستعلاءً, لا تُفتَّح لأعمالهم في الحياة ولا
لأرواحهم عند الممات أبواب السماء, ولا يمكن أن يدخل هؤلاء الكفار الجنة
إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة, وهذا مستحيل. ومثل ذلك الجزاء نجزي
الذين كثر إجرامهم, واشتدَّ طغيانهم.


لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)


هؤلاء الكفار مخلدون في النار, لهم مِن جهنم فراش مِن تحتهم, ومن فوقهم
أغطية تغشاهم. وبمثل هذا العقاب الشديد يعاقب الله تعالى الظالمين الذين
تجاوزوا حدوده فكفروا به وعصَوْه.


وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(42)


والذين آمنوا بالله وعملوا الأعمال الصالحة في حدود طاقاتهم -لا يكلف الله
نفسًا من الأعمال إلا ما تطيق- أولئك أهل الجنة, هم فيها ماكثون أبدًا لا
يخرجون منها.


وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ
الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا
كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ
رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43)


وأذهب الله تعالى ما في صدور أهل الجنة من حقد وضغائن, ومن كمال نعيمهم أن
الأنهار تجري في الجنة من تحتهم. وقال أهل الجنة حينما دخلوها: الحمد لله
الذي وفَّقنا للعمل الصالح الذي أكسبنا ما نحن فيه من النعيم, وما كنا
لنوفَّق إلى سلوك الطريق المستقيم لولا أَنْ هدانا الله سبحانه لسلوك هذا
الطريق, ووفَّقنا للثبات عليه, لقد جاءت رسل ربنا بالحق من الإخبار بوعد
أهل طاعته ووعيد أهل معصيته, ونُودوا تهنئة لهم وإكرامًا: أن تلكم الجنة
أورثكم الله إياها برحمته, وبما قدَّمتموه من الإيمان والعمل الصالح.


وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا
مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ
حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)


ونادى أصحاب الجنة -بعد دخولهم فيها- أهلَ النار قائلين لهم: إنا قد وجدنا
ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله حقًا من إثابة أهل طاعته, فهل وجدتم ما
وعدكم ربكم على ألسنة رسله حقًا من عقاب أهل معصيته؟ فأجابهم أهل النار
قائلين: نعم قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا. فأذَّن مؤذن بين أهل الجنة وأهل
النار: أنْ لعنة الله على الظالمين الذين تجاوزوا حدود الله, وكفروا بالله
ورسله.


الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)


هؤلاء الكافرون هم الذين كانوا يُعْرِضون عن طريق الله المستقيم, ويمنعون
الناس من سلوكه, ويطلبون أن تكون السبيل معوجة حتى لا يتبينها أحد, وهم
بالآخرة -وما فيها- جاحدون.


وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ
بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ
لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)


وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حاجز عظيم يقال له الأعراف, وعلى هذا
الحاجز رجال يعرفون أهل الجنة وأهل النار بعلاماتهم, كبياض وجوه أهل
الجنة, وسواد وجوه أهل النار, وهؤلاء الرجال قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم
يرجون رحمة الله تعالى. ونادى رجال الأعراف أهل الجنة بالتحية قائلين لهم:
سلام عليكم, وأهل الأعراف لم يدخلوا الجنة بعد, وهم يرجون دخولها.


وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)


وإذا حُوِّلَتْ أبصار رجال الأعراف جهة أهل النار قالوا: ربنا لا تُصيِّرنا مع القوم الظالمين بشركهم وكفرهم.


وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ
(48)


ونادى أهل الأعراف رجالا من قادة الكفار الذين في النار, يعرفونهم بعلامات
خاصة تميزهم, قالوا لهم: ما نفعكم ما كنتم تجمعون من الأموال والرجال في
الدنيا, وما نفعكم استعلاؤكم عن الإيمان بالله وقَبول الحق.


أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)


أهؤلاء الضعفاء والفقراء من أهل الجنة الذين أقسمتم في الدنيا أن الله لا
يشملهم يوم القيامة برحمة, ولن يدخلهم الجنة؟ ادخلوا الجنة يا أصحاب
الأعراف فقد غُفِرَ لكم, لا خوف عليكم من عذاب الله, ولا أنتم تحزنون على
ما فاتكم من حظوظ الدنيا.


وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا
عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)


واستغاث أهل النار بأهل الجنة طالبين منهم أن يُفيضوا عليهم من الماء, أو
مما رزقهم الله من الطعام, فأجابوهم بأن الله تعالى قد حَرَّم الشراب
والطعام على الذين جحدوا توحيده, وكذَّبوا رسله.


الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ
يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)


الذين حَرَمهم الله تعالى من نعيم الآخرة هم الذين جعلوا الدين الذي أمرهم
الله باتباعه باطلا ولهوًا, وخدعتهم الحياة الدنيا وشغلوا بزخارفها عن
العمل للآخرة, فيوم القيامة ينساهم الله تعالى ويتركهم في العذاب الموجع,
كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا, ولكونهم بأدلة الله وبراهينه ينكرون مع
علمهم بأنها حق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:06 pm

سورة الأعراف ا لآيات (104:52 )


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)


ولقد جئنا الكفار بقرآن أنزلناه عليك -أيها الرسول- بيَّنَّاه مشتملا على
علم عظيم, هاديًا من الضلالة إلى الرشد ورحمة لقوم يؤمنون بالله ويعملون
بشرعه. وخصَّهم دون غيرهم; لأنهم هم المنتفعون به.


هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ
الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ
فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)


هل ينتظر الكفار إلا ما وُعِدوا به في القرآن من العقاب الذي يؤول إليه
أمرهم؟ يوم يأتي ما يئول إليه الأمر من الحساب والثواب والعقاب يوم
القيامة يقول الكفار الذين تركوا القرآن, وكفروا به في الحياة الدنيا: قد
تبيَّن لنا الآن أنَّ رسل ربنا قد جاؤوا بالحق, ونصحوا لنا, فهل لنا من
أصدقاء وشفعاء, فيشفعوا لنا عند ربنا, أو نعاد إلى الدنيا مرة أخرى فنعمل
فيها بما يرضي الله عنا؟ قد خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها,
وذهب عنهم ما كانوا يعبدونه من دون الله, ويفترونه في الدنيا مما يَعِدُهم
به الشيطان.


إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)


إن ربكم -أيها الناس- هو الله الذي أوجد السموات والأرض من العدم في ستة
أيام, ثم استوى -سبحانه- على العرش -أي علا وارتفع- استواءً يليق بجلاله
وعظمته, يُدخل سبحانه الليل على النهار, فيلبسه إياه حتى يذهب نوره,
ويُدخل النهار على الليل فيذهب ظلامه, وكل واحد منهما يطلب الآخر سريعًا
دائمًا, وهو -سبحانه- الذي خلق الشمس والقمر والنجوم مذللات له يسخرهن
-سبحانه- كما يشاء, وهنَّ من آيات الله العظيمة. ألا له سبحانه وتعالى
الخلق كله وله الأمر كله, تعالى الله وتعاظم وتنزَّه عن كل نقص, رب الخلق
أجمعين.


ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)


ادعوا -أيها المؤمنون- ربكم متذللين له خفية وسرًّا, وليكن الدعاء بخشوع
وبُعْدٍ عن الرياء. إن الله تعالى لا يحب المتجاوزين حدود شرعه, وأعظم
التجاوز الشرك بالله, كدعاء غير الله من الأموات والأوثان, ونحو ذلك.


وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً
وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (56)


ولا تُفْسدوا في الأرض بأيِّ نوع من أنواع الفساد, بعد إصلاح الله إياها
ببعثة الرسل -عليهم السلام- وعُمْرانها بطاعة الله, وادعوه -سبحانه-
مخلصين له الدعاء; خوفًا من عقابه ورجاء لثوابه. إن رحمة الله قريب من
المحسنين.


وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ
حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)


والله تعالى هو الذي يرسل الرياح الطيبة اللينة مبشرات بالغيث الذي تثيره
بإذن الله, فيستبشر الخلق برحمة الله, حتى إذا حملت الريح السحاب المحمل
بالمطر ساقه الله بها لإحياء بلد, قد أجدبت أرضه, ويَبِست أشجاره وزرعه,
فأنزل الله به المطر, فأخرج به الكلأ والأشجار والزروع, فعادت أشجاره
محملة بأنواع الثمرات. كما نحيي هذا البلد الميت بالمطر نخرج الموتى من
قبورهم أحياءً بعد فنائهم; لتتعظوا, فتستدلوا على توحيد الله وقدرته على
البعث.


وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي
خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَشْكُرُونَ (58)


والأرض النقية إذا نزل عليها المطر تُخْرج نباتًا -بإذن الله ومشيئته-
طيبًا ميسرًا, وكذلك المؤمن إذا نزلت عليه آيات الله انتفع بها, وأثمرت
فيه حياة صالحة, أما الأرض السَّبِخة الرديئة فإنها لا تُخرج النبات إلا
عسرًا رديئا لا نفع فيه, ولا تُخرج نباتًا طيبًا, وكذلك الكافر لا ينتفع
بآيات الله. مثل ذلك التنويع البديع في البيان نُنوِّع الحجج والبراهين
لإثبات الحق لأناس يشكرون نعم الله, ويطيعونه.


لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)


لقد بعثنا نوحًا إلى قومه; ليدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وإخلاص العبادة
له, فقال: يا قوم اعبدوا الله وحده, ليس لكم من إله يستحق العبادة غيره جل
وعلا فأخلصوا له العبادة فإن لم تفعلوا وبقيتم على عبادة أوثانكم, فإنني
أخاف أن يحلَّ عليكم عذاب يوم يعظم فيه بلاؤكم, وهو يوم القيامة.


قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60)


قال له سادتهم وكبراؤهم: إنا لنعتقد -يا نوح- أنك في ضلال بيِّن عن طريق الصواب.


قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)


قال نوح: يا قوم لست ضالا في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه, ولكني رسول من رب العالمين ربي وربكم ورب جميع الخلق.


أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62)


أُبلِّغكم ما أُرسلت به من ربي, وأنصح لكم محذرًا لكم من عذاب الله ومبشرًا بثوابه, وأعلم من شريعته ما لا تعلمون.


أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ
مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)


وهل أثار عجبكم أن أنزل الله تعالى إليكم ما يذكركم بما فيه الخير لكم,
على لسان رجل منكم, تعرفون نسبه وصدقه; ليخوِّفكم بأس الله تعالى وعقابه,
ولتتقوا سخطه بالإيمان به, ورجاء أن تظفروا برحمته وجزيل ثوابه؟


فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً
عَمِينَ (64)


فكذبوا نوحًا فأنجيناه ومَن آمن معه في السفينة, وأغرقنا الكفار الذين كذبوا بحججنا الواضحة. إنهم كانوا عُمْيَ القلوب عن رؤية الحق.


وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65)


ولقد أرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هودا حين عبدوا الأوثان من دون الله,
فقال لهم: اعبدوا الله وحده, ليس لكم من إله يستحق العبادة غيره جل وعلا
فأخلصوا له العبادة أفلا تتقون عذاب الله طه عليكم؟


قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (66)


قال الكبراء الذين كفروا من قوم هود: إنا لنعلم أنك بدعوتك إيانا إلى ترك
عبادة آلهتنا وعبادة الله وحده ناقص العقل, وإنا لنعتقد أنك من الكاذبين
على الله فيما تقول.


قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)


قال هود: يا قوم ليس بي نقص في عقلي, ولكني رسول إليكم من رب الخلق أجمعين.


أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)


أُبلِّغكم ما أرسلني به ربي إليكم, وأنا لكم - فيما دعوتكم إليه من توحيد الله والعمل بشريعته - ناصح, أمين على وحي الله تعالى.


أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ
مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ
بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا
آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)


وهل أثار عجبكم أن أنزل الله تعالى إليكم ما يذكركم بما فيه الخير لكم,
على لسان رجل منكم, تعرفون نسبه وصدقه; ليخوِّفكم بأس الله وعقابه؟
واذكروا نعمة الله عليكم إذ جعلكم تخلفون في الأرض مَن قبلكم من بعد ما
أهلك قوم نوح, وزاد في أجسامكم قوة وضخامة, فاذكروا نِعَمَ الله الكثيرة
عليكم; رجاء أن تفوزوا الفوز العظيم في الدنيا والآخرة.


قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ
الصَّادِقِينَ (70)


قالت عاد لهود عليه السلام: أدعوتنا لعبادة الله وحله وهَجْر عبادة
الأصنام التي ورثنا عبادتها عن آبائنا؟ فأتنا بالعذاب الذي تخوفنا به إن
كنت من أهل الصدق فيما تقول.


قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ
أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ
مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ
مِنْ الْمُنتَظِرِينَ (71)


قال هود لقومه: قد حلَّ بكم عذاب وغضب من ربكم جل وعلا أتجادلونني في هذه
الأصنام التي سميتموها آلهة أنتم وآباؤكم؟ ما نزَّل الله بها من حجة ولا
برهان; لأنها مخلوقة لا تضر ولا تنفع, وإنما المعبود وحده هو الخالق
سبحانه, فانتظروا نزول العذاب عليكم فإني منتظر معكم نزوله, وهذا غاية في
التهديد والوعيد.


فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)


فوقع عذاب الله بإرسال الريح الشديدة عليهم, فأنجى الله هودًا والذين
آمنوا معه برحمة عظيمة منه تعالى, وأهلك الكفار من قومه جميعا ودمَّرهم عن
آخرهم, وما كانوا مؤمنين لجمعهم بين التكذيب بآيات الله وترك العمل الصالح.


وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي
أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(73)


ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحًا لمَّا عبدوا الأوثان من دون الله
تعالى. فقال صالح لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده; ليس لكم من إله يستحق
العبادة غيره جل وعلا، فأخلصوا له العبادة, قد جئتكم بالبرهان على صدق ما
أدعوكم إليه, إذ دعوتُ الله أمامكم, فأخرج لكم من الصخرة ناقة عظيمة كما
سألتم, فاتركوها تأكل في أرض الله من المراعي, ولا تتعرضوا لها بأي أذى,
فيصيبكم بسبب ذلك عذاب موجع.


وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ
فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ
الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي
الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)


واذكروا نعمة الله عليكم, إذ جعلكم تَخْلُفون في الأرض مَن قبلكم, من بعد
قبيلة عاد, ومكَّن لكم في الأرض الطيبة تنزلونها, فتبنون في سهولها البيوت
العظيمة, وتنحتون من جبالها بيوتًا أخرى, فاذكروا نِعَمَ الله عليكم, ولا
تَسْعَوا في الأرض بالإفساد.


قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً
مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
(75)


قال السادة والكبراء من الذين استعلَوا -من قوم صالح- للمؤمنين الذين
استضعفوهم, واستهانوا بهم: أتعلمون حقيقة أن صالحًا قد أرسله الله إلينا؟
قال الذين آمنوا: إنا مصدقون بما أرسله الله به, متَّبعون لشرعه.


قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)


قال الذين استعلَوْا: إنَّا بالذي صدَّقتم به واتبعتموه من نبوة صالح جاحدون.


فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا
صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ (77)


فنحروا الناقة استخفافا منهم بوعيد صالح, واستكبروا عن امتثال أمر ربهم,
وقالوا على سبيل الاستهزاء واستبعاد العذاب: يا صالح ائتنا بما تتوعَّدنا
به من العذاب, إن كنت مِن رسل الله.


فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)


فأخذَت الذين كفروا الزلزلةُ الشديدة التي خلعت قلوبهم, فأصبحوا في بلدهم
هالكين, لاصقين بالأرض على رُكَبهم ووجوههم, لم يُفْلِت منهم أحد.


فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ
رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)


فأعرض صالح عليه السلام عن قومه -حين عقروا الناقة وحل بهم الهلاك- وقال
لهم: يا قوم لقد أبلغتكم ما أمرني ربي بإبلاغه من أمره ونهيه, وبَذَلْت
لكم وسعي في الترغيب والترهيب والنصح, ولكنكم لا تحبون الناصحين, فرددتم
قولهم, وأطعتم كل شيطان رجيم.


وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ (80)


واذكر -أيها الرسول- لوطًا عليه السلام حين قال لقومه: أتفعلون الفعلة
المنكرة التي بلغت نهاية القبح؟ ما فعلها مِن أحد قبلكم من المخلوقين.


إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)


إنكم لتأتون الذكور في أدبارهم, شهوة منكم لذلك, غير مبالين بقبحها,
تاركين الذي أحلَّه الله لكم من نسائكم, بل أنتم قوم متجاوزون لحدود الله
في الإسراف. إن إتيان الذكور دون الإناث من الفواحش التي ابتدعها قوم لوط,
ولم يسبقهم بها أحد من الخلق


وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)


وما كان جواب قوم لوط حين أنكر عليهم فعلهم الشنيع إلا أن قال بعضهم لبعض:
أخرجوا لوطًا وأهله من بلادكم, إنه ومن تبعه أناس يتنزهون عن إتيان أدبار
الرجال والنساء.


فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ (83)


فأنجى الله لوطًا وأهله من العذاب حيث أمره بمغادرة ذلك البلد, إلا امرأته, فإنها كانت من الهالكين الباقين في عذاب الله.


وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)


وعذَّب الله الكفار من قوم لوط بأن أنزل عليهم مطرًا من الحجارة, وقلب
بلادهم, فجعل عاليها سافلها, فانظر -أيها الرسول- كيف صارت عاقبة الذين
اجترؤوا على معاصي الله وكذبوا رسله.


وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ
أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)


ولقد أرسلنا إلى قبيلة "مدين" أخاهم شعيبًا عليه السلام, فقال لهم: يا قوم
اعبدوا الله وحده لا شريك له; ليس لكم مِن إله يستحق العبادة غيره جل وعلا
فأخلصوا له العبادة, قد جاءكم برهان من ربكم على صِدْق ما أدعوكم إليه,
فأدوا للناس حقوقهم بإيفاء الكيل, الميزان, ولا تنقصوهم حقوقهم فتظلموهم,
ولا تفسدوا في الأرض -بالكفر والظلم- بعد إصلاحها بشرائع الأنبياء
السابقين عليهم السلام. ذلك الذي دعوتكم إليه خير لكم في دنياكم وأخراكم,
إن كنتم مصدقيَّ فيما دعوتكم إليه, عاملين بشرع الله.


وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ
قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
(86)


ولا تقعدوا بكل طريق تتوعدون الناس بالقتل, إن لم يعطوكم أموالهم,
وتصدُّون عن سبيل الله القويم من صدَّق به عز وجل, وعمل صالحًا, وتبغون
سبيل الله أن تكون معوجة, وتميلونها اتباعًا لأهوائكم, وتنفِّرون الناس عن
اتباعها. واذكروا نعمة الله تعالى عليكم إذ كان عددكم قليلا فكثَّركم,
فأصبحتم أقوياء عزيزين, وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين في الأرض, وما
حلَّ بهم من الهلاك والدمار؟


وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ
وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ
بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)


وإن كان جماعة منكم صدَّقوا بالذي أرسلني الله به, وجماعة لم يصدِّقوا
بذلك, فانتظروا أيها المكذبون قضاء الله الفاصل بيننا وبينكم حين يحلُّ
عليكم عذابه الذي أنذرتكم به. والله -جلَّ وعلا- هو خير الحاكمين بين
عباده.


قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)


قال السادة والكبراء من قوم شعيب الذين تكبروا عن الإيمان بالله واتباع
رسوله شعيب عليه السلام: لنخرجنك يا شعيب ومَن معك من المؤمنين من ديارنا,
إلا إذا صرتم إلى ديننا, قال شُعيب منكرًا ومتعجبًا من قولهم: أنتابعكم
على دينكم ومِلَّتكم الباطلة, ولو كنا كارهين لها لعِلْمِنا ببطلانها؟



قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ
بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ
فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)


وقال شعيب لقومه مستدركًا: قد اختلقنا على الله الكذب إن عُدْنا إلى دينكم
بعد أن أنقذنا الله منه, وليس لنا أن نتحول إلى غير دين ربنا إلا أن يشاء
الله ربنا, وقد وسع ربنا كل شيء علمًا, فيعلم ما يصلح للعباد, على الله
وحده اعتمادنا هداية ونصرة, ربنا احكم بيننا وبين قومنا بالحق, وأنت خير
الحاكمين.



وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ (90)


وقال السادة والكبراء المكذبون الرافضون لدعوة التوحيد إمعانًا في العتوِّ
والتمرد, محذرين من اتباع شعيب: لئن اتبعتم شعيبًا إنكم إذًا لهالكون.



فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)


فأخذَتْ قومَ شعيب الزلزلةُ الشديدة, فأصبحوا في دارهم صرعى ميتين.



الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمْ الْخَاسِرِينَ (92)


الذين كذَّبوا شعيبًا كأنهم لم يقيموا في ديارهم, ولم يتمتعوا فيها, حيث
استؤصلوا, فلم يبق لهم أثر, وأصابهم الخسران والهلاك في الدنيا والآخرة.



فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ
رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)


فأعرض شعيب عنهم حينما أيقن بحلول العذاب بهم, وقال: يا قوم لقد أبلغتكم
رسالات ربي, ونصحت لكم بالدخول في دين الله والإقلاع عما أنتم عليه, فلم
تسمعوا ولم تطيعوا, فكيف أحزن على قوم جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسله؟



وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا
بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)


وما أرسلنا في قرية من نبي يدعوهم إلى عبادة الله, وينهاهم عمَّا هم فيه
من الشرك, فكذَّبه قومه, إلا ابتليناهم بالبأساء والضراء, فأصبناهم في
أبدانهم بالأمراض والأسقام, وفي أموالهم بالفقر والحاجة; رجاء أن
يستكينوا, وينيبوا إلى الله, ويرجعوا إلى الحق.



ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا
وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ
فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)


ثم بدَّلنا الحالة الطيبة الأولى مكان الحالة السيئة, فأصبحوا في عافية في
أبدانهم, وسَعَة ورخاء في أموالهم; إمهالا لهم, ولعلهم يشكرون, فلم يُفِد
معهم كل ذلك, ولم يعتبروا ولم ينتهوا عمَّا هم فيه, وقالوا: هذه عادة
الدهر في أهله, يوم خير ويوم شر, وهو ما جرى لآبائنا من قبل, فأخذناهم
بالعذاب فجأة وهم آمنون, لا يخطر لهم الهلاك على بال


وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ
مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)


ولو أنَّ أهل القرى صدَّقوا رسلهم واتبعوهم واجتنبوا ما نهاهم الله عنه,
لفتح الله لهم أبواب الخير من كلِّ وجه, ولكنهم كذَّبوا, فعاقبهم الله
بالعذاب المهلك بسبب كفرهم ومعاصيهم.


أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (97)


أيظن أهل القرى أنهم في منجاة ومأمن من عذاب الله, أن يأتيهم ليلا وهم نائمون؟


أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)


أوَأمن أهل القرى أن يأتيهم عذاب الله وقت الضحى, وهم غافلون متشاغلون
بأمور دنياهم؟ وخصَّ الله هذين الوقتين بالذكر, لأن الإنسان يكون أغْفَل
ما يكون فيهما, فمجيء العذاب فيهما أفظع وأشد.


أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)


أفأمن أهل القرى المكذبة مَكْرَ الله وإمهاله لهم; استدراجًا لهم بما أنعم
عليهم في دنياهم عقوبة لمكرهم؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الهالكون.


أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا
أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)


أوَلم يتبين للذين سكنوا الأرض من بعد إهلاك أهلها السابقين بسبب معاصيهم,
فساروا سيرتهم, أن لو نشاء أصبناهم بسبب ذنوبهم كما فعلنا بأسلافهم, ونختم
على قلوبهم, فلا يدخلها الحق, ولا يسمعون موعظة ولا تذكيرًا؟


تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا
مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)


تلك القرى التي تَقَدَّم ذِكْرُها, وهي قرى قوم نوح وهود وصالح ولوط
وشعيب, نقصُّ عليك -أيها الرسول- من أخبارها, وما كان من أَمْر رسل الله
التي أرسلت إليهم, ما يحصل به عبرة للمعتبرين وازدجار للظالمين. ولقد جاءت
أهلَ القرى رسلنا بالحجج البينات على صدقهم, فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم
به الرسل; بسبب طغيانهم وتكذيبهم بالحق, ومثل خَتْمِ الله على قلوب هؤلاء
الكافرين المذكورين يختم الله على قلوب الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم.


وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)


وما وَجَدْنا لأكثر الأم الماضية من أمانة ولا وفاء بالعهد, وما وجدنا أكثرهم إلا فسقة عن طاعة الله وامتثال أمره.


ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ
وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ (103)


ثم بعثنا من بعد الرسل المتقدم ذِكْرهم موسى بن عمران بمعجزاتنا البينة
إلى فرعون وقومه, فجحدوا وكفروا بها ظلمًا منهم وعنادًا, فانظر -أيها
الرسول- متبصرًا كيف فعلنا بهم وأغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه؟
وتلك نهاية المفسدين.


وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)


وقال موسى لفرعون محاورًا مبلِّغًا: إني رسولٌ من الله خالق الخلق أجمعين, ومدبِّر أحوالهم ومآلهم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:07 pm

سورة الأعراف ا لآيات (156:105 )
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ
جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ (105)
جدير بأن لا أقول على الله إلا الحق, وحريٌّ بي أن ألتزمه, قد جئتكم
ببرهان وحجة باهرة من ربكم على صِدْق ما أذكره لكم, فأطلق -يا فرعون- معي
بني إسرائيل مِن أَسْرك وقَهْرك, وخلِّ سبيلهم لعبادة الله.
قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (106)
قال فرعرن لموسى: إن كنتَ جئتَ بآية حسب زعمك فأتني بها, وأحضرها عندي;
لتصحَّ دعواك ويثبت صدقك, إن كنت صادقًا فيما ادَّعيت أنك رسول رب
العالمين.
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
فألقى موسى عصاه, فتحولت حيَّة عظيمة ظاهرة للعيان.
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
وجذب يده من جيبه أو من جناحه فإذا هي بيضاء كاللبن من غير برص آية لفرعون, فإذا ردَّها عادت إلى لونها الأول, كسائر بدنه.
قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
قال الأشراف من قوم فرعون: إن موسى لساحر يأخذ بأعين الناس بخداعه إياهم,
حتى يخيل إليهم أن العصا حية, والشيء بخلاف ما هو عليه, وهو واسع العلم
بالسحر ماهر به.
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
يريد أن يخرجكم جميعًا من أرضكم, قال فرعون: فبماذا تشيرون عليَّ أيها الملأ في أمر موسى؟
قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
قال مَن حضر مناظرة موسى مِن سادة قوم فرعون وكبرائهم: أَخِّر موسى وأخاه هارون, وابعث في مدائن "مصر" وأقاليمها الشُّرَط.
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
ليجمعوا لك كل ساحر واسع العلم بالسحر.
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
وجاء السحرة فرعون قالوا: أئنَّ لنا لجائزة ومالا إن غَلَبْنا موسى؟
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (114)
قال فرعون: نعم لكم الأجر والقرب مني إن غَلَبْتُموه.
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
قال سحرة فرعون لموسى على سبيل التكبر وعدم المبالاة: يا موسى اختر أن تُلقي عصاك أولا أو نُلقي نحن أولا.
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
قال موسى للسحرة: ألقوا أنتم, فلما ألقَوا الحبال والعصيَّ سحروا أعين
الناس, فخُيِّل إلى الأبصار أن ما فعلوه حقيقة, ولم يكن إلا مجرد صنعة
وخيال, وأرهبوا الناس إرهابًا شديدًا, وجاؤوا بسحر قوي كثير.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
وأوحى الله إلى عبده ورسوله موسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم الذي
فرَّق الله فيه بين الحق والباطل, يأمره بأن يُلقي ما في يمينه وهي عصاه,
فألقاها فإذا هي تبلع ما يلقونه, ويوهمون الناس أنه حق وهو باطل.
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
فظهر الحق واستبان لمن شهده وحضره في أمر موسى عليه السلام, وأنه رسول الله يدعو إلى الحق, وبطل الكذب الذي كانوا يعملونه.
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
فغُلِبَ جميع السحرة في مكان اجتماعهم, وانصرف فرعون وقومه أذلاء مقهورين مغلوبين.
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
وخَرَّ السحرة سُجَّدًا على وجوههم لله رب العالمين لِمَا عاينوا من عظيم قدرة الله.
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)
قالوا: آمنا برب العالمين.
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
وهو رب موسى وهارون, وهو الذي يجب أن تصرف له العبادة وحده دون مَن سواه.
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا
لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
قال فرعون للسحرة: آمنتم بالله قبل أن آذن لكم بالإيمان به؟ إن إيمانكم
بالله وتصديقكم لموسى وإقراركم بنبوته لحيلة احتلتموها أنتم وموسى;
لتخرجوا أهل مدينتكم منها, وتكونوا المستأثرين بخيراتها, فسوف تعلمون
-أيها السحرة- ما يحلُّ بكم من العذاب والنكال.
لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
لأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم -أيها السحرة- من خلاف: بقطع اليد اليمنى والرجل
اليسرى, أو اليد اليسرى والرجل اليمنى, ثم لأعلقنَّكم جميعًا على جذوع
النخل; تنكيلا بكم وإرهابًا للناس.
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125)
قال السحرة لفرعون: قد تحققنا أنَّا إلى الله راجعون, وأن عذابه أشد من
عذابك, فلنصبرنَّ اليوم على عذابك; لِننجو من عذاب الله يوم القيامة.
وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا
جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
(126)
ولستَ تعيب منا وتنكر -يا فرعون- إلا إيماننا وتصديقنا بحجج ربنا وأدلته
التي جاء بها موسى ولا تقدر على مثلها أنت ولا أحد آخر سوى الله الذي له
ملك السموات والأرض, ربنا أَفِضْ علينا صبرًا عظيمًا وثباتا عليه,
وتوفَّنا منقادين لأمرك متبعين رسولك.
وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ
لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ
أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ
(127)
وقال السادة والكبراء من قوم فرعون لفرعون: أَتَدَعُ موسى وقومه من بني
إسرائيل ليفسدوا الناس في أرض "مصر" بتغيير دينهم بعبادة الله وحده لا
شريك له, وترك عبادتك وعبادة آلهتك؟ قال فرعون: سنُقَتِّل أبناء بني
إسرائيل ونستبقي نساءهم أحياء للخدمة, وإنَّا عالون عليهم بقهر المُلْكِ
والسلطان.
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ
الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ (128)
قال موسى لقومه -من بني إسرائيل-: استعينوا بالله على فرعون وقومه,
واصبروا على ما نالكم من فرعون من المكاره في أنفسكم وأبنائكم. إن الأرض
كلها لله يورثها من يشاء من عباده, والعاقبة المحمودة لمن اتقى الله ففعل
أوامره واجتنب نواهيه.
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا
جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
قال قوم موسى -من بني إسرائيل- لنبيهم موسى: ابتُلينا وأُوذينا بذبح
أبنائنا واستحياء نسائنا على يد فرعون وقومه, من قبل أن تأتينا, ومن بعد
ما جئتنا, قال موسى لهم: لعل ربكم أن يهلك عدوكم فرعون وقومه, ويستخلفكم
في أرضهم بعد هلاكهم, فينظر كيف تعملون, هل تشكرون أو تكفرون؟
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
ولقد ابتلينا فرعون وقومه بالقحط والجدب, ونَقْص ثمارهم وغَلاتهم; ليتذكروا, وينزجروا عن ضلالاتهم, ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة
فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ
عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)
فإذا جاء فرعونَ وقومَه الخِصْبُ والرزقُ قالوا: هذا لنا بما نستحقه, وإن
يُصِبْهم جدب وقحط يتشاءموا, ويقولوا: هذا بسبب موسى ومَن معه. ألا إنَّ
ما يصيبهم من الجدب والقحط إنما هو بقضاء الله وقدره, وبسبب ذنوبهم
وكفرهم, ولكن أكثر قوم فرعون لا يعلمون ذلك; لانغمارهم في الجهل والضلال.
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
وقال قوم فرعون لموسى: أي آية تأتِنا بها, ودلالة وحجة أقمتها لتصرفنا عما نحن عليه من دين فرعون, فما نحن لك بمصدِّقين.
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ
وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا
قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)
فأرسلنا عليهم سيلا جارفًا أغرق الزروع والثمار, وأرسلنا الجراد, فأكل
زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم, وأرسلنا القُمَّل الذي يفسد
الثمار ويقضي على الحيوان والنبات, وأرسلنا الضفادع فملأت آنيتهم وأطعمتهم
ومضاجعهم, وأرسلنا أيضًا الدم فصارت أنهارهم وآبارهم دمًا, ولم يجدوا ماء
صالحًا للشرب, هذه آيات من آيات الله لا يقدر عليها غيره, مفرقات بعضها عن
بعض, ومع كل هذا ترفَّع قوم فرعون, فاستكبروا عن الإيمان بالله, وكانوا
قومًا يعملون بما ينهى الله عنه من المعاصي والفسق عتوًّا وتمردًا.
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ
لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
ولما نزل العذاب على فرعون وقومه فزعوا إلى موسى وقالوا: يا موسى ادع لنا
ربك بما أوحى به إليك مِن رَفْع العذاب بالتوبة, لئن رفعت عنا العذاب الذي
نحن فيه لنصدِّقنَّ بما جئت به, ونتبع ما دعوت إليه, ولنطلقنَّ معك بني
إسرائيل, فلا نمنعهم من أن يذهبوا حيث شاؤوا.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135)
فلما رفع الله عنهم العذاب الذى أنزله بهم إلى أجلٍ هم بالغوه لا محالة
فيعذبون فيه, لا ينفعهم ما تقدَّم لهم من الإمهال وكَشْفِ العذاب إلى
حلوله, إذا هم ينقضون عهودهم التي عاهدوا عليها ربهم وموسى, ويقيمون على
كفرهم وضلالهم.
فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
فانتقمنا منهم حين جاء الأجل المحدد لإهلاكهم, وذلك بإحلال نقمتنا عليهم,
وهي إغراقهم في البحر; بسبب تكذيبهم بالمعجزات التي ظهرت على يد موسى,
وكانوا عن هذه المعجزات غافلين, وتلك الغفلة هي سبب التكذيب.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ
الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا
مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
وأررثنا بني إسرائيل الذين كانوا يُستَذَلُّون للخدمة, مشارق الأرض
ومغاربها (وهي بلاد "الشام") التي باركنا فيها, بإخراج الزروع والثمار
والأنهار, وتمت كلمة ربك -أيها الرسول- الحسنى على بني إسرائيل بالتمكين
لهم في الأرض; بسبب صبرهم على أذى فرعون وقومه, ودمَّرنا ما كان يصنع
فرعون وقومه من العمارات والمزارع, وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور
وغير ذلك.
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ
يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا
إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
وقطعنا ببني إسرائيل البحر, فمرُّوا على قوم يقيمون ويواظبون على عبادة
أصنام لهم, قال بنو إسرائيل: اجعل لنا يا موسى صنمًا نعبده ونتخذه إلهًا,
كما لهؤلاء القوم أصنام يعبدونها, قال موسى لهم: إنكم أيها القوم تجهلون
عظمة الله, ولا تعلمون أن العبادة لا تنبغي إلا لله الواحد القهار.
إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
إن هؤلاء المقيمين على هذه الأصنام مُهْلَك ما هم فيه من الشرك, ومدمَّر
وباطل ما كانوا يعملون من عبادتهم لتلك الأصنام, التي لا تدفع عنهم عذاب
الله إذا نزل بهم.
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
قال موسى لقومه: أغير الله أطلب لكم معبودًا تعبدونه من دونه, والله هو
الذي خلقكم, وفضَّلكم على عالمي زمانكم بكثرة الأنبياء فيكم, وإهلاك عدوكم
وما خصَّكم به من الآيات؟
وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي
ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
واذكروا - يا بني إسرائيل - نِعَمنا عليكم إذ أنقذناكم من أَسْر فرعون
وآله, وما كنتم فيه من الهوان والذلة من تذبيح أبنائكم واستبقاء نسائكم
للخدمة, وفي حَمْلِكم على أقبح العذاب وأسوئه, ثم إنجائكم, اختبار من الله
لكم ونعمة عظيمة.
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ
فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ
هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ (142)
وواعد الله سبحانه وتعالى موسى لمناجاة ربه ثلاثين ليلة, ثم زاده في الأجل
بعد ذلك عشر ليال, فتمَّ ما وَقَّتَه الله لموسى لتكليمه أربعين ليلة.
وقال موسى لأخيه هارون -حين أراد المضيَّ لمناجاة ربه-: كن خليفتي في قومي
حتى أرجع, وأحمِلَهم على طاعة الله وعبادته, ولا تسلكْ طريق الذين يفسدون
في الأرض.
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ
أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى
الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا
تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً
فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُؤْمِنِينَ (143)
ولما جاء موسى في الوقت المحدد وهو تمام أربعين ليلة, وكلَّمه ربه بما
كلَّمه من وحيه وأمره ونهيه, طمع في رؤية الله فطلب النظر إليه, قال الله
له: لن تراني, أي لن تقدر على رؤيتي في الدنيا, ولكن انظر إلى الجبل, فإن
استقر مكانه إذا تجلَّيتُ له فسوف تراني, فلما تجلَّى ربه للجبل جعله
دكًّا مستويًا بالأرض, وسقط موسى مغشيًّا عليه, فلما أفاق من غشيته قال:
تنزيهًا لك يا رب عما لا يليق بجلالك, إني تبت إليك من مسألتي إياك الرؤية
في هذه الحياة الدنيا, وأنا أول المؤمنين بك من قومي.
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي
وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ (144)
قال الله يا موسى: إني اخترتك على الناس برسالاتي إلى خلقي الذين أرسلتك
إليهم وبكلامي إياك مِن غير وساطة, فخذ ما أعطيتك مِن أمري ونهيي, وتمسَّك
به, واعمل به, وكن من الشاكرين لله تعالى على ما آتاك من رسالته, وخصَّك
بكلامه.
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً
وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ
يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
وكتبنا لموسى في التوراة من كل ما يحتاج إليه في دينه من الأحكام, موعظة
للازدجار والاعتبار وتفصيلا لتكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصص
والعقائد والأخبار والمغيبات, قال الله له: فخذها بقوة, أي: خذ التوراة
بجد واجتهاد, وأمر قومك يعملوا بما شرع الله فيها; فإن مَن أشرك منهم ومِن
غيرهم فإني سأريه في الآخرة دار الفاسقين, وهي نار الله التي أعدَّها
لأعدائه الخارجين عن طاعته.
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
سأصرف عن فَهْم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب
المتكبرين عن طاعتي, والمتكبرين على الناس بغير الحق, فلا يتبعون نبيًا
ولا يصغون إليه لتكبرهم, وإنْ يَرَ هؤلاء المتكبرون عن الإيمان كل آية لا
يؤمنوا بها لإعراضهم ومحادَّتهم لله ورسوله, وإن يروا طريق الصلاح لا
يتخذوه طريقًا, وإن يروا طريق الضلال, أي الكفر يتخذوه طريقًا ودينًا;
وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالاتها.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
والذين كذَّبوا بآيات الله وحججه وبلقاء الله في الآخرة حبطت أعملهم; بسبب
فَقْدِ شرطها, وهو الإيمان بالله والتصديق بجزائه, ما يجزون في الآخرة إلا
جزاء ما كانوا يعملونه في الدنيا من الكفر والمعاصي, وهو الخلود في النار.
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً
لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ
سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
واتخذ قوم موسى من بعد ما فارقهم ماضيًا لمناجاة ربه معبودًا مِن ذهبهم
عِجلا جسدًا بلا روح, له صوت, ألم يعلموا أنه لا يكلمهم, ولا يرشدهم إلى
خير؟ أَقْدَمُوا على ما أقدموا عليه من هذا الأمر الشنيع, وكانوا ظالمين
لأنفسهم واضعين الشيء في غير موضعه.
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا
قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ
مِنْ الْخَاسِرِينَ (149)
ولما ندم الذين عبدوا العجل مِن دون الله عند رجوع موسى إليهم, ورأوا أنهم
قد ضلُّوا عن قصد السبيل, وذهبوا عن دين الله, أخذوا في الإقرار بالعبودية
والاستغفار, فقالوا: لئن لم يرحمنا ربنا بقَبول توبتنا, ويستر بها ذنوبنا,
لنكونن من الهالكين الذين ذهبت أعمالهم.
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا
خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى
الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ
أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا
تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(150)
ولما رجع موسى إلى قومه مِن بني إسرائيل غضبان حزينًا; لأن الله قد أخبره
أنه قد فُتِن قومه, وأن السامريَّ قد أضلَّهم, قال موسى: بئس الخلافة التي
خلفتموني مِن بعدي, أعجلتم أَمْر ربكم؟ أي: أستعجلتم مجيئي إليكم وهو
مقدَّر من الله تعالى؟ وألقى موسى ألواح التوراة غضبا على قومه الذين
عبدوا العجل, وغضبًا على أخيه هارون, وأمسك برأس أخيه يجره إليه, قال
هارون مستعطفًا: يا ابن أمي: إن القوم استذلوني وعدُّوني ضعيفًا وقاربوا
أن يقتلوني, فلا تَسرَّ الأعداء بما تفعل بي, ولا تجعلني في غضبك مع القوم
الذين خالفوا أمرك وعبدوا العجل.
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
قال موسى لما تبين له عذر أخيه, وعلم أنه لم يُفَرِّط فيما كان عليه من
أمر الله: ربِّ اغفر لي غضبي, واغفر لأخي ما سبق بينه وبين بني إسرائيل,
وأدخلنا في رحمتك الواسعة, فإنك أرحم بنا من كل راحم.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ
رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُفْتَرِينَ (152)
إن الذين اتخذوا العجل إلهًا سينالهم غضب شديد مِن ربهم وهوان في الحياة
الدنيا; بسبب كفرهم بربهم, وكما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين المبتدعين في
دين الله, فكل صاحب بدعة ذليل.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
والذين عملوا السيئات من الكفر والمعاصي, ثم رجعوا مِن بعد فعلها إلى
الإيمان والعمل الصالح, إن ربك من بعد التوبة النصوح لغفور لأعمالهم غير
فاضحهم بها, رحيم بهم وبكل مَن كان مثلهم من التائبين.
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي
نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ
(154)
ولما سكن عن موسى غضبه أخذ الألواح بعد أن ألقاها على الأرض, وفيها بيان للحق ورحمة للذين يخافون الله, ويخشون عقابه.
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا
أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ
قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ
هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ
تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْغَافِرِينَ (155)
واختار موسى من قومه سبعين رجلا مِن خيارهم, وخرج بهم إلى طور "سيناء"
للوقت والأجل الذي واعده الله أن يلقاه فيه بهم للتوبة مما كان من سفهاء
بني إسرائيل من عبادة العجل, فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك -يا
موسى- حتى نرى الله جهرة فإنك قد كلَّمته فأرِنَاهُ, فأخذتهم الزلزلة
الشديدة فماتوا, فقام موسى يتضرع إلى الله ويقول: رب ماذا أقول لبني
إسرائيل إذا أتيتُهم, وقد أهلكتَ خيارهم؟ لو شئت أهلكتهم جميعًا من قبل
هذا الحال وأنا معهم, فإن ذلك أخف عليَّ, أتهلكنا بما فعله سفهاء الأحلام
منا؟ ما هذه الفعلة التي فعلها قومي من عبادتهم العجل إلا ابتلاءٌ
واختبارٌ, تضلُّ بها مَن تشاء مِن خلقك, وتهدي بها من تشاء هدايته, أنت
وليُّنا وناصرنا, فاغفر ذنوبنا, وارحمنا برحمتك, وأنت خير مَن صفح عن
جُرْم, وستر عن ذنب.
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا
هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
واجعلنا ممن كتبتَ له الصالحات من الأعمال في الدنيا وفي الآخرة, إنا
رجعنا تائبين إليك, قال الله تعالى لموسى: عذابي أصيب به مَن أشاء مِن
خلقي, كما أصبتُ هؤلاء الذين أصبتهم من قومك, ورحمتي وسعت خلقي كلَّهم,
فسأكتبها للذين يخافون الله, ويخشون عقابه, فيؤدون فرائضه, ويجتنبون
معاصيه, والذين هم بدلائل التوحيد وبراهينه يصدقون.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:07 pm

سورة الأعراف ا لآيات (206:157)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ



الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ
لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ
آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي
أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157)


هذه الرحمة سأكتبها للذين يخافون الله ويجتنبون معاصيه, ويتبعون الرسول
النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب, وهو محمد صلى الله عليه وسلم, الذي
يجدون صفته وأمره مكتوبَيْن عندهم في التوراة والإنجيل, يأمرهم بالتوحيد
والطاعة وكل ما عرف حُسْنه, وينهاهم عن الشرك والمعصية وكل ما عرف قُبْحه,
ويُحِلُّ لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والمناكح, ويُحرِّم عليهم
الخبائث منها كلحم الخنزير, وما كانوا يستحلُّونه من المطاعم والمشارب
التي حرَّمها الله, ويذهب عنهم ما كُلِّفوه من الأمور الشاقة كقطع موضع
النجاسة من الثوب, وإحراق الغنائم, والقصاص حتمًا من القاتل عمدًا كان
القتل أم خطأ, فالذين صدَّقوا بالنبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم
وأقروا بنبوته, ووقروه وعظَّموه ونصروه, واتبعوا القرآن المنزل عليه,
وعملوا بسنته, أولئك هم الفائزون بما وعد الله به عباده المؤمنين.


قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ
الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (158)


قل -أيها الرسول- للناس كلهم: إني رسول الله إليكم جميعًا لا إلى بعضكم
دون بعض, الذي له ملك السموات والأرض وما فيهما, لا ينبغي أن تكون
الألوهية والعبادة إلا له جل ثناؤه, القادر على إيجاد الخلق وإفنائه
وبعثه, فصدَّقوا بالله وأقرُّوا بوحدانيته, وصدَّقوا برسوله محمد صلى الله
عليه وسلم النبي الأميِّ الذي يؤمن بالله وما أنزل إليه من ربه وما أنزل
على النبيين من قبله, واتبعوا هذا الرسول, والتزموا العمل بما أمركم به من
طاعة الله, رجاء أن توفقوا إلى الطريق المستقيم.


وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)


ومِن بني إسرائيل من قوم موسى جماعة يستقيمون على الحق, يهدون الناس به, ويعدلون به في الحكم في قضاياهم.


وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا
إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ
أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا
عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(160)


وفرَّقنا قوم موسى مِن بني إسرائيل اثنتي عشرة قبيلة بعدد الأسباط -وهم
أبناء يعقوب- كل قبيلة معروفة من جهة نقيبها. وأوحينا إلى موسى إذ طلب منه
قومه السقيا حين عطشوا في التِّيْه: أن اضرب بعصاك الحجر, فضربه، فانفجرت
منه اثنتا عشرة عينًا من الماء, قد علمت كل قبيلة من القبائل الاثنتي عشرة
مشربهم, لا تدخل قبيلة على غيرها في شربها, وظلَّلنا عليهم السحاب,
وأنزلنا عليهم المنَّ -وهو شيء يشبه الصَّمغ, طعمه كالعسل - والسلوى, وهو
طائر يشبه السُّمَانَى, وقلنا لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم, فكرهوا ذلك
وملُّوه من طول المداومة عليه, وقالوا: لن نصبر على طعام واحد, وطلبوا
استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. وما ظلمونا حين لم يشكروا لله, ولم
يقوموا بما أوجب الله عليهم, ولكن كانوا أنفسهم يظلمون; إذ فوَّتوا عليها
كل خير, وعرَّضوها للشر والنقمة.


وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا
حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً
نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)


واذكر -أيها الرسول- عصيان بني إسرائيل لربهم سبحانه وتعالى ولنبيهم موسى
عليه السلام, وتبديلهم القول الذي أمروا أن يقولوه حين قال الله لهم:
اسكنوا قرية "بيت المقدس", وكلوا من ثمارها وحبوبها ونباتها أين شئتم ومتى
شئتم, وقولوا: حُطَّ عنا ذنوبنا, وادخلوا الباب خاضعين لله, نغفر لكم
خطاياكم, فلا نؤاخذكم عليها, وسنزيد المحسنين مِن خَيْرَيِ الدنيا والآخرة.


فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا
يَظْلِمُونَ (162)


فغيَّر الذين كفروا بالله منهم ما أمرهم الله به من القول, ودخلوا الباب
يزحفون على أستاههم, وقالوا: حبة في شعرة, فأرسلنا عليهم عذابًا من
السماء, أهلكناهم به; بسبب ظلمهم وعصيانهم.


وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ
شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)


واسأل -أيها الرسول- هؤلاء اليهود عن خبر أهل القرية التي كانت بقرب
البحر, إذ يعتدي أهلها في يوم السبت على حرمات الله, حيث أمرهم أن يعظموا
يوم السبت ولا يصيدوا فيه سمكًا, فابتلاهم الله وامتحنهم; فكانت حيتانهم
تأتيهم يوم السبت كثيرة طافية على وجه البحر, وإذا ذهب يوم السبت تذهب
الحيتان في البحر, ولا يرون منها شيئًا, فكانوا يحتالون على حبسها في يوم
السبت في حفائر, ويصطادونها بعده. وكما وصفنا لكم من الاختبار والابتلاء,
لإظهار السمك على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده فيه, وإخفائه
عليهم في اليوم المحلل لهم فيه صيده, كذلك نختبرهم بسبب فسقهم عن طاعة
الله وخروجهم عنها.


وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ
مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً
إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)


واذكر -أيها الرسول- إذ قالت جماعة منهم لجماعة أخرى كانت تعظ المعتدين في
يوم السبت, وتنهاهم عن معصية الله فيه: لِمَ تعظون قومًا الله مهلكهم في
الدنيا بمعصيتهم إياه أو معذبهم عذابا شديدًا في الآخرة؟ قال الذين كانوا
ينهَوْنهم عن معصية الله: نَعِظهم وننهاهم لِنُعْذَر فيهم, ونؤدي فرض الله
علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ورجاء أن يتقوا الله, فيخافوه,
ويتوبوا من معصيتهم ربهم وتعذِّيهم على ما حرَّم عليهم.


فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ
عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)


فلما تركت الطائفة التي اعتدت في يوم السبت ما ذُكِّرت به, واستمرت على
غيِّها واعتدائها فيه, ولم تستجب لما وَعَظَتْها به الطائفة الواعظة, أنجى
الله الذين ينهون عن معصيته, وأخذ الذين اعتدَوْا في يوم السبت بعذاب أليم
شديد; بسبب مخالفتهم أمر الله وخروجهم عن طاعته.


فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)


فلما تمردت تلك الطائفة, وتجاوزت ما نهاها الله عنه من عدم الصيد في يوم
السبت, قال لهم الله: كونوا قردة خاسئين مبعدين من كل خير, فكانوا كذلك.


وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ
الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)


واذكر -أيها الرسول- إذ علم ذلك إعلامًا صريحًا ليبعثن على اليهود مَن
يذيقهم سوء العذاب والإذلال إلى يوم القيامة. إن ربك -أيها الرسول- لسريع
العقاب لِمَن استحقه بسبب كفره ومعصيته, وإنه لغفور عن ذنوب التائبين,
رحيم بهم.


وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ
دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (168)


وفرَّقنا بني إسرائيل في الأرض جماعات, منهم القائمون بحقوق الله وحقوق
عباده, ومنهم المقصِّرون الظالمون لأنفسهم, واختبرنا هؤلاء بالرخاء في
العيش والسَّعَة في الرزق, واختبرناهم أيضًا بالشدة في العيش والمصائب
والرزايا; رجاء أن يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا من معاصيه.


فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ
هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ
لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ
الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169)


فجاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم بَدَلُ سوء أخذوا الكتاب من أسلافهم,
فقرءوه وعلموه, وخالفوا حكمه, يأخذون ما يعرض لهم من الدنيا من دنيء
المكاسب كالرشوة وغيرها; وذلك لشدة حرصهم ونَهَمهم, ويقولون مع ذلك: إن
الله سيغفر لنا ذنوبنا تمنيًا على الله الأباطيل, وإن يأت هؤلاء اليهودَ ٌ
زائلٌ من أنواع الحرام يأخذوه ويستحلوه, مصرِّين على ذنوبهم وتناولهم
الحرام, ألَمْ يؤخذ على هؤلاء العهود بإقامة التوراة والعمل بما فيها,
وألا يقولوا على الله إلا الحق وألا يكذبوا عليه, وعلموا ما في الكتاب
فضيعوه, وتركوا العمل به, وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك؟ والدار الآخرة
خير للذين يتقون الله, فيمتثلون أوامره, ويجتنبون نواهيه, أفلا يعقل هؤلاء
الذين يأخذون دنيء المكاسب أن ما عند الله خير وأبقى للمتقين؟


وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)


والذين يتمسَّكون بالكتاب, ويعملون بما فيه من العقائد والأحكام, ويحافظون
على الصلاة بحدودها, ولا يضيعون أوقاتها, فإن الله يثيبهم على أعمالهم
الصالحة, ولا يضيعها.


وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا
أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا
مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)


واذكر -أيها الرسول- إذ رفعنا الجبل فوق بني إسرائيل كأنه سحابة تظلهم,
وأيقنوا أنه واقع بهم إن لم يقبلوا أحكام التوراة, وقلنا لهم: خذوا ما
آتيناكم بقوة, أي اعملوا بما أعطيناكم باجتهاد منكم, واذكروا ما في كتابنا
من العهود والمواثيق التي أخذناها عليكم بالعمل بما فيه; كي تتقوا ربكم
فتنجوا من عقابه.


وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى
شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ (172)


واذكر -أيها النبي- إذ استخرج ربك أولاد آدم مِن أصلاب آبائهم, وقررهم
بتوحيده بما أودعه في فطرهم من أنه ربهم وخالقهم ومليكهم, فأقروا له بذلك,
خشية أن ينكروا يوم القيامة, فلا يقروا بشيء فيه, ويزعموا أن حجة الله ما
قامت عليهم, ولا عندهم علم بها, بل كانوا عنها غافلين.


أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا
ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ
(173)


أو لئلا تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبلنا ونقضوا العهد, فاقتدينا بهم من
بعدهم, أفتعذبنا بما فعل الذين أبطلوا أعمالهم بجعلهم مع الله شريكا في
العبادة؟


وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)


وكما فَصَّلْنا الآيات, وبيَّنَّا فيها ما فعلناه بالأمم السابقة, كذلك
نفصِّل الآيات ونبيِّنها لقومك أيها الرسول; رجاء أن يرجعوا عن شركهم,
وينيبوا إلى ربهم.


وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ (175)


واقصص -أيها الرسول- على أمتك خبر رجل من بني إسرائيل أعطيناه حججنا
وأدلتنا, فتعلَّمها, ثم كفر بها, ونبذها وراء ظهره, فاستحوذ عليه الشيطان,
فصار من الضالين الهالكين; بسبب مخالفته أمر ربه وطاعته الشيطان.


وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
(176)


ولو شئنا أن نرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا, ولكنه رَكَنَ إلى
الدنيا واتبع هواه, وآثر لَذَّاته وشهواته على الآخرة, وامتنع عن طاعة
الله وخالف أمره. فَمَثَلُ هذا الرجل مثل ال, إن تطرده أو تتركه يُخْرج
لسانه في الحالين لاهثًا, فكذلك الذي انسلخ من آيات الله يظل على كفره إن
اجتهدْتَ في دعوتك له أو أهملته, هذا الوصف -أيها الرسول- وصف هؤلاء القوم
الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة, فاقصص -أيها الرسول-
أخبار الأمم الماضية, ففي إخبارك بذلك أعظم معجزة, لعل قومك يتدبرون فيما
جئتهم به فيؤمنوا لك.


سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)


قَبُحَ مثلا مثلُ القوم الذين كذَّبوا بحجج الله وأدلته, فجحدوها, وأنفسهم كانوا يظلمونها; بسبب تكذيبهم بهذه الحجج والأدلة.


مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (178)


من يوفقه الله للإيمان به وطاعته فهو الموفَّق, ومن يخذله فلم يوفقه فهو الخاسر الهالك, فالهداية والإضلال من الله وحده


وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ
بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ
الْغَافِلُونَ (179)


ولقد خلقنا للنار -التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة -
كثيرًا من الجن والإنس, لهم قلوب لا يعقلون بها, فلا يرجون ثوابًا ولا
يخافون عقابًا, ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته, ولهم آذان
لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها, هؤلاء كالبهائم التي لا
تَفْقَهُ ما يقال لها, ولا تفهم ما تبصره, ولا تعقل بقلوبها الخير والشر
فتميز بينهما, بل هم أضل منها; لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها وتتبع
راعيها, وهم بخلاف ذلك, أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته.


وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)


ولله سبحانه وتعالى الأسماء الحسنى, الدالة على كمال عظمته, وكل أسمائه
حسن, فاطلبوا منه بأسمائه ما تريدون, واتركوا الذين يُغيِّرون في أسمائه
بالزيادة أو النقصان أو التحريف, كأن يُسمَّى بها من لا يستحقها, كتسمية
المشركين بها آلهتهم, أو أن يجعل لها معنى لم يُردْه الله ولا رسوله, فسوف
يجزون جزاء أعمالهم السيئة التي كانوا يعملونها في الدنيا من الكفر بالله,
والإلحاد في أسمائه وتكذيب رسوله.


وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)


ومن الذين خَلَقْنا جماعة فاضلة يهتدون بالحق ويَدْعون إليه, وبه يقضون
وينصفون الناس, وهم أئمة الهدى ممن أنعم الله عليهم بالإيمان والعمل
الصالح.


وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182)


والذين كذَّبوا بآياتنا, فجحدوها, ولم يتذكروا بها, سنفتح لهم أبواب الرزق
ووجوه المعاش في الدنيا, استدراجًا لهم حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا
أنهم على شيء, ثم نعاقبهم على غِرَّة من حيث لا يعلمون. وهذه عقوبة من
الله على التكذيب بحجج الله وآياته.


وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)


وأمهل هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا حتى يظنوا أنهم لا يعاقبون, فيزدادوا
كفرًا وطغيانًا, وبذلك يتضاعف لهم العذاب. إن كيدي متين, أي: قوي شديد لا
يُدْفع بقوة ولا بحيلة.


أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)


أولم يتفكر هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا فيتدبروا بعقولهم, ويعلموا أنه ليس
بمحمد جنون؟ ما هو إلا نذير لهم من عقاب الله على كفرهم به إن لم يؤمنوا,
ناصح مبين.


أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ
اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)


أولم ينظر هؤلاء المكذبون بآيات الله في ملك الله العظيم وسلطانه القاهر
في السموات والأرض, وما خلق الله -جلَّ ثناؤه- من شيء فيهما, فيتدبروا ذلك
ويعتبروا به, وينظروا في آجالهم التي عست أن تكون قَرُبَتْ فيهلكوا على
كفرهم, ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه؟ فبأي تخويف وتحذير بعد تحذير
القرآن يصدقون ويعملون؟


مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)


مَن يضلله الله عن طريق الرشاد فلا هادي له, ويتركُهم في كفرهم يتحيرون ويترددون.


يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا
عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ
فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً
يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ
اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)


يسألك -أيها الرسول- كفار "مكة" عن الساعة متى قيامها؟ قل لهم: عِلْمُ
قيامها عند الله لا يظهرها إلا هو, ثَقُلَ علمها, وخفي على أهل السموات
والأرض, فلا يعلم وقت قيامها ملَك مقرَّب ولا نبي مرسل, لا تجيء الساعة
إلا فجأة, يسألك هؤلاء القوم عنها كأنك حريص على العلم بها, مستقص بالسؤال
عنها, قل لهم: إنما علمها عند الله الذي يعلم غيب السموات والأرض, ولكنَّ
أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك لا يعلمه إلا الله.


قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ
وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا
مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (188)


قل -أيها الرسول-: لا أقدرُ على جَلْبِ خير لنفسي ولا دفع شر يحل بها إلا
ما شاء الله, ولو كنت أعلم الغيب لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تكثِّر لي
المصالح والمنافع, ولاتَّقيتُ ما يكون من الشر قبل أن يقع, ما أنا إلا
رسول الله أرسلني إليكم, أخوِّف من عقابه, وأبشر بثوابه قومًا يصدقون بأني
رسول الله, ويعملون بشرعه.


هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا
زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً
خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا
لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ (189)


هو الذي خلقكم -أيها الناس- من نفس واحدة, وهي آدم عليه السلام وخَلَق
منها زوجها, وهي حواء; ليأنس بها ويطمئن, فلما جامعها -والمراد جنس
الزوجين من ذرية آدم- حملت ماءً خفيفًا, فقامت به وقعدت وأتمت الحمل, فلما
قَرُبت ولادتها وأثقلت دعا الزوجان ربهما: لئن أعطيتنا بشرًا سويًا صالحًا
لنكونن ممن يشكرك على ما وهبت لنا من الولد الصالح.


فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)


فلما رزق الله الزوجين ولدًا صالحًا, جعلا لله شركاء في ذلك الولد الذي
انفرد الله بخلقه فعبَّداه لغير الله, فتعالى الله وتنزه عن كل شرك.


أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)


أيشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله مخلوقاته, وهي لا تقدر على خَلْق شيء, بل هي مخلوقة؟


وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192)


ولا تستطيع أن تنصر عابديها أو تدفع عن نفسها سوءًا, فإذا كانت لا تخلق
شيئًا, بل هي مخلوقة, ولا تستطيع أن تدفع المكروه عمن يعبدها, ولا عن
نفسها, فكيف تُتَّخذ مع الله آلهة؟ إنْ هذا إلا أظلم الظلم وأسفه السَّفَه.


وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193)


وإن ندعوا -أيها المشركون- هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله إلى
الهدى, لا تسمع دعاءكم ولا تتبعكم; يستوي دعاؤكم لها وسكوتكم عنها; لأنها
لا تسمع ولا تبصر ولا تَهدِي ولا تُهدى.


إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ
فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194)


إن الذين تعبدون من غير الله -أيها المشركون- هم مملوكون لربهم كما أنكم
مملوكون لربكم, فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة
شيئًا فادعوهم فليستجيبوا لكم, فإن استجابوا لكم وحصَّلوا مطلوبكم, وإلا
تبين أنكم كاذبون مفترون على الله أعظم الفرية.


أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا
أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ
بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِ (195)


ألهذه الآلهة والأصنام أرجل يسعَوْن بها معكم في حوائجكم؟ أم لهم أيدٍ
يدفعون بها عنكم وينصرونكم على من يريد بكم شرًا ومكروهًا؟ أم لهم أعين
ينظرون بها فيعرِّفونكم ما عاينوا وأبصروا مما يغيب عنكم فلا ترونه؟ أم
لهم آذان يسمعون بها فيخبرونكم بما لم تسمعوه؟ فإذا كانت آلهتكم التي
تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الآلات, فما وجه عبادتكم إياها, وهي خالية
من هذه الأشياء التي بها يتوصل إلى جلب النفع أو دفع الضر؟ قل -أيها
الرسول- لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان: ادعوا آلهتكم الذين جعلتموهم
لله شركاء في العبادة, ثم اجتمعوا على إيقاع السوء والمكروه بي, فلا
تؤخروني وعجِّلوا بذلك, فإني لا أبالي بآلهتكم; لاعتمادي على حفظ الله وحده


إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)


إن وليِّيَ الله, الذي يتولى حفظي ونصري, هو الذي نزَّل عليَّ القرآن
بالحق, وهو يتولى الصالحين مِن عباده, وينصرهم على أعدائهم ولا يخذلهم.


وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (197)


والذين تدعون -أنتم أيها المشركون- مِن غير الله من الآلهة لا يستطيعون نصركم, ولا يقدرون على نصرة أنفسهم.


وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)


وإن تدعوا -أيها المشركون- آلهتكم إلى الاستقامة والسداد لا يسمعوا
دعاءكم, وترى -أيها الرسول- آلهة هؤلاء المشركين مِن عبدة الأوثان
يقابلونك كالناظر إليك وهم لا يبصرون; لأنهم لا أبصار لهم ولا بصائر.


خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ (199)


اقْبَلْ -أيها النبي أنت وأمتك- الفضل من أخلاق الناس وأعمالهم, ولا تطلب
منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا, وأْمر بكل قول حسن وفِعْلٍ جميل, وأعرض
عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلة الأغبياء.


وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)


وإما يصيبنَّك -أيها النبي- من الشيطان غضب أو تُحِس منه بوسوسة وتثبيط عن
الخير أو حث على الشرِّ, فالجأ إلى الله مستعيذًا به, إنه سميع لكل قول,
عليم بكل فعل.


إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)


إن الذين اتقوا الله مِن خلقه, فخافوا عقابه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه,
إذا أصابهم عارض من وسوسة الشيطان تذكَّروا ما أوجب الله عليهم من طاعته,
والتوبة إليه, فإذا هم منتهون عن معصية الله على بصيرة, آخذون بأمر الله,
عاصون للشيطان.


وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)


وإخوان الشياطين, وهم الفجَّار من ضلال الإنس تمدهم الشياطين من الجن في
الضلالة والغَواية, ولا تدَّخر شياطين الجن وُسْعًا في مدِّهم شياطين
الإنس في الغيِّ, ولا تدَّخر شياطين الإنس وُسْعًا في عمل ما توحي به
شياطين الجن.


وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ
إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ
رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)


وإذا لم تجئ -أيها الرسول- هؤلاء المشركين بآية قالوا: هلا أحدَثْتها
واختلقتها من عند نفسك, قل لهم -أيها الرسول- : إن هذا ليس لي, ولا يجوز
لي فِعْله; لأن الله إنما أمرني باتباع ما يوحى إليَّ من عنده, وهو هذا
القرآن الذي أتلوه عليكم حججًا وبراهين من ربكم, وبيانًا يهدي المؤمنين
إلى الطريق المستقيم, ورحمة يرحم الله بها عباده المؤمنين.


وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)


وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له أيها الناس وأنصتوا, لتعقلوه رجاء أن يرحمكم الله به.


وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ
مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ
(205)


واذكر -أيها الرسول- ربك في نفسك تخشعًا وتواضعًا لله خائفًا وجل القلب
منه، وادعه متوسطًا بين الجهر والمخافتة في أول النهار وآخره, ولا تكن من
الذين يَغْفُلون عن ذكر الله, ويلهون عنه في سائر أوقاتهم.


إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ۩(206)


إن الذين عند ربك من الملائكة لا يستكبرون عن عبادة الله, بل ينقادون
لأوامره, ويسبحونه بالليل والنهار, وينزهونه عما لا يليق به, وله وحده لا
شريك له يسجدون.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:08 pm

سورة الأنفال


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
يسألك أصحابك -أيها النبي- عن الغنائم يوم "بدر" كيف تقسمها بينهم؟ قل
لهم: إنَّ أمرها إلى الله ورسوله, فالرسول يتولى قسمتها بأمر ربه, فاتقوا
عقاب الله ولا تُقَدموا على معصيته, واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه
الأموال, وأصلحوا الحال بينكم, والتزموا طاعة الله ورسوله إن كنتم مؤمنين;
فإن الإيمان يدعو إلى طاعة الله ورسوله.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
إنما المؤمنون بالله حقًا هم الذين إذا ذُكِر الله فزعت قلوبهم, وإذا تليت
عليهم آيات القرآن زادتهم إيمانًا مع إيمانهم, لتدبرهم لمعانيه وعلى الله
تعالى يتوكلون, فلا يرجون غيره, ولا يرهبون سواه.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)
الذين يداومون على أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها, ومما رزقناهم من الأموال ينفقون فيما أمرناهم به.
أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال هم المؤمنون حقًا ظاهرًا وباطنًا بما أنزل
الله عليهم, لهم منازل عالية عند الله, وعفو عن ذنوبهم, ورزق كريم, وهو
الجنة.
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
كما أنكم لما اختلفتم في المغانم فانتزعها الله منكم, وجعلها إلى قَسْمه
وقَسْم رسوله صلى الله عليه وسلم, كذلك أمرك ربك -أيها النبي- بالخروج من
"المدينة" للقاء عِيْر قريش, وذلك بالوحي الذي أتاك به جبريل مع كراهة
فريق من المؤمنين للخروج.
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6)
يجادلك -أيها النبي- فريق من المؤمنين في القتال مِن بعد ما تبيَّن لهم أن
ذلك واقع, كأنهم يساقون إلى الموت, وهم ينظرون إليه عِيانًا.
وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الْكَافِرِينَ (7)
واذكروا -أيها المجادلون- وَعْدَ الله لكم بالظَّفْر بإحدى الطائفتين:
العير وما تحمله مِن أرزاق, أو النفير, وهو قتال الأعداء والانتصار عليهم,
وأنتم تحبون الظَّفْر بالعير دون القتال, ويريد الله أن يحق الإسلام,
ويُعْليه بأمره إياكم بقتال الكفار, ويستأصل الكافرين بالهلاك.
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (Cool
ليعزَّ الله الإسلام وأهله, ويذهب الشرك وأهله, ولو كره المشركون ذلك.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
اذكروا نعمة الله عليكم يوم "بدر" إذ تطلبون النصر على عدوكم, فاستجاب
الله لدعائكم قائلا إني ممدُّكم بألف من الملائكة من السماء, يتبع بعضهم
بعضًا.
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ
وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (10)
وما جعل الله ذلك الإمداد إلا بشارة لكم بالنصر, ولتسكن به قلوبكم,
وتوقنوا بنصر الله لكم, وما النصر إلا من عند الله, لا بشدة بأسكم وقواكم.
إن الله عزيز في ملكه, حكيم في تدبيره وشرعه.
إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ
مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ
الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ
الأَقْدَامَ (11)
إذ يُلْقي الله عليكم النعاس أمانًا منه لكم من خوف عدوكم أن يغلبكم,
وينزل عليكم من السحاب ماء طهورًا, ليطهركم به من الأحداث الظاهرة, ويزيل
عنكم في الباطن وساوس الشيطان وخواطره, وليشدَّ على قلوبكم بالصبر عند
القتال, ويثبت به أقدام المؤمنين بتلبيد الأرض الرملية بالمطر حتى لا
تنزلق فيها الأقدام.
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا
الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
إذ يوحي ربك -أيها النبي- إلى الملائكة الذين أمدَّ الله بهم المسلمين في
غزوة "بدر" أني معكم أُعينكم وأنصركم, فقوُّوا عزائم الذين آمنوا, سألقي
في قلوب الذين كفروا الخوف الشديد والذلة والصَّغَار, فاضربوا -أيها
المؤمنون- رؤوس الكفار, واضربوا منهم كل طرف ومِفْصل.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
ذلك الذي حدث للكفار من ضَرْب رؤوسهم وأعناقهم وأطرافهم; بسبب مخالفتهم
لأمر الله ورسوله, ومَن يخالف أمر الله ورسوله, فإن الله شديد العقاب له
في الدنيا والآخرة.
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
ذلكم العذاب الذي عجَّلته لكم -أيها الكافرون المخالفون لأوامر الله
ورسوله في الدنيا- فذوقوه في الحياة الدنيا, ولكم في الآخرة عذاب النار.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ (15)
يا أيها الذين صَدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا قابلتم الذين كفروا
في القتال متقاربين منكم فلا تُوَلُّوهم ظهوركم, فتنهزموا عنهم, ولكن
اثبتوا لهم, فإن الله معكم وناصركم عليهم.
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ
أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
ومن يُوَلِّهم منكم ظهره وقت الزحف إلا منعطفًا لمكيدة الكفار أو منحازًا
إلى جماعة المسلمين حاضري الحرب حيث كانوا, فقد استحق الغضب من الله,
ومقامه جهنم, وبئس المصير والمنقلب.
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ
بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
فلم تقتلوا -أيها المؤمنون- المشركين يوم "بدر", ولكن الله قتلهم, حيث
أعانكم على ذلك, وما رميت حين رميت -أيها النبي- ولكن الله رمى, حيث أوصل
الرمية التي رميتها إلى وجوه المشركين; وليختبر المؤمنين بالله ورسوله
ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات, ويعرِّفهم نعمته عليهم, فيشكروا له
سبحانه على ذلك. إن الله سميع لدعائكم وأقوالكم ما أسررتم به وما أعلنتم,
عليم بما فيه صلاح عباده.
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
هذا الفعل مِن قتل المشركين ورميهم حين انهزموا, والبلاء الحسن بنصر
المؤمنين على أعدائهم, هو من الله للمؤمنين, وأن الله -فيما يُسْتقبل-
مُضعِف ومُبطِل مكر الكافرين حتى يَذِلُّوا وينقادوا للحق أو يهلكوا.
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ
فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
(19)
إن تطلبوا -أيها الكفار- من الله أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين
الظالمين فقد أجاب الله طلبكم, حين أوقع بكم مِن عقابه ما كان نكالا لكم
وعبرة للمتقين, فإن تنتهوا -أيها الكفار- عن الكفر بالله ورسوله وقتال
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فهو خير لكم في دنياكم وأخراكم, وإن تعودوا
إلى الحرب وقتال محمد صلى الله عليه وسلم وقتال أتباعه المؤمنين نَعُدْ
بهزيمتكم كما هُزمتم يوم "بدر", ولن تغني عنكم جماعتكم شيئًا, كما لم تغن
عنكم يوم "بدر" مع كثرة عددكم وعتادكم وقلة عدد المؤمنين وعدتهم, وأن الله
مع المؤمنين بتأييده ونصره.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله أطيعوا الله ورسوله فيما أمركم به
ونهاكم عنه, ولا تتركوا طاعة الله وطاعة رسوله, وأنتم تسمعون ما يتلى
عليكم في القرآن من الحجج والبراهين.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21)
ولا تكونوا أيها المؤمنون في مخالفة الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم
كالمشركين والمنافقين الذين إذا سمعوا كتاب الله يتلى عليهم قالوا: سمعنا
بآذاننا, وهم في الحقيقة لا يتدبرون ما سمعوا, ولا يفكرون فيه.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22)
إنَّ شر ما دبَّ على الأرض -مِنْ خَلْق الله- عند الله الصمُّ الذين
انسدَّت آذانهم عن سماع الحق فلا يسمعون, البكم الذين خرست ألسنتهم عن
النطق به فلا ينطقون, هؤلاء هم الذين لا يعقلون عن الله أمره ونهيه.
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
ولو علم الله في هؤلاء خيرًا لأسمعهم مواعظ القرآن وعبره حتى يعقلوا عن
الله عز وجل حججه وبراهينه, ولكنه علم أنه لا خير فيهم وأنهم لا يؤمنون,
ولو أسمعهم -على الفرض والتقدير- لتولَّوا عن الإيمان قصدًا وعنادًا بعد
فهمهم له, وهم معرضون عنه, لا التفات لهم إلى الحق بوجه من الوجوه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
يا أيها الذين صدِّقوا بالله ربًا وبمحمد نبيًا ورسولا استجيبوا لله
وللرسول بالطاعة إذا دعاكم لما يحييكم من الحق, ففي الاستجابة إصلاح
حياتكم في الدنيا والآخرة, واعلموا -أيها المؤمنون- أن الله تعالى هو
المتصرف في جميع الأشياء, والقادر على أن يحول بين الإنسان وما يشتهيه
قلبه, فهو سبحانه الذي ينبغي أن يستجاب له إذا دعاكم; إذ بيده ملكوت كل
شيء, واعلموا أنكم تُجمعون ليوم لا ريب فيه, فيجازي كلا بما يستحق.
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
واحذروا -أيها المؤمنون- اختبارًا ومحنة يُعَمُّ بها المسيء وغيره لا
يُخَص بها أهل المعاعي ولا مَن باشر الذنب, بل تصيب الصالحين معهم إذا
قدروا على إنكار الظلم ولم ينكروه, واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف
أمره ونهيه
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ
تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ
بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
واذكروا أيها المؤمنون نِعَم الله عليكم إذ أنتم ب"مكة" قليلو العدد
مقهورون, تخافون أن يأخذكم الكفار بسرعة, فجعل لكم مأوى تأوون إليه وهو
"المدينة", وقوَّاكم بنصره عليهم يوم "بدر", وأطعمكم من الطيبات -التي من
جملتها الغنائم-; لكي تشكروا له على ما رزقكم وأنعم به عليكم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تخونوا الله ورسوله
بترك ما أوجبه الله عليكم وفِعْل ما نهاكم عنه, ولا تفرطوا فيما ائتمنكم
الله عليه, وأنتم تعلمون أنه أمانة يجب الوفاء بها.
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
واعلموا -أيها المؤمنون- أن أموالكم التي استخلفكم الله فيها, وأولادكم
الذين وهبهم الله لكم اختبار من الله وابتلاء لعباده; ليعلم أيشكرونه
عليها ويطيعونه فيها, أو ينشغلون بها عنه؟ واعلموا أن الله عنده خير وثواب
عظيم لمن اتقاه وأطاعه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إن تتقوا الله بفعل
أوامره واجتناب نواهيه يجعل لكم فصلا بين الحق والباطل, ويَمحُ عنكم ما
سلف من ذنوبكم ويسترها عليكم, فلا يؤاخذكم بها. والله ذو الفضل العظيم.
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ
أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ (30)
واذكر -أيها الرسول- حين يكيد لك مشركو قومك ب"مكَّة"; ليحبسوك أو يقتلوك
أو ينفوك من بلدك. ويكيدون لك, وردَّ الله مكرهم عليهم جزاء لهم, ويمكر
الله, والله خير الماكرين.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ
نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ
الأَوَّلِينَ (31)
وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا بالله آيات القرآن العزيز قالوا جهلا
منهم وعنادًا للحق: قد سمعنا هذا من قبل, لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن,
ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا -يا محمد- إلا أكاذيب الأولين.
قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ (32)
واذكر -أيها الرسول- قول المشركين من قومك داعين الله: إن كان ما جاء به
محمد هو الحق مِن عندك فأمطر علينا حجارة من السماء, أو ائتنا بعذاب شديد
موجع.
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
وما كان الله سبحانه وتعالى ليعذِّب هؤلاء المشركين, وأنت -أيها الرسول-
بين ظهرانَيْهم, وما كان الله معذِّبهم, وهم يستغفرون من ذنوبهم
وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ
إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)
وكيف لا يستحقُّون عذاب الله, وهم يصدون أولياءه المؤمنين عن الطواف
بالكعبة والصلاة في المسجد الحرام؟ وما كانوا أولياء الله, إنْ أولياء
الله إلا الذين يتقونه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, ولكن أكثر الكفار لا
يعلمون; فلذلك ادَّعوا لأنفسهم أمرًا, غيرهم أولى به.
وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
وما كان صلاتهم عند المسجد الحرام إلا صفيرًا وتصفيقًا. فذوقوا عذاب القتل
والأسر يوم "بدر" ; بسبب جحودكم وأفعالكم التي لا يُقْدم عليها إلا
الكفرة, الجاحدون توحيد ربهم ورسالة نبيهم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
إن الذين جحدوا وحدانية الله وعصوا رسوله ينفقون أموالهم فيعطونها أمثالهم
من المشركين وأهل الضلال, ليصدوا عن سبيل الله ويمنعوا المؤمنين عن
الإيمان بالله ورسوله, فينفقون أموالهم في ذلك, ثم تكون عاقبة نفقتهم تلك
ندامة وحسرة عليهم; لأن أموالهم تذهب, ولا يظفرون بما يأمُلون مِن إطفاء
نور الله والصد عن سبيله, ثم يهزمهم المؤمنون آخر الأمر. والذين كفروا إلى
جهنم يحشرون فيعذبون فيها.
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ
بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ
أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (37)
يحشر الله ويخزي هؤلاء الذين كفروا بربهم, وأنفقوا أموالهم لمنع الناس عن
الإيمان بالله والصد عن سبيله; ليميز الله تعالى الخبيث من الطيب, ويجعل
الله المال الحرام الذي أُنفق للصدِّ عن دين الله بعضه فوق بعض متراكمًا
متراكبًا, فيجعله في نار جهنم, هؤلاء الكفار هم الخاسرون في الدنيا
والآخرة.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38)
قل -أيها الرسول- للذين جحدوا وحدانية الله مِن مشركي قومك: إن ينزجروا عن
الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم, ويرجعوا إلى الإيمان بالله وحده
وعدم قتال الرسول والمؤمنين, يغفر الله لهم ما سبق من الذنوب, فالإسلام
يجُبُّ ما قبله. وإن يَعُدْ هؤلاء المشركون لقتالك -أيها الرسول- بعد
الوقعة التي أوقعتها بهم يوم "بدر" فقد سبقت طريقة الأولين, وهي أنهم إذا
كذبوا واستمروا على عنادهم أننا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة.
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ
لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
وقاتلوا -أيها المؤمنون- المشركين حتى لا يكون شِرْكٌ وصدٌّ عن سبيل الله;
ولا يُعْبَدَ إلا الله وحده لا شريك له, فيرتفع البلاء عن عباد الله في
الأرض, وحتى يكون الدين والطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره, فإن
انزجروا عن قتنة المؤمنين وعن الشرك بالله وصاروا إلى الدين الحق معكم,
فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون مِن ترك الكفر والدخول في الإسلام.
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
وإن أعرض هؤلاء المشركون عمَّا دعوتموهم إليه -أيها المؤمنون- من الإيمان
بالله ورسوله وترك قتالكم, وأبَوْا إلا الإصرار على الكفر وقتالكم,
فأيقِنوا أن الله معينكم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:08 pm

سورة التوبة الآيات ( 129:64)

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ
تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ
مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
يخاف المنافقون أن تنزل في شأنهم سورة تخبرهم بما يضمرونه في قلوبهم من
الكفر, قل لهم -أيها النبي-: استمروا على ما أنتم عليه من الاستهزاء
والسخرية, إن الله مخرج حقيقة ما تحذرون.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
ولئن سألتهم -أيها النبي- عما قالوا من القَدْح في حقك وحق أصحابك
لَيَقولُنَّ: إنما كنا نتحدث بكلام لا قصد لنا به, قل لهم -أيها النبي-:
أبالله عز وجل وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ
طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ
(66)
لا تعتذروا -معشر المنافقين- فلا جدوى مِن اعتذاركم, قد كفرتم بهذا المقال
الذي استهزأتم به, إن نعف عن جماعة منكم طلبت العفو وأخلصت في توبتها,
نعذب جماعة أخرى بسبب إجرامهم بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة.
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ
(67)
المنافقون والمنافقات صنف واحد في إعلانهم الإيمان واستبطانهم الكفر,
يأمرون بالكفر بالله ومعصية رسوله وينهون عن الإيمان والطاعة, ويمسكون
أيديهم عن النفقة في سبيل الله, نسوا الله فلا يذكرونه, فنسيهم من رحمته,
فلم يوفقهم إلى خير. إن المنافقين هم الخارجون عن الإيمان بالله ورسوله.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار بأن مصيرهم إلى نار جهنم خالدين
فيها أبدًا, هي كافيتهم; عقابًا على كفرهم بالله, وطردهم الله مِن رحمته,
ولهم عذاب دائم
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ
أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (69)
إن أفعالكم -معشر المنافقين- من الاستهزاء والكفر كأفعال الأمم السابقة
التي كانت على جانب من القوة والمال والأولاد أشد منكم, فاطْمَأنوا إلى
الحياة الدنيا, وتَمتَّعوا بما فيها من الحظوظ والملذات, فاستمعتم أيها
المنافقون بنصيبكم من الشهوات الفانية كاست الذين من قبلكم بحظوظهم
الفانية, وخضتم بالكذب على الله كخوض تلك الأمم قبلكم, أولئك الموصوفون
بهذه الأخلاق هم الذين ذهبت حسناتهم في الدنيا والآخرة, وأولئك هم
الخاسرون ببيعهم نعيم الآخرة بحظوظهم من الدنيا.
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ
أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ
وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
ألم يأت هؤلاء المنافقين خبرُ الذين مضوا مِن قوم نوح وقبيلة عاد وقبيلة
ثمود وقوم إبراهيم وأصحاب (مدين) وقوم لوط عندما جاءهم المرسلون بالوحي
وبآيات الله فكذَّبوهم؟ فأنزل الله بهؤلاء جميعًا عذابه; انتقامًا منهم
لسوء عملهم, فما كان الله ليظلمهم, ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم
بالتكذيب والمخالفة.
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
والمؤمنون والمؤمنات بالله ورسوله بعضهم أنصار بعض, يأمرون الناس بالإيمان
والعمل الصالح, وينهونهم عن الكفر والمعاصي, ويؤدون الصلاة, ويعطون
الزكاة, ويطيعون الله ورسوله, وينتهون عما نُهوا عنه, أولئك سيرحمهم الله
فينقذهم من عذابه ويدخلهم جنته. إن الله عزيز في ملكه, حكيم في تشريعاته
وأحكامه.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي
جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (72)
وعد الله المؤمنين والمؤمنات بالله ورسوله جنات تجري من تحتها الأنهار
ماكثين فيها أبدًا, لا يزول عنهم نعيمها, ومساكن حسنة البناء طيبة القرار
في جنات إقامة, ورضوان من الله أكبر وأعظم مما هم فيه من النعيم. ذلك
الوعد بثواب الآخرة هو الفلاح العظيم.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
يا أيها النبي جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان والحجة, واشدد على كلا الفريقين, ومقرُّهم جهنم, وبئس المصير مصيرهم.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ
وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا
نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ
فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا
يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
يحلف المنافقون بالله أنهم ما قالوا شيئًا يسيء إلى الرسول وإلى المسلمين,
إنهم لكاذبون; فلقد قالوا كلمة الكفر وارتدوا بها عن الإسلام وحاولوا
الإضرار برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم, فلم يمكنهم الله من ذلك, وما
وجد المنافقون شيئًا يعيبونه, وينتقدونه, إلا أن الله -تعالى- تفضل عليهم,
فأغناهم بما فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة, فإن يرجع
هؤلاء الكفار إلى الإيمان والتوبة فهو خير لهم, وإن يعرضوا, أو يستمروا
على حالهم, يعذبهم الله العذاب الموجع في الدنيا على أيدي المؤمنين, وفي
الآخرة بنار جهنم, وليس لهم منقذ ينقذهم ولا ناصر يدفع عنهم سوء العذاب.
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ (75)
ومن فقراء المنافقين مَن يقطع العهد على نفسه: لئن أعطاه الله المال
ليصدَّقنَّ منه, وليعمَلنَّ ما يعمل الصالحون في أموالهم, وليسيرَنَّ في
طريق الصلاح.
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
فلما أعطاهم الله من فضله بخلوا بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير, وتولَّوا وهم معرضون عن الإسلام.
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا
أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
فكان جزاء صنيعهم وعاقبتهم أَنْ زادهم نفاقًا على نفاقهم, لا يستطيعون
التخلص منه إلى يوم الحساب; وذلك بسبب إخلافهم الوعد الذي قطعوه على
أنفسهم, وبسبب نفاقهم وكذبهم.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم ما يخفونه في أنفسهم وما يتحدثون
به في مجالسهم من الكيد والمكر, وأن الله علام الغيوب؟ فسيجازيهم على
أعمالهم التي أحصاها عليهم.
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي
الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ
مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
ومع بخل المنافغين لا يَسْلَم المتصدقون من أذاهم; فإذا تصدق الأغنياء
بالمال الكثير عابوهم واتهموهم بالرياء, وإذا تصدق الفقراء بما في طاقتهم
استهزؤوا بهم, وقالوا سخرية منهم: ماذا تجدي صدقتهم هذه؟ سخر الله من
هؤلاء المنافقين, ولهم عذاب مؤلم موجع.
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ (80)
استغفر -أيها الرسول- للمنافقين أو لا تستغفر لهم, فلن يغفر الله لهم,
مهما كثر استغفارك لهم وتكرر; لأنهم كفروا بالله ورسوله. والله سبحانه
وتعالى لا يوفق للهدى الخارجين عن طاعته.
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا
أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً
لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
فرح المخلفون الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقعودهم في
(المدينة) مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وكرهوا أن يجاهدوا معه
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله, وقال بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحرِّ,
وكانت غزوة (تبوك) في وقت شدة الحرِّ. قل لهم -أيها الرسول-: نار جهنم أشد
حرًا, لو كانوا يعلمون ذلك.
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
فليضحك هؤلاء المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة (تبوك) قليلا
في حياتهم الدنيا الفانية, وليبكوا كثيرًا في نار جهنم; جزاءً بما كانوا
يكسبون في الدنيا من النفاق والكفر.
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ
لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا
مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
فإنْ رَدَّك الله -أيها الرسول- مِن غزوتك إلى جماعة من المنافقين
الثابتين على النفاق, فاستأذنوك للخروج معك إلى غزوة أخرى بعد غزوة (تبوك)
فقل لهم: لن تخرجوا معي أبدًا في غزوة من الغزوات, ولن تقاتلوا معي عدوًا
من الأعداء; إنكم رضيتم بالقعود أول مرة, فاقعدوا مع الذين تخلفوا عن
الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى
قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ
فَاسِقُونَ (84)
ولا تصلِّ -أيها الرسول- أبدًا على أحد مات من المنافقين, ولا تقم على
قبره لتدعو له; لأنهم كفروا بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم
وماتوا وهم فاسقون. وهذا حكم عام في كل من عُلِمَ نفاقه.
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ
كَافِرُونَ (85)
ولا تعجبك -أيها الرسول- أموال هؤلاء المنافقين وأولادهم, إنما يريد الله
أن يعذبهم بها في الدنيا بمكابدتهم الشدائد في شأنها, وبموتهم على كفرهم
بالله ورسوله.
وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ
رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا
نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
وإذا أنزلت سورة على محمد صلى الله عليه ولم تأمر بالإيمان بالله والإخلاص
له والجهاد مع رسول الله, طلب الإذن منك -أيها الرسول- أولو اليسار من
المنافقين, وقالوا: اتركنا مع القاعدين العاجزين عن الخروج.
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87)
رضي هؤلاء المنافقون لأنفسهم بالعار, وهو أن يقعدوا في البيوت مع النساء
والصبيان وأصحاب الأعذار, وختم الله على قلوبهم; بسبب نفاقهم وتخلفهم عن
الجهاد والخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله, فهم لا
يفقهون ما فيه صلاحهم ورشادهم.
لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْمُفْلِحُونَ (88)
إنْ تخلَّف هؤلاء المنافقون عن الغزو, فقد جاهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم والمؤمنون معه بأموالهم وأنفسهم, وأولئك لهم النصر والغنيمة في
الدنيا, والجنة والكرامة في الآخرة, وأولئك هم الفائزون.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
أعدَّ الله لهم يوم القيامة جنات تجري مِن تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدًا. وذلك هو الفلاح العظيم.
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ
الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
وجاء جماعة من أحياء العرب حول (المدينة) يعتذرون إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم, ويبينون له ما هم فيه من الضعف وعدم القدرة على الخروج للغزو,
وقعد قوم بغير عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. سيصيب
الذين كفروا من هؤلاء عذاب أليم في الدنيا بالقتل وغيره, وفي الآخرة
بالنار.
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا
يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
ليس على أهل الأعذار مِن الضعفاء والمرضى والفقراء الذين لا يملكون من
المال ما يتجهزون به للخروج إثم في القعود إذا أخلصوا لله ورسوله, وعملوا
بشرعه, ما على مَن أحسن ممن منعه العذر عن الجهاد مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم, وهو ناصح لله ولرسوله من طريق يعاقب مِن قِبَلِه ويؤاخذ عليه.
والله غفور للمحسنين, رحيم بهم.
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ
مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ
الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92)
وكذلك لا إثم على الذين إذا ما جاؤوك يطلبون أن تعينهم بحملهم إلى الجهاد
قلت لهم: لا أجد ما أحملكم عليه من الدوابِّ, فانصرفوا عنك, وقد فاضت
أعينهم دَمعًا أسفًا على ما فاتهم من شرف الجهاد وثوابه; لأنهم لم يجدوا
ما ينفقون, وما يحملهم لو خرجوا للجهاد في سبيل الله.
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ
أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)
إنما الإثم واللوم على الأغنياء الذين جاءوك -أيها الرسول- يطلبون الإذن
بالتخلف, وهم المنافقون الأغنياء اختاروا لأنفسهم القعود مع النساء وأهل
الأعذار, وختم الله على قلوبهم بالنفاق, فلا يدخلها إيمان, فهم لا يعلمون
سوء عاقبتهم بتخلفهم عنك وتركهم الجهاد معك.
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا
تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ
أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ
إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ (94)
يعتذر إليكم -أيها المؤمنون- هؤلاء المتخلفون عن جهاد المشركين بالأكاذيب
عندما تعودون مِن جهادكم من غزوة (تبوك), قل لهم -أيها الرسول-: لا
تعتذروا لن نصدقكم فيما تقولون, قد نبأنا الله من أمركم ما حقق لدينا
كذبكم, وسيرى الله عملكم ورسوله, إن كنتم تتوبون من نفاقكم, أو تقيمون
عليه, وسيُظهر للناس أعمالكم في الدنيا, ثم ترجعون بعد مماتكم إلى الذي لا
تخفى عليه بواطن أموركم وظواهرها, فيخبركم بأعمالكم كلها, ويجازيكم عليها.
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ
لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
سيحلف لكم المنافقون بالله -كاذبين معتذرين- إذا رجعتم إليهم من الغزو;
لتتركوهم دون مساءلة, فاجتنبوهم وأعرضوا عنهم احتقارًا لهم, إنهم خبثاء
البواطن, ومكانهم الذي يأوون إليه في الآخرة نار جهنم; جزاء بما كانوا
يكسبون من الآثام والخطايا.
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
يحلف لكم -أيها المؤمنون- هؤلاء المنافقون كذبًا; لتَرضَوا عنهم, فإن
رضيتم عنهم -لأنكم لا تعلمون كذبهم- فإن الله لا يرضى عن هؤلاء وغيرهم ممن
استمروا على الفسوق والخروج عن طاعة الله ورسوله.
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا
حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(97)
الأعراب سكان البادية أشد كفرًا ونفاقًا من أهل الحاضرة, وذلك لجفائهم
وقسوة قلوبهم وبُعدهم عن العلم والعلماء, ومجالس الوعظ والذكر, فهم لذلك
أحق بأن لا يعلموا حدود الدين, وما أنزل الله من الشرائع والأحكام. والله
عليم بحال هؤلاء جميعًا, حكيم في تدبيره لأمور عباده.
وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ
بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (98)
ومن الأعراب مَن يحتسب ما ينفق في سبيل الله غرامة وخسارة لا يرجو له
ثوابًا, ولا يدفع عن نفسه عقابًا, وينتظر بكم الحوادث والآفات, ولكن السوء
دائر عليهم لا بالمسلمين. والله سميع لما يقولون عليم بنياتهم الفاسدة.
وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ
أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
ومن الأعراب مَن يؤمن بالله ويقرُّ بوحدانيته وبالبعث بعد الموت, والثواب
والعقاب, ويحتسب ما ينفق من نفقة في جهاد المشركين قاصدًا بها رضا الله
ومحبته, ويجعلها وسيلة إلى دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له, ألا إن هذه
الأعمال تقربهم إلى الله تعالى, سيدخلهم الله في جنته. إن الله غفور لما
فعلوا من السيئات, رحيم بهم.
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
والذين سبقوا الناس أولا إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين
هجروا قومهم وعشيرتهم وانتقلوا إلى دار الإسلام, والأنصار الذين نصروا
رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه الكفار, والذين اتبعوهم بإحسان
في الاعتقاد والأقوال والأعمال طلبًا لمرضاة الله سبحانه وتعالى, أولئك
الذين رضي الله عنهم لطاعتهم الله ورسوله, ورضوا عنه لما أجزل لهم من
الثواب على طاعتهم وإيمانهم, وأعدَّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين
فيها أبدًا, ذلك هو الفلاح العظيم. وفي هذه الآية تزكية للصحابة -رضي الله
عنهم- وتعديل لهم, وثناء عليهم; ولهذا فإن توقيرهم من أصول الإيمان.
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ
عَظِيمٍ (101)
ومن القوم الذين حول (المدينة) أعراب منافقون, ومن أهل (المدينة) منافقون
أقاموا على النفاق, وازدادوا فيه طغيانًا, بحيث يخفى عليك -أيها الرسول-
أمرهم, نحن نعلمهم, سنعذبهم مرتين: بالقتل والسبي والفضيحة في الدنيا,
وبعذاب القبر بعد الموت, ثم يُرَدُّون يوم القيامة إلى عذاب عظيم في نار
جهنم.
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ
سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (102)
وآخرون من أهل (المدينة) وممن حولها, اعترفوا بذنوبهم وندموا عليها وتابوا
منها, خلطوا العمل الصالح -وهو التوبة والندم والاعتراف بالذنب وغير ذلك
من الأعمال الصالحة- بآخر سيِّئ- وهو التخلف عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وغيره من الأعمال السيئة -عسى الله أن يوفقهم للتوبة ويقبلها منهم.
إن الله غفور لعباده, رحيم بهم.
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (103)
خذ -أيها النبي- من أموال هؤلاء التائبين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر
سيئا صدقة تطهرهم مِن دنس ذنوبهم, وترفعهم عن منازل المنافقين إلى منازل
المخلصين, وادع لهم بالمغفرة لذنوبهم واستغفر لهم منها, إن دعاءك
واستغفارك رحمة وطمأنينة لهم. والله سميع لكل دعاء وقول, عليم بأحوال
العباد ونياتهم, وسيجازي كلَّ عامل بعمله.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (104)
ألم يعلم هؤلاء المتخلفون عن الجهاد وغيرهم أن الله وحده هو الذي يقبل
توبة عباده, ويأخذ الصدقات ويثيب عليها, وأن الله هو التواب لعباده إذا
رجعوا إلى طاعته, الرحيم بهم إذا أنابوا إلى رضاه؟
وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
وقل -أيها النبي- لهؤلاء المتخلِّفين عن الجهاد: اعملوا لله بما يرضيه من
طاعته، وأداء فرائضه، واجتناب المعاصي, فسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون, وسيتبين أمركم, وسترجعون يوم القيامة إلى مَن يعلم سركم
وجهركم, فيخبركم بما كنتم تعملون. وفي هذا تهديد ووعيد لمن استمر على
باطله وطغيانه.
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
ومن هؤلاء المتخلفين عنكم -أيها المؤمنون- في غزوة (تبوك) آخرون مؤخرون;
ليقضي الله فيهم ما هو قاض. وهؤلاء هم الذين ندموا على ما فعلوا, وهم:
مُرارة بن الربيع, وكعب بن مالك, وهلال بن أُميَّة, إما يعذبهم الله, وإما
يعفو عنهم. والله عليم بمن يستحق العقوبة أو العفو, حكيم في كل أقواله
وأفعاله.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ
قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
والمنافقون الذين بنوا مسجدًا; مضارة للمؤمنين وكفرًا بالله وتفريقًا بين
المؤمنين, ليصلي فيه بعضهم ويترك مسجد (قباء) الذي يصلي فيه المسلمون,
فيختلف المسلمون ويتفرقوا بسبب ذلك, وانتظارا لمن حارب الله ورسوله من قبل
-وهو أبو عامر الراهب الفاسق- ليكون مكانًا للكيد للمسلمين, وليحلفنَّ
هؤلاء المنافقون أنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخير والرفق بالمسلمين
والتوسعة على الضعفاء العاجزين عن السير إلى مسجد (قباء), والله يشهد إنهم
لكاذبون فيما يحلفون عليه. وقد هُدِم المسجد وأُحرِق.
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ
أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
لا تقم -أيها النبي- للصلاة في ذلك المسجد أبدًا; فإن المسجد الذي أُسِّسَ
على التقوى من أول يوم -وهو مسجد (قباء)- أولى أن تقوم فيه للصلاة, ففي
هذا المسجد رجال يحبون أن يتطهروا بالماء من النجاسات والأقذار, كما
يتطهرون بالتورع والاستغفار من الذنوب والمعاصي. والله يحب المتطهرين.
وإذا كان مسجد (قباء) قد أُسِّسَ على التقوى من أول يوم, فمسجد رسول الله,
صلى الله عليه وسلم, كذلك بطريق الأولى والأحرى.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ
خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ
فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (109)
لا يستوي مَن أسَّس بنيانه على تقوى الله وطاعته ومرضاته, ومن أسَّس
بنيانه على طرف حفرة متداعية للسقوط, فبنى مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا
بين المسلمين, فأدَّى به ذلك إلى السقوط في نار جهنم. والله لا يهدي القوم
الظالمين المتجاوزين حدوده.
لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ
أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
لا يزال بنيان المنافقين الذي بنوه مضارَّة لمسجد (قباء) شكًا ونفاقًا
ماكثًا في قلوبهم, إلى أن تتقطع قلوبهم بقتلهم أو موتهم, أو بندمهم غاية
الندم, وتوبتهم إلى ربهم, وخوفهم منه غاية الخوف. والله عليم بما عليه
هؤلاء المنافقون من الشك وما قصدوا في بنائهم, حكيم في تدبير أمور خلقه.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم في مقابل ذلك الجنة, وما أعد
الله فيها من النعيم لبذلهم نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه لإعلاء كلمته
وإظهار دينه, فيَقْتلون ويُقتَلون, وعدًا عليه حقًا في التوراة المنزلة
على موسى عليه السلام, والإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام, والقرآن
المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. ولا أحد أوفى بعهده من الله لمن
وفَّى بما عاهد الله عليه, فأظهِروا السرور-أيها المؤمنون- ببيعكم الذي
بايعتم الله به, وبما وعدكم به من الجنة والرضوان, وذلك البيع هو الفلاح
العظيم.
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ
وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (112)
ومن صفات هؤلاء المؤمنين الذين لهم البشارة بدخول الجنة أنهم التائبون
الراجعون عما كرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه, الذين أخلصوا العبادة لله
وحده وجدوا في طاعته, الذين يحمدون الله على كل ما امتحنهم به من خير أو
شر, الصائمون, الراكعون في صلاتهم, الساجدون فيها, الذين يأمرون الناس بكل
ما أمر الله ورسوله به, وينهونهم عن كل ما نهى الله عنه ورسوله, المؤدون
فرائض الله المنتهون إلى أمره ونهيه, القائمون على طاعته, الواقفون عند
حدوده. وبشِّر -أيها النبي- هؤلاء المؤمنين المتصفين بهذه الصفات برضوان
الله وجنته.
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
ما كان ينبغي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا أن يدعوا
بالمغفرة للمشركين, ولو كانوا ذوي قرابة لهم مِن بعد ما ماتوا على شركهم
بالله وعبادة الأوثان, وتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم لموتهم على الشرك,
والله لا يغفر للمشركين, كما قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ) وكما قال سبحانه: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ
حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ).
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ
وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ
تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
وما كان استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه المشرك, إلا عن موعدة وعدها
إياه, وهي قوله: "سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا"
. فلما تبيَّن لإبراهيم أن أباه عدو لله ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير,
وأنه سيموت كافرًا, تركه وترك الاستغفار له, وتبرأ منه. إن إبراهيم عليه
السلام عظيم التضرع لله, كثير الصفح عما يصدر مِن قومه من الزلات.
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى
يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(115)
وما كان الله ليضلَّ قومًا بعد أن مَنَّ عليهم بالهداية والتوفيق حتى
يبيِّن لهم ما يتقونه به, وما يحتاجون إليه في أصول الدين وفروعه. إن الله
بكل شيء عليم, فقد علَّمكم ما لم تكونوا تعلمون, وبيَّن لكم ما به
تنتفعون, وأقام الحجة عليكم بإبلاغكم رسالته.
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ
وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)
إن لله مالك السموات والأرض وما فيهن لا شريك له في الخلق والتدبير
والعبادة والتشريع, يحيي مَن يشاء ويميت مَن يشاء, وما لكم مِن أحد غير
الله يتولى أموركم, ولا نصير ينصركم على عدوكم.
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ
يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
لقد وفَّق الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإنابة إليه وطاعته,
وتاب الله على المهاجرين الذين هجروا ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام,
وتاب على أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا معه لقتال
الأعداء في غزوة (تبوك) في حرٍّ شديد, وضيق من الزاد والظَّهْر, لقد تاب
الله عليهم من بعد ما كاد يَميل قلوب بعضهم عن الحق, فيميلون إلى الدَّعة
والسكون, لكن الله ثبتهم وقوَّاهم وتاب عليهم, إنه بهم رؤوف رحيم. ومن
رحمته بهم أنْ مَنَّ عليهم بالتوبة, وقَبِلَها منهم, وثبَّتهم عليها.
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ
الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ
لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
وكذلك تاب الله على الثلاثة الذين خُلِّفوا من الأنصار -وهم كعب بن مالك
وهلال بن أُميَّة ومُرَارة بن الربيع- تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم, وحزنوا حزنًا شديدًا, حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بسَعَتها غمًّا
وندمًا بسبب تخلفهم, وضاقت عليهم أنفسهم لِمَا أصابهم من الهم, وأيقنوا أن
لا ملجأ من الله إلا إليه, وفَّقهم الله سبحانه وتعالى إلى الطاعة والرجوع
إلى ما يرضيه سبحانه. إن الله هو التواب على عباده, الرحيم بهم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، امتثلوا أوامر الله
واجتنبوا نواهيه في كل ما تفعلون وتتركون, وكونوا مع الصادقين في أَيمانهم
وعهودهم, وفي كل شأن من شؤونهم.
مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ
يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ
نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا
مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ
الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ
بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
ما كان ينبغي لأهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن حولهم من سكان
البادية أن يتخلَّفوا في أهلهم ودورهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم,
ولا يرضوا لأنفسهم بالراحة والرسول صلى الله عليه وسلم في تعب ومشقة; ذلك
بأنهم لا يصيبهم في سفرهم وجهادهم عطش ولا تعب ولا مجاعة في سبيل الله,
ولا يطؤون أرضًا يُغضِبُ الكفارَ وطؤهم إياها, ولا يصيبون مِن عدو الله
وعدوهم قتلا أو هزيمةً إلا كُتِب لهم بذلك كله ثواب عمل صالح. إن الله لا
يضيع أجر المحسنين.
وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ
وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة في سبيل الله, ولا يقطعون واديًا في
سيرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاده, إلا كُتِب لهم أجر
عملهم; ليجزيهم الله أحسن ما يُجْزَون به على أعمالهم الصالحة.
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ (122)
وما كان ينبغي للمؤمنين أن يخرجوا جميعًا لقتال عدوِّهم, كما لا يستقيم
لهم أن يقعدوا جميعًا, فهلا خرج من كل فرقة جماعة تحصل بهم الكفاية
والمقصود; وذلك ليتفقه النافرون في دين الله وما أنزل على رسوله, وينذروا
قومهم بما تعلموه عند رجوعهم إليهم, لعلهم يحذرون عذاب الله بامتثال
أوامره واجتناب نواهيه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ
الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، ابدؤوا بقتال الأقرب
فالأقرب إلى دار الإسلام من الكفار, وليجد الكفار فيكم غِلْظة وشدة,
واعلموا أن الله مع المتقين بتأييده ونصره.
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ
زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ
إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
وإذا ما أنزل الله سورة من سور القرآن على رسوله, فمِن هؤلاء المنافقين من
يقول: -إنكارًا واستهزاءً- أيُّكم زادته هذه السورة تصديقًا بالله وآياته؟
فأما الذين آمنوا بالله ورسوله فزادهم نزول السورة إيمانًا بالعلم بها
وتدبرها واعتقادها والعمل بها, وهم يفرحون بما أعطاهم الله من الإيمان
واليقين.
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
وأما الذين في قلوبهم نفاق وشك في دين الله, فإن نزول السورة يزيدهم
نفاقًا وشكًا إلى ما هم عليه من قبلُ من النفاق والشك, وهلك هؤلاء وهم
جاحدون بالله وآياته.
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
أولا يرى المنافقون أن الله يبتليهم بالقحط والشدة, وبإظهار ما يبطنون من
النفاق مرة أو مرتين في كل عام؟ ثم هم مع ذلك لا يتوبون مِن كفرهم
ونفاقهم, ولا هم يتعظون ولا يتذكرون بما يعاينون من آيات الله.
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ
يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)
وإذا ما أُنزلت سورة تغَامَزَ المنافقون بالعيون إنكارًا لنزولها رية
وغيظًا; لِمَا نزل فيها مِن ذِكْر عيوبهم وأفعالهم, ثم يقولون: هل يراكم
من أحد إن قمتم من عند الرسول؟ فإن لم يرهم أحد قاموا وانصرفوا من عنده
عليه الصلاة والسلام مخافة الفضيحة. صرف الله قلوبهم عن الإيمان; بسبب
أنهم لا يفهمون ولا يتدبرون.
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
لقد جاءكم أيها المؤمنون رسول من قومكم, يشق عليه ما تلقون من المكروه
والعنت, حريص على إيمانكم وصلاح شأنكم, وهو بالمؤمنين كثير الرأفة والرحمة.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
فإن أعرض المشركون والمنافقون عن الإيمان بك -أيها الرسول- فقل لهم: حسبي
الله, يكفيني جميع ما أهمَّني, لا معبود بحق إلا هو, عليه اعتمدت, وإليه
فَوَّضْتُ جميع أموري; فإنه ناصري ومعيني, وهو رب العرش العظيم, الذي هو
أعظم المخلوقات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
m!do 2010
مراقب عام
مراقب عام
m!do 2010


دولتي : مصر
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 342
نقاط : 574
السٌّمعَة : -1
العمر : 25
السمك القط
تاريخ الميلاد : 22/02/1999

 سلسلة تفسير القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة تفسير القرآن الكريم    سلسلة تفسير القرآن الكريم I_icon_minitimeالأحد أغسطس 22, 2010 10:09 pm

سورة يونس الآيات (54:1 )


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)


(الر) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.


هذه آيات الكتاب المحكم الذي أحكمه الله وبيَّنه لعباده.


أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ
أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ
صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ
مُبِينٌ (2)


أكان أمرًا عجبًا للناس إنزالنا الوحي بالقرآن على رجل منهم ينذرهم عقاب
الله, ويبشِّر الذين آمنوا بالله ورسله أن لهم أجرًا حسنًا بما قدَّموا من
صالح الأعمال؟ فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي الله وتلاه
عليهم, قال المنكرون: إنَّ محمدًا ساحر, وما جاء به سحر ظاهر البطلان.


إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا
مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3)


إن ربكم الله الذي أوجد السموات والأرض في ستة أيام, ثم استوى -أي علا
وارتفع- على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته, يدبر أمور خلقه, لا يضادُّه
في قضائه أحد, ولا يشفع عنده شافع يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن له
بالشفاعة, فاعبدوا الله ربكم المتصف بهذه الصفات, وأخلصوا له العبادة.
أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الآيات والحجج؟


إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ
حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)


إلى ربكم معادكم يوم القيامة جميعًا, وهذا وعد الله الحق, هو الذي يبدأ
إيجاد الخلق ثم يعيده بعد الموت, فيوجده حيًا كهيئته الأولى, ليجزي مَن
صَدَّق الله ورسوله, وعمل الأعمال الحسنة أحسن الجزاء بالعدل. والذين
جحدوا وحدانية الله ورسالة رسوله لهم شراب من ماء شديد الحرارة يشوي
الوجوه ويقطِّع الأمعاء, ولهم عذاب موجع بسبب كفرهم وضلالهم.


هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ
مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ
اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (5)


الله هو الذي جعل الشمس ضياء, وجعل القمر نورًا, وقدَّر القمر منازل,
فبالشمس تعرف الأيام, وبالقمر تعرف الشهور والأعوام, ما خلق الله تعالى
الشمس والقمر إلا لحكمة عظيمة, ودلالة على كمال قدرة الله وعلمه, يبيِّن
الحجج والأدلة لقوم يعلمون الحكمة في إبداع الخلق.


إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)


إن في تعاقب الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض من عجائب الخلق
وما فيهما من إبداع ونظام, لأدلة وحججًا واضحة لقوم يخشون عقاب الله طه
وعذابه.


إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا
غَافِلُونَ (7)


إن الذين لا يطمعون في لقائنا في الآخرة للحساب, وما يتلوه من الجزاء على
الأعمال لإنكارهم البعث, ورضوا بالحياة الدنيا عوضًا عن الآخرة, وركنوا
إليها, والذين هم عن آياتنا الكونية والشرعية ساهون.


أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (Cool


أولئك مقرُّهم نار جهنم في الآخرة; جزاء بما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا.


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ
بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ (9)


إن الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات يدلهم ربهم إلى طريق الجنة
ويوفقهم إلى العمل الموصل إليه؛ بسبب إيمانهم ، ثم يثيبهم بدخول الجنة
وإحلال رضوانه عليهم, تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم.


دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ
وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)


دعاؤهم في الجنة التسبيح (سبحانك اللهم)، وتحية الله وملائكته لهم, وتحية
بعضهم بعضًا في الجنة (سلام)، وآخر دعائهم قولهم: "الحمد لله رب العالمين"
أي: الشكر والثناء لله خالق المخلوقات ومربِّيها بنعمه.


وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ
بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)


ولو يعجِّل الله للناس إجابة دعائهم في الشر كاستعجاله لهم في الخير
بالإجابة لهلكوا, فنترك الذين لا يخافون عقابنا, ولا يوقنون بالبعث
والنشور في تمرُّدهم وعتوِّهم, يترددون حائرين.


وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً
أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ
يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)


وإذا أصاب الإنسانَ الشدةُ استغاث بنا في كشف ذلك عنه مضطجعًا لجنبه أو
قاعدًا أو قائمًا, على حسب الحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضرِّ به.
فلما كشفنا عنه الشدة التي أصابته استمرَّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه
الضر, ونسي ما كان فيه من الشدة والبلاء, وترك الشكر لربه الذي فرَّج عنه
ما كان قد نزل به من البلاء, كما زُيِّن لهذا الإنسان استمراره على جحوده
وعناده بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر, زُيِّن للذين أسرفوا في
الكذب على الله وعلى أنبيائه ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك به.


وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا
كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)


ولقد أهلكنا الأمم التي كذَّبت رسل الله من قبلكم -أيها المشركون بربهم-
لمَّا أشركوا, وجاءتهم رسلهم من عند الله بالمعجزات الواضحات والحجج التي
تبين صدق مَن جاء بها, فلم تكن هذه الأمم التي أهلكناها لتصدق رسلها
وتنقاد لها, فاستحقوا الهلاك, ومثل ذلك الإهلاك نجزي كل مجرم متجاوز حدود
الله.


ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)


ثم جعلناكم -أيها الناس- خَلَفًا في الأرض من بعد القرون المُهْلَكة, لننظر كيف تعملون: أخيرًا أم شرًا, فنجازيكم بذلك حسب عملكم.


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ
مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ
إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)


وإذا تتلى على المشركين آيات الله التي أنزلناها إليك -أيها الرسول-
واضحات, قال الذين لا يخافون الحساب, ولا يرجون الثواب, ولا يؤمنون بيوم
البعث والنشور: ائت بقرآن غير هذا, أو بدِّل هذا القرآن: بأن تجعل الحلال
حرامًا, والحرام حلالا والوعد وعيدًا, والوعيد وعدًا, وأن تُسْقط ما فيه
مِن عيب آلهتنا وتسفيه أحلامنا, قل لهم -أيها الرسول- : إن ذلك ليس إليَّ,
وإنما أتبع في كل ما آمركم به وأنهاكم عنه ما ينزله عليَّ ربي ويأمرني به,
إني أخشى من الله -إن خالفت أمره- عذاب يوم عظيم وهو يوم القيامة.


قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ
فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16)


قل لهم -أيها الرسول-: لو شاء الله ما تلوت هذا القرآن عليكم, ولا أعلمكم
الله به, فاعلموا أنه الحق من الله, فإنكم تعلمون أنني مكثت فيكم زمنًا
طويلا من قبل أن يوحيه إليَّ ربي, ومن قبل أن أتلوه عليكم, أفلا تستعملون
عقولكم بالتدبر والتفكر؟


فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)


لا أحد أشد ظلمًا ممن اختلق على الله الكذب أو كذَّب بآياته إنه لا ينجح مَن كذَّب أنبياء الله ورسله, ولا ينالون الفلاح.


وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ
وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ
اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)


ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله ما لا يضرهم شيئًا, ولا ينفعهم في
الدنيا والآخرة, ويقولون: إنما نعبدهم ليشفعوا لنا عند الله, قل لهم -أيها
الرسول- : أتخبرون الله تعالى بشيء لا يعلمه مِن أمر هؤلاء الشفعاء في
السموات أو في الأرض؟ فإنه لو كان فيهما شفعاء يشفعون لكم عنده لكان أعلم
بهم منكم, فالله تعالى منزَّه عما يفعله هؤلاء المشركون من إشراكهم في
عبادته ما لا يضر ولا ينفع.


وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (19)


كان الناس على دين واحد وهو الإسلام, ثم اختلفوا بعد ذلك, فكفر بعضهم,
وثبت بعضهم على الحق. ولولا كلمة سبقت من الله بإمهال العاصين وعدم
معاجلتهم بذنوبهم لقُضِيَ بينهم: بأن يُهْلك أهل الباطل منهم, وينجي أهل
الحق.


وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ
إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ
الْمُنْتَظِرِينَ (20)


ويقول هؤلاء الكفرة المعاندون: هلاَّ أُنزل على محمد علم ودليل, وآية حسية
من ربه نعلم بها أنه على حق فيما يقول, فقل لهم -أيها الرسول-: لا يعلم
الغيب أحد إلا الله, فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل, فانتظروا -أيها القوم-
قضاء الله بيننا وبينكم بتعجيل عقوبته للمبطل منا, ونصرة صاحب الحق, إني
منتظر ذلك.


وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ
إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ
رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)


وإذا أذقنا المشركين يسرًا وفرجًا ورخاءً بعد عسر وشدة وكرب أصابهم, إذا
هم يكذِّبون, ويستهزئون بآيات الله, قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين
المستهزئين: الله أسرع مكرًا واستدراجًا وعقوبة لكم. إن حَفَظَتَنا الذين
نرسلهم إليكم يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا, ثم نحاسبكم على ذلك.


هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا
كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا
بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ
الشَّاكِرِينَ (22)


هو الذي يسيِّركم -أيها الناس- في البر على الدواب وغيرها, وفي البحر في
السُّفُن, حتى إذا كنتم فيها وجرت بريح طيبة, وفرح ركاب السفن بالريح
الطيبة, جاءت هذه السفنَ ريحٌ شديدة, وجاء الركابَ الموجُ (وهو ما ارتفع
من الماء) من كل مكان, وأيقنوا أن الهلاك قد أحاط بهم, أخلصوا الدعاء لله
وحده, وتركوا ما كانوا يعبدون, وقالوا: لئن أنجيتنا من هذه الشدة التي نحن
فيها لنكونن من الشاكرين لك على نِعَمك.


فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ
مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ
فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)


فلما أنجاهم الله من الشدائد والأهوال إذا هم يعملون في الأرض بالفساد
وبالمعاصي. يا أيها الناس إنما وَبالُ بغيكم راجع على أنفسكم, لكم في
الحياة الدنيا الزائلة, ثم إلينا مصيركم ومرجعكم, فنخبركم بجميع أعمالكم,
ونحاسبكم عليها.


إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا
لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ
بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)


إنما مثل الحياة الدنيا وما تتفاخرون به فيها من زينة وأموال, كمثل مطر
أنزلناه من السماء إلى الأرض, فنبتت به أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض
مما يقتات به الناس من الثمار, وما تأكله الحيوانات من النبات, حتى إذا
ظهر حُسْنُ هذه الأرض وبهاؤها, وظن أهل هذه الأرض أنهم قادرون على حصادها
والانتفاع بها, جاءها أمرنا وقضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات, والزينة
إما ليلا وإما نهارًا, فجعلنا هذه النباتات والأشجار محصودة مقطوعة لا شيء
فيها, كأن لم تكن تلك الزروع والنباتات قائمة قبل ذلك على وجه الأرض,
فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهَون به من دنياكم وزخارفها فيفنيها الله
ويهلكها. وكما بيَّنا لكم -أيها الناس- مَثَلَ هذه الدنيا وعرَّفناكم
بحقيقتها, نبيِّن حججنا وأدلتنا لقوم يتفكرون في آيات الله, ويتدبرون ما
ينفعهم في الدنيا والآخرة.


وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)


والله يدعوكم إلى جناته التي أعدها لأوليائه, ويهدي مَن يشاء مِن خَلْقه, فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم, وهو الإسلام.


لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ
قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (26)


للمؤمنين الذين أحسنوا عبادة الله فأطاعوه فيما أمر ونهى, الجنةُ, وزيادة
عليها, وهي النظر إلى وجه الله تعالى في الجنة, والمغفرةُ والرضوان, ولا
يغشى وجوههم غبار ولا ذلة, كما يلحق أهل النار. هؤلاء المتصفون بهذه
الصفات هم أصحاب الجنة ماكثون فيها أبدًا.


وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا
وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا
أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)


والذين عملوا السيئات في الدنيا فكفروا وعصَوا الله لهم جزاء أعمالهم
السيئة التي عملوها بمثلها من عقاب الله في الآخرة, وتغشاهم ذلَّة وهوان,
وليس لهم مِن عذاب الله مِن مانع يمنعهم إذا عاقبهم, كأنما أُلبست وجوههم
طائفة من سواد الليل المظلم. هؤلاء هم أهل النار ماكثون فيها أبدًا.


وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا
مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ
شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)


واذكر -أيها الرسول- يوم نحشر الخلق جميعا للحساب والجزاء, ثم نقول للذين
أشركوا بالله: الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم الذين كنتم تعبدونهم من دون
الله حتى تنظروا ما يُفْعل بكم, فَفَرَّقْنا بين المشركين ومعبوديهم,
وتبرَّأ مَن عُبِدُوا مِن دون الله ممن كانوا يعبدونهم, وقالوا للمشركين:
ما كنتم إيانا تعبدون في الدنيا.


فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)


فكفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم, إننا لم نكن نعلم ما كنتم تقولون وتفعلون, ولقد كنَّا عن عبادتكم إيانا غافلين, لا نشعر بها.


هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ
مَوْلاهُمْ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)


في ذلك الموقف للحساب تتفقد كل نفس أحوالها وأعمالها التي سلفت وتعاينها,
وتجازى بحسبها: إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر, ورُدَّ الجميع إلى الله
الحكم العدل, فأُدخِلَ أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النار النار, وذهب عن
المشركين ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.


قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ
السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ
فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31)


قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: مَن يرزقكم من السماء, بما يُنزله من
المطر, ومن الأرض بما ينبته فيها من أنواع النبات والشجر تأكلون منه أنتم
وأنعامكم؟ ومَن يملك ما تتمتعون به أنتم وغيركم من حواسِّ السمع والأبصار؟
ومن ذا الذي يملك الحياة والموت في الكون كلِّه, فيخرج الأحياء والأموات
بعضها من بعض فيما تعرفون من المخلوقات, وفيما لا تعرفون؟ ومَن يدبِّر أمر
السماء والأرض وما فيهن, وأمركم وأمر الخليقة جميعًا؟ فسوف يجيبونك بأن
الذي يفعل ذلك كله هو الله, فقل لهم: أفلا تخافون عقاب الله إن عبدتم معه
غيره؟


فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ (32)


فذلكم الله ربكم هو الحق الذي لا ريب فيه, المستَحِق للعبادة وحده لا شريك
له, فأي شيء سوى الحق إلا الضلال؟, فكيف تُصْرَفون عن عبادته إلى عبادة ما
سواه؟


كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)


كما كفر هؤلاء المشركون واستمرُّوا على شركهم, حقت كلمة ربك وحكمه وقضاؤه
على الذين خرجوا عن طاعة ربهم إلى معصيته وكفروا به أنَّهم لا يصدقون
بوحدانية الله, ولا بنبوة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم, ولا يعملون
بهديه


قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ
(34)


قل لهم -أيها الرسول- : هل من آلهتكم ومعبوداتكم مَن يبدأ خَلْق أي شيء من
غير أصل, ثم يفنيه بعد إنشائه, ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيه؟ فإنهم لا
يقدرون على دعوى ذلك, قل -أيها الرسول-: الله تعالى وحده هو الذي ينشئ
الخلق ثم يفنيه ثم يعيده, فكيف تنصرفون عن طريق الحق إلى الباطل, وهو
عبادة غير الله؟


قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ
يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ
يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ (35)


قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: هل مِن شركائكم مَن يرشد إلى الطريق
المستقيم؟ فإنهم لا يقدرون على ذلك, قل لهم: الله وحده يهدي الضال عن
الهدى إلى الحق. أيهما أحق بالاتباع: مَن يهدي وحده للحق أم من لا يهتدي
لعدم علمه ولضلاله, وهي شركاؤكم التي لا تَهدي ولا تَهتدي إلا أن تُهدَى؟
فما بالكم كيف سوَّيتم بين الله وخلقه؟ وهذا حكم باطل.


وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي
مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)


وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين في جعلهم الأصنام آلهة واعتقادهم بأنها
تقرِّب إلى الله إلا تخرصًا وظنًا, وهو لا يغني من اليقين شيئًا. إن الله
عليم بما يفعل هؤلاء المشركون من الكفر والتكذيب.


وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ
فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)


وما كان يتهيَّأ لأحد أن يأتي بهذا القرآن مِن عند غير الله, لأنه لا يقدر
على ذلك أحد من الخلق, ولكن الله أنزله مصدِّقا للكتب التي أنزلها على
أنبيائه; لأن دين الله واحد, وفي هذا القرآن بيان وتفصيل لما شرعه الله
لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, لا شك في أن هذا القرآن موحىً من رب
العالمين.


أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا
مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)


بل أيقولون: إن هذا القرآن افتراه محمد من عند نفسه؟ فإنهم يعلمون أنه بشر
مثلهم!! قل لهم -أيها الرسول-: فأتوا أنتم بسورة واحدة من جنس هذا القرآن
في نظمه وهدايته, واستعينوا على ذلك بكل مَن قَدَرْتم عليه من دون الله من
إنس وجن, إن كنتم صادقين في دعواكم.


بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ
تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)


بل سارَعوا إلى التكذيب بالقرآن أول ما سمعوه, قبل أن يتدبروا آياته,
وكفروا بما لم يحيطوا بعلمه من ذكر البعث والجزاء والجنة والنار وغير ذلك,
ولم يأتهم بعدُ حقيقة ما وُعِدوا به في الكتاب. وكما كذَّب المشركون بوعيد
الله كذَّبت الأمم التي خلت قبلهم, فانظر -أيها الرسول- كيف كانت عاقبة
الظالمين؟ فقد أهلك الله بعضهم بالخسف, وبعضهم بالغرق, وبعضهم بغير ذلك.


وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)


ومِن قومك -أيها الرسول- مَن يصدِّق بالقرآن, ومنهم من لا يصدِّق به حتى
يموت على ذلك ويبعث عليه, وربك أعلم بالمفسدين الذين لا يؤمنون به على وجه
الظلم والعناد والفساد, فيجازيهم على فسادهم بأشد العذاب.


وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ
بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)


وإن كذَّبك -أيها الرسول- هؤلاء المشركون فقل لهم: لي ديني وعملي, ولكم
دينكم وعملكم, فأنتم لا تؤاخَذون بعملي, وأنا لا أؤاخَذ بعملكم.


وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ (42)


ومِنَ الكفار مَن يسمعون كلامك الحق, وتلاوتك القرآن, ولكنهم لا يهتدون.
أفأنت تَقْدر على إسماع الصم؟ فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء
الله هدايتهم; لأنهم صمٌّ عن سماع الحق, لا يعقلونه.


وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ (43)


ومِنَ الكفار مَن ينظر إليك وإلى أدلة نبوتك الصادقة, ولكنه لا يبصر ما
آتاك الله من نور الإيمان, أفأنت -أيها الرسول- تقدر على أن تخلق للعمي
أبصارًا يهتدون بها؟ فكذلك لا تقدر على هدايتهم إذا كانوا فاقدي البصيرة,
وإنما ذلك كلُّه لله وحده.


إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)


إن الله لا يظلم الناس شيئًا بزيادة في سيئاتهم أو نقص من حسناتهم, ولكن
الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والمعصية ومخالفة أمر الله ونهيه.


وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ
النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)


ويوم يَحشر الله هؤلاء المشركين يوم البعث والحساب, كأنهم قبل ذلك لم
يمكثوا في الحياة الدنيا إلا قدر ساعة من النهار, يعرف بعضهم بعضًا كحالهم
في الدنيا, ثم انقطعت تلك المعرفة وانقضت تلك الساعة. قد خسر الذين كفروا
وكذَّبوا بلقاء الله وثوابه وعقابه, وما كانوا موفَّقين لإصابة الرشد فيما
فعلوا.


وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ
فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ
(46)


وإمَّا نرينَّك -أيها الرسول- في حياتك بعض الذي نَعِدُهم من العقاب في
الدنيا, أو نتوفينك قبل أن نريك ذلك فيهم, فإلينا وحدنا يرجع أمرهم في
الحالتين, ثم الله شهيد على أفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا, لا
يخفى عليه شيء منها, فيجازيهم بها جزاءهم الذي يستحقونه.


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47)


ولكل أمة خَلَتْ قبلكم -أيها الناس- رسول أرسلتُه إليهم, كما أرسلت محمدًا
إليكم يدعو إلى دين الله وطاعته, فإذا جاء رسولهم في الآخرة قُضِيَ حينئذ
بينهم بالعدل, وهم لا يُظلمون مِن جزاء أعمالهم شيئًا.


وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)


ويقول المشركون من قومك -أيها الرسول-: متى قيام الساعة إن كنت أنت ومَن تبعك من الصادقين فيما تَعِدوننا به؟


قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ
لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ
سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49)


قل لهم -أيها الرسول-: لا أستطيع أن أدفع عن نفسي ضرًا, ولا أجلب لها
نفعًا, إلا ما شاء الله أن يدفع عني مِن ضرٍّ أو يجلب لي من نفع. لكل قوم
وقت لانقضاء مدتهم وأجلهم, إذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم, فلا
يستأخرون عنه ساعة فيُمْهلون, ولا يتقدم أجلهم عن الوقت المعلوم.


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)


قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أخبروني إن أتاكم عذاب الله ليلا أو نهارًا, فأي شيء تستعجلون أيها المجرمون بنزول العذاب؟


أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أَالآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)


أبعدما وقع عذاب الله بكم -أيها المشركون- آمنتم في وقت لا ينفعكم فيه
الإيمان؟ وقيل لكم حينئذ: آلآن تؤمنون به, وقد كنتم من قبل تستعجلون به؟


ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)


ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله: تجرَّعوا عذاب الله الدائم لكم
أبدًا, فهل تُعاقَبون إلا بما كنتم تعملون في حياتكم من معاصي الله؟


وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)


ويستخبرك هؤلاء المشركون من قومك -أيها الرسول- عن العذاب يوم القيامة,
أحقٌّ هو؟ قل لهم -أيها الرسول-: نعم وربي إنه لحق لا شك فيه, وما أنتم
بمعجزين الله أن يبعثكم ويجازيكم, فأنتم في قبضته وسلطانه.


وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ
وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54)


ولو أن لكل نفس أشركت وكفرت بالله جميع ما في الأرض, وأمكنها أن تجعله
فداء لها من ذلك العذاب لافتدت به, وأخفى الذين ظلموا حسرتهم حين أبصروا
عذاب الله واقعا بهم جميعًا, وقضى الله عز وجل بينهم بالعدل, وهم لا
يُظلَمون؛ لأن الله تعالى لا يعاقب أحدا إلا بذنبه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://WWW.VPASV.COM
 
سلسلة تفسير القرآن الكريم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 3انتقل الى الصفحة : 1, 2, 3  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير القرآن الكريم لابن كثير للمبايل
»  تحميل القرآن الكريم كاملا بصوت الشيخ محمد عبد الكريم بجوده Ripped @ 128 kbps وبحجم 1.2 جيجا
» ][][§¤°^°¤§][ سلسلة أسماء سور القرآن][§¤°^°¤§][][
» تفسير القران الكريم:: للشيخ الشعراوى
» فسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (ط دار طيبة)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات Vpas :: قسم المنتدى العام :: القسم الإسلامي-
انتقل الى:  

 جميع الحقوق محفوضة لابداع نتebda3net©phpBB | منتدى مجاني | منتدى مجاني للدعم و المساعدة | التبليغ عن محتوى مخالف | آخر المواضيع